icon
التغطية الحية

"البحث عن عازار- أين اسمي- المئذنة البيضاء" هل استحقت ترشحها لـ البوكر؟ (2 من 2)

2022.03.10 | 06:50 دمشق

rwayat_bwkr-_tlfzywn_swrya.jpg
محمد أسد الخليل
+A
حجم الخط
-A

إلى جانب رواية "البحث عن عازار" لـ نزار آغري التي تم الحديث عنها في الجزء الأول ورواية يعرب العيسى "المئذنة البيضاء" التي سيأتي الكلام عليها في في هذا الجزء؛ تأتي رواية "أين اسمي؟" للكاتبة والناقدة السوريّة ديمة الشكر، والصادرة عن دار الآداب- بيروت 2021، من بين الروايات السورية الثلاث التي ضمّتها القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربيّة في دورتها لعام 2022.

"أين اسمي؟".. سؤال التاريخ والهوية

"أين اسمي؟" حكاية تاريخيّة أرادت الكاتبة من خلالها أن تهرب من هول المجازر السورية اليوم، إلى مجزرة المسيحيّين المعروفة باسم (طوشة النصارى) التي وقعت في يوم 9 تمّوز عام 1860 في حيّ باب توما الدمشقيّ. هي عودة إلى الأحداث القاتمة التي اعترت تاريخنا وشوّهته، أرادت الكاتبة من خلال تلك العودة التذكير بالدروس الأليمة بهدف الاستفادة منها وعدم تكرارها.

تنقسم الرواية إلى قسمين بحسب الشخصيّة الساردة للأحداث:

القسم الأوّل من الرواية يعود للعام 1901 ترويه "قمّور فتّال" الشابّة السوريّة التي تحكي لنا قصّتها خلال سنوات عملها كخادمة في بيت القنصل البريطانيّ ريتشارد بيرتون مترجم كتاب ألف ليلة وليلة للإنكليزيّة وزوجته إيزابيل، وتحديداً عندما انتقلت إلى دور آخر إلى جانب عملها كخادمة، وهو دور الناسخة والمدونة الموّثّقة لأحداث مجزرة حصلت في العام 1860 في حيّ باب توما في مدينة دمشق.

أمّا القسم الثاني من الرواية والذي جرت أحداثه بعد 117 عاماً وبالتحديد عام 2018  فقد روته لنا "زينة" وهي الطالبة الجامعيّة السوريّة، التي تكتشف كتاب المجزرة وتقرأه لتتوصّل إلى اكتشاف هويّة كاتبته الأصليّة "قمّور".

وفي مقابل مجزرة باب توما التي تنقل لنا أحداثها قمّور فتّال تأتي زينة في القرن الحادي والعشرين الشابّة السوريّة التي انتقلت إلى لندن في منحة دراسيّة لتراقب مجازر دمشق في العصر الراهن، وتصف رغبة أهلها بالهرب والفرار، فتقول واصفة المدينة: "ثمّة شرخ كبير في المجتمع وكراهية" ص 207.

حاولت ديمة الشكر أن تقيم علاقة موازنة ومقابلة بين قمّور وزينة وبين المجزرتين ومحاولة الهرب والعودتين الحتميّتين؛ فلا مهرب من المدينة الأمّ مهما سفكت فيها الدماء، مقابلة جعلت الرواية تزخر بالمقارنات والسلوكيّات الحضاريّة بين دمشق ولندن.

تبدو بنية الرواية معتمدة على السرد واللغة القويّة المائلة للشاعريّة في عدّة أماكن، خالطها مزيج من التشويق والغموض في أماكن أخرى

كانت قمّور تجمع القصص من الناس الناجين من الحرب وقتها، وممّن فقدوا أحبابهم وأهلهم، بناء على توجيهات القنصل البريطانيّ ريتشارد الذي كان يقدّم لها التعليمات والتقنيّات الخاصّة بكلّ مرحلة، وينبّهها باستمرار للتفريق بين الكتابة والتدوين.

جمع ريتشارد تلك المعلومات التي كانت تدوّنها له الخادمة قمّور ليصوغها بلغته وبطريقته وبحسب توجّهات وسياسات دولته التي كانت تحاول حينئذ طمس الرواية العربيّة للأحداث، جمعها ليجعل منها كتاباً يتحدّث عن تلك المجزرة مغفلاً اسم قمّور.

حكاية العنوان

عثرت زينة في أثناء دراستها في الجامعة على ذلك الكتاب وقرأته، قراءة ولّدت في نفسها شغف البحث عن هويّة الكاتب الحقيقيّ للأحداث. تساؤل زينة عن اسم كاتبة قصص مجزرة باب توما هو السؤال المنعكس في نفس قمّور وفي عنوان الرواية "أين اسمي؟" وهو سؤال مشروع ومنطقيّ يحمل العديد من المعاني، ويكتنز في طيّاته العديد من الأسئلة الأخرى: أين هويّتي؟ أين صوتي؟ أين كلمتي؟ أين وجودي؟ أين مجهودي؟ أين دوري؟

وأسئلة قمّور وزينة هذه هي أسئلة كلّ امرأة وكلّ كاتبة وكلّ أنثى لم يعترف المجتمع باسمها وبهويّتها وبصوتها. أين اسمي؟ ليس سؤالاً اعتباطيّاً عابراً؛ هو سؤال يعبّر عن حالة حرمان وتهميش وقمع وإسكات عانت منه المرأة لمئات السنوات.

من هنا تأتي القيمة الفنيّة والأدبيّة للرواية من حيث المضمون، فهي رواية تاريخيّة واقعيّة حمّلتها الكاتبة السوريّة ديمة الشكر هموم المجتمع السوريّ بكلّ أطيافه، حمّلتها هموم المرأة العربيّة وهموم الإنسان الشرقيّ الذي لا ينفكّ ينتقل في تاريخه من مجزرة إلى أخرى.

فتجريد المرأة من اسمها هو سؤال الرواية، و قمّور تشبه مدينتها والكثير من المدن العربيّة التي يحاول المستشرقون والرحّالة والقناصل سرقة تراثها وهويّتها. 

والكاتبة في هذه الرواية تطرح قضيّة جوهريّة حول التاريخ وصياغته ودور المرأة في صناعته ونقله، وكأنّها أرادت أن تقول إنّ هذه حالة واحدة من حالات التهميش والقمع للمرأة الناقلة للتاريخ والمؤلّفة والمبدعة والباحثة.

جماليّات السرد الفنّي

تقوم بنائيّة الرواية على الرجوع إلى الماضي وسرد الأحداث من خلال البحث والتذكّر، سرد بلا هويّة ليقوم ريتشارد بصياغته بالطريقة التي تناسب رؤيته وتوجّهاته.

وتبدو بنية الرواية معتمدة على السرد واللغة القويّة المائلة للشاعريّة في عدّة أماكن، خالطها مزيج من التشويق والغموض في أماكن أخرى، كلّ ذلك جاء في حبكة دراميّة وأسلوب شاعريّ يجمع بين جماليّة السرد وتثقيف القارئ، وذلك من خلال إغناء النصّ بمفردات الحياة الشامّيّة، مثل باب توما والقماش الدمشقيّ والمصابيح النحاسيّة والطاولات المصدّفة وبلاطات القيشانيّ.

يتأرجح السرد في رواية ديمة الشكر بين اللغتين العربيّة والإنكليزيّة بتقنيّة مدروسة من حيث الكلمات المكتوبة بالإنكليزيّة ومن حيث تقنيّة الكتابة؛ فنلحظ من ناحية هويّة الكاتبة قمّور ولغتها السوريّة العربيّة، ومن ناحية أخرى تقنيّات الكتابة الإنكليزيّة التي يحاول ريتشارد أن يفرضها على قمّور ليطوّع طريقة كتابتها ويهذّبها، وكأنّ الشكر تعالج قضيّة بدايات الرواية في العالم العربيّ.

أين اسمي؟ رواية مكتوبة بفصحى متقنة تتخلّلها حوارات بالعامّيّة الدمشقيّة، لقد كسرت الكاتبة المحرّمات اللغويّة الضيّقة، كما كسرت التحفّظات بعدم فتح الجروح الطائفيّة، وعرّت التعصّب الدينيّ، داعية إلى مواطنة تنشد الحرّيّة للجميع.

اعتمدت الكاتبة على تقطيع المشاهد بما يشبه المونتاج السينمائيّ والانتقال بين الأشخاص وعبر الزمان والمكان، بين دمشق ولندن، وبين طفولة الراوية وشبابها وزواجها، حيث أبدعت الكاتبة في صياغة دراما سرديّة بليغة ومؤثّرة، تكرّر ما جرى لدمشق وكأنّ التاريخ يكرّر نفسه، وكأنّ الأجيال لا تتعلّم من تاريخها، وكأنّ الألم والجرح السوريّ ما زال مفتوحاً منذ أكثر من مئة وخمسين عاماً.

سوريا بعيون بريطانيّة

تراوح الرواية بين عالمين؛ عالم شرقيّ متمثّل بقمّور وبسكّان دمشق، وعالم غربيّ متمثّل بريتشارد بيرتون وزوجته إيزابيل. إيزابيل التي كانت تمطر خادمتها قمّور بوابل من الإرشادات التي تتناسب مع السلوك العامّ للإنكليز، حيث انتقلت قمّور مع عائلة القنصل للإقامة في لندن:

"امشي فوق الرصيف، لا فوق الزفت الأسود، لا تتكئي أمام واجهات الدكاكين، ولا تطلّي برأسك داخلها، لسنا في بازار الشام، بحقّ السماء لا تلمسي الزهور والأشجار، بحقّ السماء كفّي عن التحديق في عيون المارّة، هذا مستهجن جدّاً" (ص 89)

وقد كان ريتشارد يهين الخادمة قمّور بأقذر العبارات وأقذعها لمحاولتها كتابة روايتها الصحيحة: "لن يفوتني أن أقول لإيزابيل أن ترشّك بالماء المقدّس  لتطرد الشيطان العربيّ من رأسك الصغير هذا".

ورغم اهتمام ريتشارد بسوريا كان يحتقر أهلها المتخلّفين:"أنتم السوريّين مشكلة حقّاً، أنتم كارثة، لحسن الحظّ أنّني هنا لأضبط سلوككم المتعصّب" ص102

دمشق لا روما

أين اسمي؟ رواية ساحرة تحكي قصص دمشق التي أدمنت الجرح والمذابح على لسان ابنة المذبحة قمّور. رواية متعدّدة الأبعاد، تأخذنا في دروب الذاكرة الوعرة إلى دمشق وحواريها في القرن التاسع عشر لتفكّك أحداثاً تاريخيّة بأسلوب بديع وحسّ عالٍ ولغة سينمائيّة شيّقة عالية لا يمكن للقارئ الإفلات منها، سمات تجعل الرواية تستحقّ ترشيحها لجائزة بوكر العربيّة، كيف لا وهي تكتب تاريخ أعرق مدينة في التاريخ، دمشق التي قال عنها ريتشارد: "دمشق لا روما هي الجديرة بلقب المدينة الأبديّة"

رواية "المئذنة البيضاء".. الحيرة بين "التقرير" و"الرواية"؟

بخلاف قراءتي للروايتين السالفتين، لكل من ديمة الشكر ونزار آغري، فإن أكثر ما حفّزني وأعتقد أنّه حفّز الكثيرين غيري على قراءة النص الذي وضعتْ عليه كلمة "رواية" منشورات المتوسّط باسم "المئذنة البيضاء" للصحفي السوريّ يعرب العيسى، هو وجودها بالطبع بين الروايات الـ 16 التي رُشّحت للقائمة الطويلة لجائزة بوكر العربيّة، وأظنّه سبباً كافياً ليجعل أيّ مهتمّ  بالأدب يقبل بنهم على قراءتها؛ فمن غير المعقول أن يرشّح نصّ تافه لنيل مثل تلك الجائزة.

ولكن السبب الأهم الذي شدّني للقراءة، مصحوباً بالدهشة والاستغراب والشكّ، هو أنّ الرواية تمثّل العمل الأدبيّ الأوّل لـصاحبه الذي لم يعرف له أي عمل أدبي سابق، والذي وصفته صحيفة "الأخبار" اللبنانية* بأنه "ولِد واقفاً".

كلّ ذلك دفعني للبحث في الأسرار الكامنة خلف ترشيح هذه الرواية لتلك الجائزة، فهل فعلاً كانت تستحقّ الترشّح للجائزة أم أنّ وراء الأكمة ما وراءها؟ 

المسيح الدجّال سوريّ الجنسيّة!

في 424 صفحة أراد الكاتب، كما ذكر في مقابلة إذاعيّة مصوّرة في برنامج "المختار"، أن يجيب عن سؤال: "لو جاء المسيح الدجّال في زمننا هذا فماذا يمكن أن يفعل؟". يقول الكاتب في تلك المقابلة: "هذا السؤال أجبت عنه بـ 424 صفحة".

شخصيّة المسيح الدجّال جسّدها الكاتب ببطل الرواية "غريب الحصو" وهو شابّ عشرينيّ سوريّ من دمشق، طالب جامعيّ في قسم الفلسفة، كان أبوه قد أُعدم لأنّه خان رفاقه في الحرب، أمّا أمّه "فضّة الجاروش" فقد أكثرت من الأزواج بعد أن انفصلت عن والده، ثمّ مارست مهنة الدعارة بعد ذلك.

كان "غريب الحصو" يعيش حياة فقر مدقع، الأمر الذي اضطرّه ليتخذ قراراً بالسفر إلى لبنان من أجل العمل لتغطية مصاريف دراسته، وكان ذلك في بداية الثمانينيّات من القرن الماضي.

الليلة الأخيرة لبطل العيسى في دمشق حاول أن يقضيها في الجامع الأمويّ، لأنّه طُرد من الغرفة التي كان يستأجرها،  لكنّ إمام الجامع منعه من ذلك، فخرج من الجامع ليفاجأ بأنّ  حذاءه قد سُرق، فمشى حافياً من الجامع الأمويّ حتّى باب شرقي حيث توجد المئذنة البيضاء، المكان الذي سينتظر فيها سيّارة "الدوج" التي ستقلّه إلى لبنان، وكان عدد الخطوات التي مشاها بين الجامع الأمويّ وباب شرقيّ 2024 خطوة.

وصل إلى لبنان وعمل في حراسة كراج سيّارات، ثمّ تعرّف إلى الشيخ قسّام الذي يملك ملهى ليلياً يمتهن الدعارة والاستثمار في أجساد النساء، تطوّرت العلاقة بين غريب والشيخ قسّام حتّى أصبح يده اليمنى، وقد أصبح اسمه الجديد مايك الشرقيّ، وبعد موت الشيخ كان مايك قد حبك قصّة ليكون وريثه لذلك الملهى، توسّعت أعمال مايك ليفتتح العديد من الفنادق والملاهي في لبنان، وبعد أن أصبح لديه مئات الموظّفين والداعرات، أصبح من الأثرياء، فاشترى العديد من الفنادق والمنشآت، وتوسّعت نشاطاته لتشمل الاستثمار في التجارة والمخدّرات والجزر العائمة، ولم تقتصر مشاريعه على لبنان؛ فقد افتتح العديد منها في الإمارات واليونان والصين وغيرها، الأمر الذي جعل منه ثريّاً من الأثرياء المعدودين على مستوى العالم، كما أنّ هذا الثراء قد مكّنه من تكوين شبكة علاقات مع العديد من رجالات السياسة والفن والعلم والثقافة وضبّاط المخابرات العربيّة والعالميّة.

تلطيخ الثورة السورية

يقول العيسى في روايته إن أحداث الثورة السوريّة في عام 2011 حين اندلعت وجدها مايك فرصة وسوقاً جديدة للاستثمار، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أراد أن ينتقم من دمشق التي لفظته وطردته، بمساعدة فريقه وضع الخطط والبرامج لتنفيذ العديد من المشاريع، وقد بدأ الإقلاع في بعضها، إلّا أنّه في أواخر أحداث الرواية مع نهايات عام 2018 انتهج منحى جديداً في حياته؛ فقد سخّر وقته وجهده وماله في مساعدة الفقراء والمحتاجين، وقد سمّاه هؤلاء الفقراء بالشيخ الغريب الذي ذاع صيته في دمشق، وأُلّفت حوله القصص والحكايات، إلى أن كانت نهايته الغامضة عند باب شرقيّ قرب المئذنة البيضاء حيث احتشد جيش مؤيّديه من الفقراء والمحتاجين يقابله جيش من موظّفيه وعمّاله وأعوانه الذين ظنّوه قد فقد عقله وعليهم أن يحجروا عليه، وقد انتهت ـ على حدّ قول الكاتب ـ الملحمة الكبرى من دون معركة وقتال، نهاية أراد العيسى من خلالها أن يتصدى لحدث مقدّس لدى المسلمين والمسيحيّين، ليقول إنّ المسيح الدجّال هو نفسه السيّد المسيح عيسى ابن مريم.

لقد سرد الكاتب أحداثاً كثيرة ومتشعّبة عن الأحداث التي جرت في لبنان وبلاد أخرى؛ واستطرد كثيراً بسرد أحداث كحرب الخليج وغزو الكويت، واستفاض كثيراً في الحديث عن الأموال والمجوهرات الكويتيّة المهرّبة والصفقات التي عقدها مايك حول تلك الثروات مع مسؤولين ورجال أعمال كويتيّين وعراقيّين، قص أحداثاً بتفاصيل دقيقة ولغة عادية تصل بالقارئ إلى حدّ الملل.

 وعندما وصل به الحديث إلى سوريا والثورة ظهر موقف الكاتب المناهض للثورة والتاريخ، ولدمشق  تحديداً؛ فلم يخفِ العيسى حرصه على تشويه سمعة دمشق ومجتمعها؛ فهي المدينة التي تلفظ أبناءها، وهي المدينة التي يسرق أبناؤها سجّاد الجامع الأمويّ، أما الثورة فتناولها من خلال شيطنتها في أسطر معدودة، حين روى كيف اشترى مايك الشرقيّ (المسيح الدجّال) ذمم العديد من الفصائل من خلال تقديم السلاح والأموال، كما تحدّث عن القذائف التي زعم أن فصائل الغوطة كانت تطلقها على دمشق بأوامر من المشغّلين على حدّ وصفه، بينما عمي أو تعامى عن البراميل التي كانت طائرات النظام المجرم ترميها على رؤوس المدنيّين، ما عدا ذلك فقد كانت الثورة السوريّة بالنسبة للرواية وأحداثها تفصيلاً صغيراً مقارنة مع أحاديث العاهرات التي أفرد لها عشرات الصفحات والفصول بينما لم يذكر شيئاً عن الثورة السوريّة سوى بضعة أسطر.

أليس من الغريب أن تتحدّث الرواية عن المسيح الدجّال الذي جاء إلى سوريا مع بدايات الثورة من دون الإشارة إلى دجّال البلاد الذي يعرفه العالم كله والذي عاث فساداً وإجراماً بحقّ الشعب السوريّ

وهنا تبرز أسئلة تلحّ على ذهن القارئ: ما الذي جعل كاتباً "سوريّاً" يغض الطرف عن الجرائم التي ارتكبها نظام الإجرام الأسديّ على مدى عشر سنوات؟ ما الذي يجعله يتجاهل مئات الآلاف من الضحايا التي شاهد العالم بأسره صور جثثهم؟ ألا تستحقّ كلّ تلك الأحداث المأساويّة أن يفرد لها بضع صفحات؟ أليس من الغريب أن تتحدّث الرواية عن المسيح الدجّال الذي جاء إلى سوريا مع بدايات الثورة من دون الإشارة إلى دجّال البلاد الذي يعرفه العالم كله والذي عاث فساداً وإجراماً بحقّ الشعب السوريّ، علماً أنّ الرواية جرى القسم الأكبر من أحداثها في سوريا وذلك بين عامي 2011 وحتّى نهاية أحداث الرواية في أواخر عام 2018؟

الحيرة بين "التقرير" و"الرواية"؟

افتقد هذا النص إلى الكثير من مواصفات القصّة والرواية من حيث الحبكة والسرد الروائيّ؛ فكثيراً ما كان يبدأ بحدث ثمّ ينتقل إلى آخر من دون إكمال الحدث الأوّل محدثاً خللاً وانقطاعاً وتداخلاً غير مفهوم أو مبرّر، تداخل يجعل ذهن القارئ مشتّتاً، لذلك فقد كانت "الرواية" أشبه بتقرير ركيك اللغة والأفكار؛ ظهر ذلك جليّاً من خلال التركيز المفرط على الأرقام والتواريخ التي ليس لها أيّ فائدة أو معنى يمكن أن يسهم في إضفاء جديد على الرواية. وصف الرواية بالتقرير أو الصحفيّ ليس اتهاماً كما يُخيّل لبعضهم، بل هو حقيقة اعترف بها العيسى بعظمة لسانه في الصفحة الحادية عشرة من الرواية حيث يقول: "... وبسبب هذه الإجابات المفترضة، وهذه المشاعر التي غلبني الشغف بها، وهذه الأوهام التي ركبتني، أنا مجبر على تسمية هذا الشيء رواية، فلولاها لكان تحقيقاً صحفيّاً وهو ما أردت أن أفعله ولم أفلح".

والظريف في هذا "التقرير" هو مصدر المعلومات التي وردت في الرواية، فقد أشار الكاتب إلى "الثرثار المشوّش" الذي جلس إلى جانبه في أحد أحياء دمشق وحدّثه عن أغلب تلك الأحداث التي حدثت في ثنايا الرواية، وقد أوحى بشكل أو بآخر بأنّ ذلك الثرثار ربّما يكون هو المسيح الدجّال نفسه.

وما يؤكّد ذلك أنّ الكاتب كان يذكر أسماء شخصيّات حقيقيّة مشهورة ومعروفة، ومن تلك الأسماء رفيق الحريريّ و "طويل العمر" السعوديّ الذي كان يرتاد أحد البارات العائمة ليمارس الدعارة والشذوذ، إضافة إلى أسماء كثيرة من فنّانين كسميرة توفيق والعديد من المطربين العراقيّين. 

تحريك المسلّمات أم تحقير المقدّس؟

في المقابلة الإذاعيّة المصوّرة ذاتها على برنامج المختار ذكر العيسى بأنّ مشروعه في هذه الرواية وفي المشاريع المستقبليّة هو تحريك البديهيّات والمسلّمات، أي إعادة قراءة "الحكايات" المقدّسة وإعادة روايتها وطرحها بطريقة أخرى.

في الصفحة 419 من الرواية يتطاول الكاتب على الذات الإلهيّة فيقول حرفيّاً وبلسانه هو لا على لسان إحدى شخصيّات الرواية: "زمّ الربّ شفتيه فخوراً معتدّاً وهزّ رأسه إعجاباً بالعبد الذي سيدفع الثمن الكبير لأجله. يحبّ الله الكثير من الأشياء، يحبّ الأقوياء، يحبّ العلماء، يحبّ الأطفال... يحبّ هرمونات الذكور أكثر ممّا يحبّ هرمونات النساء، يحبّ أقواماً أكثر من أقوام ويفضّلهم على العالمين... يحبّ من يقتلون الآخرين لأنّهم ظنّوهم أعداءه، يحبّ أولئك الحمقى الذين يستسلمون لما يجري لهم ويصبرون، يحبّ المرأة المطيعة لزوجها والشعوب المطيعة لقادتها، يحبّ فرعاً محدّداً من أحفاد عبد مناف ويحبّ فتاة من الناصرة. لكنّه يحبّ التوّابين أكثر، فهؤلاء يعطونه الفرصة لتسجيل نقطة ضدّ عدوّه إبليس والشماتة به والتفاخر عليه، والتبجّح بانتزاع واحد من فريقه. لا يحبّ إبليس الزناة الآثمين واللصوص القوّادين، كما نظنّ منذ آلاف السنين، وكما ظنّ الله حين وقع ذلك الشجار بينهما".

وفي الصفحة 128 ومن خلال وصفه لإحدى الداعرات التي تعمل في أحد أوكار الدعارة اسمها نسرين، قال ساخراً: "بعد أن استسلم أخيراً إلى أنّها مجرّد صورة صنعها الربّ على برنامج الفوتوشوب، ولم يستخدم أيّ تطبيقات أو وسائط لتحريكها".

وفي موضع آخر يتحدّث العيسى في الصفحة 204 عن لوحة رُسمت عليها مؤخّرة امرأة سمراء كانت معلّقة على جدار إحدى صالات الدعارة مكتوب تحتها بحسب رواية الكاتب "سبحان من كوّرها ثمّ دحاها وألهمها فجورها وتقواها".

وفي النهاية لا بدّ لأسئلة أن تخطر على بال القارئ بإلحاح: هل يستحق عمل كهذا بما يحمله من أفكار مغرقة في إساءتها، أن تُرشّح للقائمة الطويلة لجائزة بوكر الأخيرة أو أنّ يتمّ اختيارها من بين بقية الروايات لنيل الجائزة؟


* صحيفة الأخبار اللبنانية (المقربة من حزب الله)- مقال بعنوان: "يعرب العيسى يطوف حول المئذنة البيضاء بروحٍ قتالية"- 7 أيلول 2021.