منذ سنوات، تتناقل الأخبار القادمة من سوريا صور الأطفال السوريين المشردين، أطفال بلا مأوى، وبلا تعليم، وبلا أي رعاية صحية أو اجتماعية. ومنذ أيام، بثَّ "تلفزيون سوريا" تقريرًا عن فتيات الشوارع، فتيات تحت سن الخامسة عشرة لم يجدن إلا الشارع مكانًا لهن. والفضيحة لا تقتصر على إدارة الدولة ظهرها لهذه الكارثة، بل تصل إلى استغلال جهات متنفذة لهذه الظاهرة والمتاجرة بهذه الكارثة الوطنية. ليست قضية الأطفال المشردين وحدها فضيحة هذا النظام، فقد أصبحت كل ظروف الحياة في سوريا فضيحة لا تصدق!
عندما مات "حافظ الأسد"، لم يتجرأ أي سوري ممن يدورون في فلك عائلة "الأسد"، أو ممن يعرفون حقيقة كيف تُدار سوريا، بما في ذلك أشد المقربين من العائلة، أن يقول إن "بشار الأسد" غير مؤهل لقيادة سوريا. وبمسرحية عبثية تدمي القلب سيتذكرها السوريون طويلًا كلطخة عار في صفحة تاريخ سوريا الحديث، استلم "بشار الأسد" رئاسة الجمهورية العربية السورية، وبفضيحة معلنة ومدوية، عمل البرلمان السوري وخلال ساعات فقط على تغيير مادة في الدستور السوري، وهي المادة المتعلقة بالحد الأدنى لسنّ من يحق له الترشح لاستلام منصب الرئاسة، فتم تخفيضه من سن الـ"40" إلى سن "34"، وهو العمر الذي كان قد بلغه يومها بشار الأسد. وبعد ساعات، تمت مهزلة منحه رتبة الفريق في الجيش، ليصبح رئيس الجمهورية، والقائد العام للجيش والقوات المسلحة. وكما هو معروف، فإن هذه الطريقة في توريث الحكم لا تعرفها إلا الأنظمة الملكية فقط!
كان انتقال السلطة إلى بشار الأسد سهلًا وسلسًا، وتم دون أي مشكلات ذات أهمية، وما من أحد تجرأ على معارضته. لكن العقبة الأهم والتي لم يكن بالإمكان تجاوزها، والتي لا حل لها بتغيير الدستور، ولا بالدجل الإعلامي، ومهما تم تجاهلها، هي أن بشار الأسد كان أضعف بكثير من أن يدير بلدًا بالغ التعقيد كسوريا.
حتى لو افترضنا – وهذا ما كان – انعدام إمكانية التصدي لوصول بشار الأسد للسلطة سواء لأسباب داخلية أو خارجية، لكن كان بإمكان بعض مراكز القوى التي كانت تخضع لحافظ الأسد ولمعادلة سلطة العائلة أن تحاول تخفيف آثار تسليم سوريا لقيادة غير ذات كفاءة، هذا إذا افترضنا أن لدى أي من هذه المراكز شعورًا بالمسؤولية الوطنية. وربما كانت فرصتها في ضعف الرئيس الجديد وعدم خبرته بالغة الأهمية لسوريا ولشعبها ومستقبلها. وكان عليها العمل على إعادة صياغة علاقة العائلة بالدولة والمجتمع ولو بشكل متدرج، أي تصحيح الصيغة المدمرة التي صاغها حافظ الأسد في علاقة سلطة العائلة بالدولة والمجتمع.
أدار بشار الأسد المرحلة التي أعقبت موت والده، وبعد وراثته للسلطة، بمنتهى الحماقة، فلم يقم بفعل أيّ شيء حقيقي لمعالجة الأزمة العميقة التي تسببت بها عقود حكم أبيه، وانساق مع وهم القوة.
لم تكن "الأحزاب" السياسية التي استتبعها حافظ الأسد سواء حزب "البعث" أو أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، قادرة على لعب هذا الدور بحكم بنيتها وتاريخها واستزلامها. ولم يكن ما تبقى من الأحزاب الأخرى المعارضة قادرًا على الفعل بسبب تحطيمها وسحقها طوال عقود من القمع. أما الشعب السوري فقد صمت على مهزلة التوريث لأسباب متعددة سواء لاعتبارات طائفية، أو لعجز، أو لأمل ما بأن الرئيس الجديد لا بد سيحتاج لترسيخ وجوده إلى تصحيح هذه العلاقة، أو لقناعة بأن هذه العائلة المتوحشة سوف تقود البلاد إلى كارثة فيما لو تمت مواجهتها.
في المجتمعات الديمقراطية، والتي تستند إلى معايير اقتصادية وسياسية وعلمية إلى حدّ ما، يمكن القول إنّ اتخاذ القرار يتم نتيجة التفاعل بين النسق السياسيّ لتعبيرات المجتمع مع متطلبات البنية الداخلية العميقة للمجتمع، وعلى ضوء البنية الخارجية المحيطة به. أما في المجتمعات غير الديمقراطية، والتي تحكمها أنظمة مستبدة قادرة على اتخاذ القرارات بمفردها، فإن اتخاذ القرار في الظروف العادية يتم من قبل القوى الفاعلة في النظام نفسه، وفي ضوء البنية الخارجية فقط (هذا التفاعل بين النظام والخارج ضروريّ في الحد الأدنى لاستمرار هذه الأنظمة)، دون الاهتمام بمتغيرات وحاجات البنية الداخلية لهذه المجتمعات. لكن في اللحظات الخاصة من تاريخ النظم المستبدة، كموت الطاغية الأكبر مثلًا، أو في لحظات الانفجار المجتمعي، أو الكوارث، أو الحروب...إلخ، تحاول هذه النظم أن تهتم أولًا بمتطلبات البنية الداخلية فقط كي تستمر، وتتمكن من تجاوز الأزمة، ثم تعيد سيرتها الأولى بعد أن تطمئن على إحكام سيطرتها على المجتمع.
أدار بشار الأسد المرحلة التي أعقبت موت والده، وبعد وراثته للسلطة، بمنتهى الحماقة، فلم يقم بفعل أيّ شيء حقيقي لمعالجة الأزمة العميقة التي تسببت بها عقود حكم أبيه، وانساق مع وهم القوة، ووهم إمكانية سحق المجتمع وإخضاعه، فعمم القمع، وأهمل كل الأفكار والخطط التي طرحت محاولةً التخفيف من تزايد الفقر، فازداد الفقر، وازدادت المناطق الفقيرة والمهمشة، وأصبحت مناطق واسعة من سوريا خارج اهتمام السلطة، وخارج عملية التنمية. ومقابل هذا، فقد ازدادت قوة شبكات الفساد، واتسعت دائرة نفوذها وسيطرتها على مفاصل القرار داخل الدولة، ونشأت الشركات القابضة، والتي ارتكزت أساسًا على مفاهيم اقتصاد العولمة، محاولة تنمية رأسمالها الخاصّ فقط، وضاربة عرض الحائط بالسياسات الاقتصادية الاجتماعية، وضاربة عرض الحائط أيضًا بالتأسيس لتنمية اقتصادية حقيقية. فلم تعمل على تطوير الصناعة وأهملت الزراعة، ولم تحقق نتائج ذات معنى على صعيد السياحة، وانحصر نشاطها فقط في مجال الإدارة والخدمات ذات الربح السريع.
لا يزال الرهان على كسر منطق التاريخ وليّ عنق الحقائق الواضحة هو النهج الوحيد الذي لا يعرف "بشار الأسد" سواه، ويصر عليه، ويستقدم الاحتلالات العسكرية، ويبيع ويؤجر سوريا من أجله.
كل ما سبق سيؤدي حتمًا إلى انهيار الدولة، وسيؤدي حتمًا إلى انفجار المجتمع، وهذا ما حدث في آذار 2011م. ورغم كل الخراب الذي تسببت به أربعة عقود من حكم عائلة الأسد، فقد كان بالإمكان تجنيب سوريا هذا الدمار بعد الانفجار لو كان داخل الحلقة الضيقة للسلطة من يقرأ الواقع جيدًا، ويعترف بعمق الأزمة، ويقر بأن القمع العاري والبطش الشديد الذي نجح به حافظ الأسد لم يعد ممكنًا، وأن تكراره مرة أخرى ليس إلا حماقة ستوصل الجميع إلى الخراب.
اليوم وبعد ثلاثة عشر عامًا على انفجار الثورة السورية، وبعد انهيار الدولة وتشظي المجتمع، وبعد كل الويلات التي جرها الخيار الأحمق لبشار الأسد ومجموعة اللصوص التي تحيط به وتنهب سوريا وتنهش ما تبقى منها، لا يزال الرهان على كسر منطق التاريخ وليّ عنق الحقائق الواضحة هو النهج الوحيد الذي لا يعرف "بشار الأسد" سواه، ويصر عليه، ويستقدم الاحتلالات العسكرية، ويبيع ويؤجر سوريا من أجله.
مهما تكن ألاعيب السياسة، ومهما تكن القوى الخارجية الفاعلة في سوريا اليوم حريصة على بقاء بشار الأسد كواجهة من أجل مصالحها، ومهما تشابكت الظروف الإقليمية والدولية وتعقدت، فإن نظام الأسد لن يكون قابلًا للحياة مرة أخرى، والإبقاء عليه بفعل القوى الخارجية لن يفضي إلا إلى مزيد من الدمار والتفتيت لسوريا.
قد تكون هذه النتيجة الحتمية لمصلحة أطراف خارجية، لكنها بالتأكيد لن تكون لمصلحة أي سوري بغض النظر عن أي تصنيف له، بما في ذلك أولئك الذين يشاركونه اليوم السلطة، والذين يتوهمون أن إعادة سيرة سوريا قبل 2011 ممكنة!