شهدت القرون السابقة للقرن العشرين ترسيخاً للفن الإسلامي بصورة عامة ضمن مفهوم وفلسفة الإسلام ومنظوره للقيم الجمالية، وكان العمل بالفن لا يتعدى كونه حرفة أو مهنة كفن تطبيقي لا أكثر. وأجمع معظم النقاد على أن النصف الأول من القرن العشرين يعدّ بداية التحول الحقيقية للحركة التشكيلية المعاصرة في سوريا، حيث مرت البلاد بتحولات سياسية واجتماعية واقتصادية كبيرة رافقتها تغيرات في مجالات الثقافة والفكر والفن، ما انعكس بدوره على الفنان التشكيلي السوري ونظرته لنفسه وللعمل الفني كقيمة فنية وجمالية مستقلة بذاتها.
نشأة الحركة التشكيلية السورية
ومما لا شك فيه أن الانتداب الفرنسي كان له دور كبير في تأثر الفنانين السوريين بالفن الأوروبي ومدارسه التشكيلية التي كانت رائجة في ذلك الوقت، وأيضاً أعمال الاستشراقيين التي أحدثت في نفس الفنان العربي عموماً نوعاً من الإعجاب والاندهاش. وقد أتيح للفنانين التشكيليين السوريين السفر إلى أوروبا للدراسة ومن ناحية أخرى فقد تم استقدام فنانين فرنسيين للتدريس في "المعهد الفرنسي للآثار والفنون الإسلامية" الذي أسس عام 1922 وكان مقره قصر العظم بدمشق، كما عملوا في التدريس بالمدارس السورية أيضاً.
ويمكننا القول أن الحركة التشكيلية المعاصرة في سوريا قد بدأت في عشرينيات القرن الماضي على يد مجموعة محدودة من الرواد، وكان من أبرزهم: توفيق طارق- ميشيل كرشة- محمود جلال– ناظم الجعفري... وغيرهم. وكانت الواقعية والتسجيلية والانطباعية هي المدارس الرائجة في ذلك الوقت.
ومع نهاية فترة الانتداب الفرنسي كان الفنانون التشكيليون السوريون قد بدؤوا بالفعل بتجميع بعضهم وإنشاء الجمعيات الفنية التي تبادلوا من خلالها الخبرات والأفكار وخاصة من أولئك الذين تسنى لهم السفر والدراسة خارج القطر، ما ساهم في تطور الحركة التشكيلية في سوريا بشكل متسارع، وأيضاً ساهم في زيادة اهتمام الفنان بكيفية بناء اللوحة وتحديد القيم اللونية والتكوينية للعمل الفني.
كانت أولى هذه الجمعيات "ندوة الأندلس للرسم والأدب" عام 1940، كما أقيم أهم معرض فني في ذلك العام وهو معرض كلية الحقوق، ونذكر أيضاً مرسم "فيرونيز" الذي أسس عام 1941، والجمعية السورية للفنون عام 1950، وأيضاً "جمعية محبي الفنون الجميلة" عام 1952، ورابطة الفنانين السورية للرسم والنحت عام 1969.
ومن خلال تكثيف النشاطات الفنية وزيادة تفاعل الفنانين السوريين بعضهم مع بعض بدأت تتبلور هوية الفنان السوري كفنان أصيل يحمل معه إرثا ثقافيا لا يستهان به .
بعد ذلك، بدأ جيل جديد من الفنانين الذين حاولوا ترسيخ الهوية السورية بالعودة إلى الموروث الثقافي ورفض التقليد الأعمى واتباع صيحات المدارس الغربية التي كان لها أثر كبير من الفنانين حول العالم.
ومن أمثال هؤلاء نذكر: فاتح المدرس– الياس الزيات– أحمد دراق السباعي– نذير نبعة– صبحي شعيب، وآخرون غيرهم.
ومن أهم الأحداث التي أثرت بمسيرة الحركة التشكيلية السورية في تلك الفترة هو إحداث كلية الفنون الجميلة التي بدأت بتخريج فنانين مميزين جدد كل عام ومنهم سيأتي جيل جديد سيكون له الأثر الكبير على الحركة التشكيلية.
كان هم الفنان في تلك الفترة إيجاد هوية فنية سورية معاصرة لها بصمتها الخاصة التي لا تخلو من الحداثة ولا من الأصالة. واستطاع بالفعل عدد لابأس به من الفنانين من تحقيق هذه المعادلة، أمثال الفنان الغني عن التعريف فاتح المدرس وأيضاً الفنان الموهوب لؤي كيالي الذي تتميز أعماله بالخطوط الواضحة ذات الإنحناءات التعبيرية الجميلة والمؤثرة والمساحات اللونية الهادئة والمواضيع الرمزية التي تحاكي الحياة اليومية للإنسان السوري البسيط.
الجيل الجديد للرواد التشكيليين
ويمكننا القول إن الحركة التشكيلية في سوريا قد بدأت بالنضوج فعلاً مع بداية السبعينيات حيث المعارض السنوية وصالات العرض العامة والخاصة، وبدا أن الفنان السوري له حضوره الخاص حتى في خارج البلاد، حيث إن جيل الرواد أفرز جيلاً شاباً يحمل كثيرا من الطموح والرؤية الواضحة لما يريد أن يكون وما يريد أن يقول من خلال أعماله، حيث سعى كل فنان إلى إيجاد أسلوبه الخاص الذي يميزه عن غيره فقد أدى ذلك إلى إغناء التجربة التشكيلية في سوريا رغم أنها لم تخرج غالباً عن إطار الانطباعية والتعبيرية والتجريد التعبيري والواقعية التسجيلية.
من هذا الجيل نذكر على سبيل المثال: الفنان عبد الله مراد- عبد القادر عزوز– وحيد مغاربة– شلبية إبراهيم– إميل فرحة– غسان النعنع- أحمد عنتابي– وغيرهم الكثير .
تميزت العقود الأخيرة من القرن العشرين بزيادة النشاط الفني بشكل ملحوظ مع تنامي دعم خجول من الدولة للفن والفنانين من خلال تنظيم المعارض واقتناء الأعمال الفنية وأرشفتها، ونشاط ملحوظ من قبل أصحاب صالات العرض الخاصة وأيضا اتجاه الفنان السوري للعرض خارج البلاد.
وعلى الرغم من ذلك فإن الفنان التشكيلي السوري كان ولا يزال يعاني من غياب الثقافة الفنية لدى الجمهور حيث يمكننا القول إن جمهور الفن التشكيلي في سوريا كان نخبويا على الدوام، حيث إن المهتمين بالحركة التشكيلية كانوا قلة قليلة جدا ولم يكن عدد الفنانين السوريين بالكبير ومع ذلك ففد استطاعوا بناء شخصية فنية متميزة حقا لها حضورها في المجتمع الثقافي على مستوى العالم .
وإنه لمن المؤكد أننا على أبواب من الإبداع الفني، حيث إن الحرب التي بدأت منذ عام 2011 وحتى الآن كان لها بالغ الأثر في نفس الفنان السوري بعد ما شاهده وعاينه من قتل وتدمير وتهجير.
ختاماً، لا يمكن لأي مراقب إلا أن ينظر بعين الإعجاب بالحركة التشكيلية المعاصرة في سوريا حيث بذل الفنان السوري جهداً ليس بالقليل أبداً لدعم وتطوير الحركة التشكيلية في بلده، وسعى جاهداً لتكوين هوية فنية سورية حداثية، فاشتهرت أعمال الفنانين السوريين بطابعها المميز وغناها فكرياً وجمالياً من خلال أعمال حملت معها موروثاً ثقافياً ثقيلاً ورؤية جمالية خاصة تليق بعراقة البلد الذي صدرت منه.