ما هو التجريد؟ سؤال يتبادر إلى ذهن معظم الناس غير المتخصصين في مجال الفن، وبسبب عدم معرفة معظمهم بماهية هذا الفن الجميل فإنهم يحجمون عن تذوق اللوحة التجريدية أو العمل النحتي التجريدي، وذلك لخشيتهم من عدم فهم ما ينظرون إليه، وهذا أمر بدهي تماما ذلك أن الإنسان بطبيعته ينفر مما يجهله ويبتعد عما لا يفهمه ولايدركه.
ولا يعلم معظم الجمهور أنه لا يوجد معيار محدد لقياس جمالية العمل الفني التجريدي أو جودته إلا بمدى إعجاب الناس به، فهو متروك للمتلقي، كالموسيقا تماما، فإما أن نستمتع بسماعها أو لا نحبها؛ بعض الناس يحبها صاخبة أحيانا وبعضهم يحبها هادئة.
وهكذا الفن التجريدي، هو أشبه بموسيقا بصرية على حد تعبير رائد المدرسة التجريدية فاسيلي كاندينسكي في إجابته عن سؤال أحدهم عمّا يرسم، فأجاب: "إنني أرسم الموسيقا".
معنى التجريد
ومن هنا يمكننا القول إن التجريد في فن الشكل هو أقرب ما يكون إلى سماع الموسيقا الخالية من أي غناء مرافق. ويُترك الأمر للمتلقي كي يقرر فيما إذا كانت جيدة أم لا، أو إذا تركت في نفسه أثرا أو حركت لديه بعض المشاعر، أو إن استشعر شيئا ما يتولد في خياله.
وحتى نستطيع الفهم بشكل أعمق، لنرى ماذا تعني كلمة التجريد:
-
في اللغة
إذا قلنا: "لم يكن من السهل تجريده من السلاح". فهذا يعني: نزع سلاحه منه.
والتجريد في علم الصرف يعني: خلو الكلمات من الزوائد.
وفي النحو: تعرية الكلمة من العوامل اللفظية.
-
التجريد فكريا
هو عملية فكرية يعزل فيها الإنسان صفة أو علاقة عزلا ذهنيا ويحصر فيها التفكير.
-
تعريف التجريد اصطلاحا عند بعض النقاد
- عند عفيف بهنسي في كتابه (الفن في أوروبا من عصر النهضة إلى اليوم)، يقول: "التجريد هو استخلاص الجوهر من الشكل الحقيقي".
- التجريد في الفكر الفني المعاصر بحسب محمود أمهز في كتابه (الفن التشكيلي المعاصر)، هو رفض الصورة والتمثيلية الصورية ورفض التقيد بالمنظور أو الطبيعة التي بات ضروريا الابتعاد عنها أو السيطرة عليها بوساطة إشارات بدلا من الغوص فيها.
- يقول الفنان التشكيلي التجريدي السوري عبد الله مراد: "الفن برأيي لعب مباراة مع المجهول، وبحث عن الجوهر فيما وراء الإحساس، وهو عمل مليء بالألغاز المحبوكة بتأثير التجاذب والتنافر بين البقع والخطوط والأشكال، ديناميكية العمل تنتج من تأثير هذه التصادمات ما بين العقل والمنطق وما بين الانفعال العاطفي المتأجج، بشكل عام لا أحب أن أحمل اللوحة أكثر مما تحتمله من سرد وأفكار، إنها هكذا شيء تحقق وجوده في لحظة ما نتيجة صراع عبثي مع الخامات والأدوات"
- بحسب موسوعة الفن العالمي، فإن التجريد هو: ابتعاد الفنان عن تمثيل الأبعاد الطبيعية في الأشكال والاتجاهات واستخلاص الجوهر من هذه الأشكال. والتخلص من كل تأثيرات الواقع هو هدف التجريد الأول.
في الواقع، لا يوجد تعريف شامل أجمع عليه النقاد لوصف فن التجريد، ويمكننا القول إذا أردنا تلخيص آراء النقاد، إن الفن التجريدي هو:
"المدرسة الفنية البصرية التي لا تجعل من الأشكال المرئية أحد عناصرها، حيث إنها مجموعة من الألوان والخطوط والتكوينات المبهمة والتي يراد منها استخلاص جوهر الشيء".
كما أن فلاسفة الفن أدلوا بدلوهم وتعددت أساليبهم وطرقهم في التعبير عن هذه المدرسة الفنية التشكيلية التي ما زال الجدل حولها قائما إلى يومنا هذا عما إذا كانت فنا حقيقيا أم لا، حيث لا يزال بعض النقاد يتبنون نظرية المحاكاة.
وحتى الآن فإن معظم الجماهير لا تستطيع أن ترى العمل التجريدي إلا عبارة عن مجموعة من البقع اللونية والخطوط العشوائية والأشكال التي لا معنى لها، وذلك يرجع حتما إلى عدم اطّلاعهم على أسس وتاريخ هذا الفن وكيف نشأ.
عوامل نشوء التجريد في الفن التشكيلي
كان للصراع الذي بدأ في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بين مؤيدي المدرسة الكلاسيكية وقواعدها المتبعة وبين رواد الرومانسية ومن بعدهم الانطباعيون، دور في بروز التجريدية. حيث إن الرومانسيين أولوا اهتمامهم الأكبر في العمل الفني لما يعتمل في نفس الفنان من مشاعر وأحاسيس وحيث إن الانطباعيين أولوا الاهتمام الأكبر للضوء واللون على حساب الخط وعلاقة الألوان بعضها ببعض فقد تمردوا بذلك على قواعد المدرسة الكلاسيكية التي كانت صارمة فيما يتعلق بكيفية بناء اللوحة وأهمية الخط والمنظور وتدرج اللون.
وهكذا فإن الانطباعيين كانوا بداية الثورة الحقيقية على المدرسة الكلاسيكية وفتحت الباب على مصراعيه للتجريب فأصبح الفنان يتمتع بالحرية الكاملة لكي يقوم برسم ما يشاء أمام لوحته البيضاء.
فظهر التكعيبيون والسورياليون والوحشيون والعديد من المدارس التشكيلية الحديثة الأخرى، ومن بينها التجريدية والفنانون التجريديون الذين أحدثوا صدمة لدى الجمهور ما بين متعجّب ومعجَب، فقد كان لهم فلسفتهم ورؤيتهم تجاه العمل الفني الذي يجب أن يكون معبرا عما يجول في نفس الفنان من دون أن يكون صريحا واضحا.
سمات التجربة التجريدية
يمكننا القول إن التجريديين جمعوا ما بين رؤية الرومانسيين من حيث نقل الانفعالات عن طريق الرسم، وبين الانطباعيين الذين آثروا اللون على الخط. فقد جمع التجريد ما بين اللون والخط وأهمل البعد الثالث تماما، فأصبحت اللوحة ذات قيمة فنية مستقلة بذاتها لا يمكن إخضاعها لأي من قواعد الفن. فهي تسجيل للحظة معينة، وفكرة معينة، بحالة معينة، وهذا ما أربك المتلقي حيث إنه بدا تائها ما بين عدم فهمه لما يرى وعدم قدرته على إدراك ما يريد الفنان أن يحكيه من خلال لوحته. فأخذ النقاد زمام المبادرة لشرح وتفصيل ودراسة طرائق اختيار الألوان والخطوط والأشكال، فأخذت المدرسة التجريدية مكانتها المعتبرة بين مدارس الفن التشكيلي، حيث خضعت الألوان للدراسة وتم اكتشاف مدى تأثير الألوان على النفس البشرية والحالة الذهنية.
وهكذا نرى مدى تشعب الموضوع وتعقده حيث كثر الحديث والجدل حول ماهية الفن وكيف يمكن قياسه وكيف يمكن تذوقه.
إن عظمة الفكرة هي السبب الحقيقي، وكلما كانت التجربة مبتكرة أثارت المزيد والمزيد من الجدل فتتولد الأفكار الجديدة والتي بدورها تولد ابتكارات جديدة.
ونختم بالعبارة الملهمة حقا التي كتبها جوزيف كونراد في المقدمة البليغة لروايته (زنجي النرجس)، إذ يقول في وصف مهمة الفنان إنه: "يقوم بمحاولة تتسم بالإصرار الكامل من أجل إعطاء الكون المنظور أعلى حق له، عن طريق إلقاء الضوء على الحقيقة، الكثيرة والواحدة، الكامنة وراء كل مظهر، فهي محاولة للاهتداء إلى ما هو باق وأساسي. إذن، فالفنان ينشد الحقيقة، شأنه شأن المفكّر أو العالِم".