حملت ثورات الربيع العربي التي انطلقت من تونس في نهاية عام 2010 تغيّرات عدّة في الثقافة والمجتمع في البلاد التي قامت بها هذه الثورات، مع اختلاف حدة ومساحة وشكل تلك التغيرات، خاصةً مع المواقف الحادة لمن يفترض أن يكونوا "نخباً" ثقافية تلعب دوراً في قيادة الشارع الثائر في البلاد العربية المختلفة، والذي تميّز بالأساس أن ثائريه كان معظمهم من الشباب.
خلال السنوات الـ13 الماضية، برزت وجوه جديدة لمثقفين عرب أدّوا دوراً في ما يمكن تسميته بـ "إسقاط أقنعة وكشف معادن وأفكار ومعتقدات مثقفين كُثر، اتخذوا مواقف مؤيدة لأنظمة ديكتاتورية". وبالمقابل، برزت وجوه لأشخاص استغلوا الفوضى وركبوا الموجة وتصدّروا مشهد الثقافة في بلدانهم دون استحقاق.
ظهور هؤلاء الأشخاص إلى جانب المواقف المؤيدة للقتل والديكتاتورية دفعت الناس للسخرية من كلاهما في كثير من الأحيان، والحديث عن السخرية هنا لا يتوقف على القرّاء فقط، بل كذلك يمتد إلى تيّار ثالث من الكتّاب نأى بنفسه عن التيارين المذكورين وسخر منهما في المواقف المعلنة والأعمال الأدبية وغيرها.
"لم نكن أفضل مما صرنا عليه"
أحد هذه الأعمال رواية "بار ليالينا" للكاتب والصحفي المصري أحمد الفخراني والصادرة عن دار الشروق المصرية 2022، وتدور فكرتها حول كومبارس فاشل يحاول إثبات موهبته، إلا أن ما تحمله الرواية في العمق يبدو أكبر من فكرة تُكتب بسطر واحد.
لكن الفخراني يرى أن السخرية حاضرة، إلا أنه حاول الذهاب إلى اتجاه مختلف يشغله بشكل دائم: "زيف الوجود وزيف أصالته، متى يكون وجودنا مزيف ومتى هو وجود أصيل، وفي الحقيقة هو أمر يشغلني في كل أعمالي".
ويضيف في حديث لـ موقع تلفزيون سوريا: "ربما وجدت في الرواية فرصة لأجد الإجابة من خلال المثقفين، هذا الأمر لا ينفي بطبيعة الحال فكرة السخرية منهم. بعد ثورة 25 يناير شعرت بالإحباط بسبب فشلها من جهة ولأننا كمثقفين نتحمل جزءاً من المسؤولية".
ويلفت الفخراني إلى أن "عدداً من الادعاءات لم يكن صحيحاً، وربما لم نكن أقل سوءاً مما أصبحنا عليه، هذا كان مصدراً للإحباط وكان هاجساً يجب أن يظهر في الرواية. وعليه أرى أن الموضوعين (الهاجس والسخرية) مرتبطان ببعضهما البعض".
حاول الفخراني في روايته أن يجيب على عدد من الأسئلة، عن الحياة نفسها ومدى معرفة الشخص لقدراته، وإن كان الحديث عن الثقافة والمثقفين ما بعد الثورة يمتد بالنسبة إليه إلى ما هو أعمق وأبعد من ذلك.
يقول الفخراني: "كانت شعارات الثورة صادقة، لكن أشك في أن محاولات تطبيقها فيما بعد عكست فهما حقيقيا لمعناها، أنا لا أهاجم أحداً هنا، لأني كنت منهم أيضاً، لذا أظن أن هناك نقداً ما أو مراجعة ما لفكرة من تصدر المشهد الثوري وهو لا يقل سوءاً عمن ثار عليه. وهنا أطرح أسئلة حاولت إيجاد إجاباتها بشكل ما: هل الأفكار في البلد حقيقية؟ وهل المثقفون يعرفون ما يناسب الناس من هذه الأفكار؟ هل ثمة مثقفين بشكل حقيقي ممن تصدروا المشهد؟".
يمكن اكتشاف شيء مهم في رواية الفخراني ومن خلال الحوارات التي تدور بين شخصيات "الشلّة" التي تجتمع في البار بشكل يومي: لا شيء في النهاية يبقى كما هو، حتى حال الثقافة في العالم العربي تغيرت من شكل إلى آخر وتغيّرت مهمة المثقف نفسه. ويشتكي كثير من المثقفين العرب من أن الثقافة تحولت إلى "برستيج" وفقدت العمق المطلوب أن تكون عليه، ولذلك تحولت إلى صورة وأموال كما رئيس "مجلة الحقيقة" في الرواية.
على عكس كل الفنون الأخرى باستثناء الشعر، لا يملك الأديب وكذلك القارئ سوى الخيال أمام العمل الفني، لا عناصر بصرية سوى حروف على الورق تشكل الشخصيات ومخاوفها وتفاصيلها وتاريخها
العلاقة بين الفخراني والنقد أو المراجعة الموجهة إلى المثقفين ودورهم في مرحلة ما بعد إعلان الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك تنحيه عن حكم البلاد، ليست جديدة. وسبق للروائي المصري الذي عمل صحفياً في عدد من الصحف العربية أن نشر مقالاً قال فيه إن "إنكار خبرات الماضي، وغياب أي فهم حقيقي لما يحدث في الحاضر، لبناء تصورات عن المستقبل، حوّل يناير إلى لحظة معلّقة في الفراغ، مليئة بالزّخَم، لكنها غير قادرة على التحرّك أبعد. مشحونة بالمعنى، لكن دون أن تكون قادرة على إدراكه".
"الواقعية الصرفة لا تشغلني"
على عكس كل الفنون الأخرى باستثناء الشعر، لا يملك الأديب وكذلك القارئ سوى الخيال أمام العمل الفني، لا عناصر بصرية سوى حروف على الورق تشكل الشخصيات ومخاوفها وتفاصيلها وتاريخها، لا إضاءة ولا موسيقى ولا مونتاج ولا حركة ممثل، لذا يلعب الخيال دوراً كبيراً في العلاقة بين القارئ والحكاية وشخصياتها.
وبقدر ما تبدو شخصيات "بار ليالينا" قابلة للتخيل ويمكن للقارئ أن يرى أمامه أشخاصاً يعرفهم أو يعرف من يشبههم على أقل تقدير، إلا أن الرواية لا تنتمي إلى تيار الواقعية الصرفة، ولكنها بنفس الوقت ليست فانتازيا. لذا يبدو السؤال منطقياً: "لأي مرحلة تمشي الرواية بين مدرستي الخيال والواقع؟
لا تشغل الفخراني "فكرة الواقعية الصرفة" بل تستند أعماله وكتاباته إلى الخيال بشكل واضح، بحسب وصفه.
ويشير الفخراني إلى أنه بدأ في رواية "إخضاع الكلب" (إصدار دار الشروق المصرية 2021) يذهب باتجاه الواقعية قبل أن يكتشف أنه لا يوجد واقعية صرفة.
الرواية بين السينما والأدب
العلاقة بين السينما والأدب في مصر علاقة مختلفة عن بقية أقطار العالم العربي لظروف الإنتاج السينمائي في مصر نفسها، وشهدنا بالفعل مئات الأفلام المقتبسة من الروايات. هذه العلاقة مختلفة في رواية "بار ليالينا"، إذ تبدلت الأدوار واستعان الأدب بالسينما هذه المرة.
ويقول الفخراني: "المخفي في الرواية هو أن القارئ يجد نفسه أمام ثلاثة فصول أشبه بثلاثة أفلام أو ثلاثة فصول سينمائية، وكأنه عرض في سينما درجة ثالثة في مصر التي كانت تعرض ثلاثة أفلام في عرض واحد (برنامج واحد) وغالباً ما كانت هذه الأفلام ليست الأفضل وليست الأحدث".
ويضيف الفخراني أنه اتبع نفس الطريقة، فيقول: "لجأت إلى عناوين الفصول لتوضيح هذا الأمر (هناك ثلاثة فصول رئيسية وفي داخل كل واحد منها عناوين فرعية- الفصل الأول يتحدث عن نوح بطل الرواية ورحلته مع الأفلام والثاني فصل البار والثالث ما بعد 20 عاماً وكأنهم أفلام قصيرة) وهذا الأمر بحد ذاته يكسر فكرة الواقعية، ما يبرر بالنسبة لي بعض الأفلام غير المنطقية كما وجود المرآة، لأنني أؤسس لعهد بيني وبين القارئ بأنه لا يقرأ قصة واقعية بل يرى فيلماً سينمائياً".
وإلى جانب تحدي الخيال هناك تحديات أخرى تضاف إلى عملية الخلق لدى الكاتب، وهي مدى قدرته على خلق رابط ما بين الشخصية والقارئ، لذا نجد أن أعمال الكاتب المصري الراحل نجيب محفوظ وصلت إلى عدد كبير من القراء العرب الذين وجدوا تشابهاً مع شخصيات هذه الروايات.
وربما لا يوجد شخص يعمل في قطاع الإعلام وقرأ الرواية إلا وشعر أن ما حصل مع نوح قد حصل معه، أو وجد تقاطعاً ما، في أحلامه وإحباطه والسخرية منه ومحاولاته للوصول، بل حتى في الادعاء بأنه شخص مختلف فقط لينال الاهتمام. وبقدر نجاح الفخراني في هذه النقطة تحديداً إلا أنها تثير المخاوف لارتباطها بالعاملين في قطاع محدد فقط.
الفخراني يردّ على هذه المخاوف بالقول إنه "من المنطقي أن يكون هناك ردة فعل صادمة في بعض الأحيان لأن نوح يمثلنا جميعاً، الفارق أن نوح في لحظة ما أفاق واكتشف أنه يقلد وجود الآخرين وهؤلاء بدورهم يقلدون وجود آخرين وهم لا ينتمون إلى ما يتوقعون".
ويختم: "المهنة هي مجاز هنا، والفكرة في رسم الشخصية أننا كلنا في لحظة معينة نحاول فقط إرضاء أشخاص ما، ننتظر منهم لحظة استحقاق وكأن حياتنا معلقة بهم. وهذا ليس فقط في نوح بل في باقي الشخصيات كذلك، فالناس في النهاية لا تقرأ فقط الحكايات التي تشبهها. الكاتب يرسم شخصية ورهانه أن هذه الشخصية تتقاطع مع القارئ في لحظات ما، لذا فإن المهنة هي مجاز قوي لطموحاتنا نحن".
سيرة
أحمد الفخراني روائي وصحفي مصري، من مواليد الإسكندرية 1981. أقام في القاهرة عقب تخرجه من كلية الصيدلة عام 2006. عمل بالصحافة في صحف البديل، أخبار الأدب، الثقافة الجديدة، الشروق، المصري اليوم حيث عمل كمدير فريق السوشيال ميديا ونائب رئيس قسم التحقيقات الاجتماعية، دوت مصر حيث عمل كرئيس لقسم الثقافة ويعمل الآن صحفي حر.
سس موقع قل المستقل، أول موقع مصري وعربي لمقالات الرأي، ويعمل الآن على تأسيس موقع "الناس" المتخصص في الصحافة الاجتماعية، كرئيس تحرير. نشرت مقالاته في صحف ومواقع عربية ومصرية: المدن، السفير، الأخبار اللبنانية، موقع هنا صوتك وغيرها.
النتاج الأدبي
صدرت للفخراني ست روايات هي: "ماندورلا" (2013)، "سيرة سيد الباشا" (2016)، "عائلة جادو" (2017)، "بياصة الشوام" (2019)، "إخضاع الكلب" (2021)، و"بار ليالينا" (2022).
وله مجموعة قصصية بعنوان "مملكة عصير التفاح" (2011)، بالإضافة إلى ديوان شعر "ديكورات بسيطة" (2017) بالعامية المصرية.
حصلت رواية "بياصة الشوام" على جائزة ساويرس المركز الأول للرواية فرع شباب الأدباء عام 2020، ورواية "ماندورلا" على المركز الثاني عام 2016.