سوف نكون واهمين جدا إن قللنا من دور وسائل التواصل الاجتماعي حاليا في عملية التأثير العامة على المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. لنعد، عربيا على الأقل، إلى نهاية عام 2010 وبداية الربيع العربي 2011، حيث كان لوسائل التواصل، على صعوبة استخدامها ذلك الوقت في غير دولة عربية بسبب المنع والحجب ومحاولات التحايل من المستخدمين للدخول إليها، دور رئيسي في المشهد السياسي العربي العام؛ فبداية تم التعامل مع الحدث التونسي عبر الفضائيات، لكن سرعان ما تناقل الحدث مستخدمو الفيسبوك العرب، مهنئين التونسيين بانتصارهم ومطلقين التمنيات لبعضهم البعض بأن ينالوا حظ أهل تونس؛ ثم امتدت الشعلة إلى مصر لتكون الخطوة الثانية الأكثر أهمية لما لمصر من ثقل ومركزية عربية تمكنها من أن تكون القدوة الكبرى للعرب. مع مصر وما حدث فيها خلال ثمانية عشر يوما، كان الفيسبوك عربيا وعالميا هو وسيلة التواصل الوحيدة لنقل ما لا يمكن نقله عبر الفضائيات، خصوصاً مع القطع الكامل للاتصالات؛ أتذكر كيف كنا في سوريا نحتال على الحجب ونتواصل مع أصدقائنا في مصر في ميدان التحرير لننقل ما يريدون إيصاله لبعضهم بعضا.
وحين وصل زلزال الربيع إلى سوريا كانت الدعوات للتظاهر والتجمع والتخطيط يتم كله عبر الفيسبوك، رغم حجبه، قبل أن تنتبه (الجهات المختصة) إلى ذلك وتتدارك الأمر بأن ألغت الحجب كي تتمكن من المراقبة، وكي يتمكن جيشها الإلكتروني الذي أنشأته من بث دعاية مضادة وتشويه سمعة الثوار السوريين، ووضع سكة الثورة نحو المنحى الذي أراده النظام وتفوق به بجدارة: "الطائفية".
تسهيل استخدام وسائل التواصل استفاد منه أيضا، مخططو الثورة المضادة، الذين تبادلوا المواقع مع النظام السوري من حيث التحريض والتمسك بالهويات الضيقة ضد الهوية الوطنية السورية الجامعة
تحول الفيسبوك السوري خلال السنوات العشر الماضية إلى وسيلة تأثير مباشرة على السوريين لتكريس الطائفية وتعزيز الانقسامات المجتمعية في المجتمع السوري، وهو ما كان المسمار الأول والأقوى في نعش الثورة السورية ونعش سوريا بحد ذاتها، حيث فقد السوريون مع التحريض المتواصل والمتبادل والتركيز على الهوية الطائفية والمناطقية والإثنية في كل تفصيل يحدث في المجريات اليومية للحدث السوري المهول، فقدوا صلتهم بالهوية الوطنية الجامعة، التي كان يمكن لوجودها وتعزيزها إنقاذ سوريا من مصيرها الحالي؛ لكن على ما يبدو إن الهدف الذي يقف وراء تمكين جميع السوريين من استخدام الفيسبوك كان هو الوصول إلى هذه الغاية: تدمير كامل للبلد ورهنها وبيعها وتفتيت مجتمعها عبر التهجير والتشريد والتفقير والتناحرات المضافة للحروب والمعارك المتواصلة.
تسهيل استخدام وسائل التواصل استفاد منه أيضا، مخططو الثورة المضادة، الذين تبادلوا المواقع مع النظام السوري من حيث التحريض والتمسك بالهويات الضيقة ضد الهوية الوطنية السورية الجامعة، وبينما حرص النظام السوري على تخصيص (أعدائه) بتهمة الطائفية والتكفيرية، تهافت مخططو الثورة المضادة على استخدام هذه التهمة ضد كل من يعترض على التسليح والأسلمة في الثورة، وعلى كل من يطالب بخطاب ثوري وطني ديموقراطي مدني لمستقبل سوريا. واللافت أن عدداً من النخب الثقافية والسياسية السورية التقليدية (الانتلجنسيا) انحدر خطابها ليصبح خطابا شعبويا متوافقا مع خطاب الثورة المضادة التي وجدت في وسائل التواصل الاجتماعي منابر بالغة الأهمية لها، يمكن من خلالها استنفار الغرائز والمشاعر المذهبية والإثنية، وبث خطاب كراهية، ليس فقط ضد مؤيدي النظام، بل ضد ديمقراطيي الثورة ورافضي الافتراقات التي طرأت عليها ومنتقدي تجييرها لأجندات غير سورية.
يتذكر جميع السوريين صفحات بعينها استقطبت مئات الآلاف من المتابعين السوريين، الصفحات التي كانت مخصصة للإساءة المباشرة لكل من يعترض على تحويل مسارات الثورة، بعضها كان يستخدم الخطاب الكاريكاتوري ضد ضحاياه، لكنها كانت كلها تخدم (الثورة الإسلامية المسلحة والفصائل الجهادية)، دون أن ننسى الصفحات التي اتخذت من الثورة السورية اسما لها وتبنت خطابا تحريضيا طائفيا مشابها لخطاب مؤيدي النظام، ودون أن ننسى أيضا الصفحات الشخصية التي اتضح أن أصحابها وهميون، وتلك التي لشخصيات معروفة وكلها كانت تحظى بعدد لا يستهان به أبدا من المتابعين.
استطاعت تلك الصفحات خلال السنوات السابقة لعب الدور الذي عجزت عنه الانتلجنسيا والنخب السورية السياسية والثقافية والفكرية، التي تحول دورها ليصبح هامشيا لمن رفض من أفرادها الانحياز للخطاب الشعبوي التحريضي، مستعيضين عن ذلك بتنظيرات نخبوية تستخدم لغة مقعرة وبالغة الصعوبة لا يتمكن من هضمها سوى المختصين، وتصنع بينها وبين العامة جدارا كبيرا سوف يبدو صاحبها من خلاله كما لو أنه يعيش في عالم آخر لا ينتمي إلى العالم السوري المؤلف من نسبة كبيرة من العامة التي تريد خطابا قريبا من إدراكها، وهو ما فهمه تماما منظرو الثورة المضادة المسلحة، حيث استطاعوا تكوين رأي عام ثوري سوري ينحاز للأسلمة والطائفية مستخدما خطاب المظلومية الدينية والمذهبية الذي أثبتت الأيام أنه أكثر خطاب قادر على حشد رأي عام ومناصرين منذ مظلومية الحسين وكربلاء مرورا بمظلومية الهولوكوست وصولا إلى مظلوميات العصر الحديث الدينية والمذهبية.
ووسائط الاتصال التي تتطور بسرعة قياسية، باتت تتحكم بحياة البشر حرفيا، ليس على المستوى السياسي والاجتماعي فقط، بل علي المستوى الفردي وعلاقة الشخص بذاته وأفكاره وأوهامه عن نفسه
ليس تأثير الفيسبوك السوري ووسائل التواصل الاجتماعي خلال العقد الماضي سوى تعبير واحد عن قوة السيطرة التي باتت تملكها هذه الوسائط، وقدرتها على تغيير مسار أي حدث عبر حشد رأي عام ضده بالاعتماد على (سيكولوجية الجماهير) وتراجع دور النخب الحقيقية في حقول النشاط المعرفي والمجتمعي المختلفة؛ ذلك أن التقنيات ووسائط الاتصال التي تتطور بسرعة قياسية، باتت تتحكم بحياة البشر حرفيا، ليس على المستوى السياسي والاجتماعي فقط، بل على المستوى الفردي وعلاقة الشخص بذاته وأفكاره وأوهامه عن نفسه؛ وما جملة أمبرتو إيكو عن (فيالق الحمقى) من مستخدمي وسائل التواصل سوى تعبير غاضب عن سيطرة هذه الوسائل على الحياة العامة وقدرتها المهولة على تشكيل رأي عام تستفيد منه ليس الشركات الرأسمالية فقط وأصحاب نظرية السوق الاجتماعية الاستهلاكية، بل أيضا العنصريون والنازيون والمستبدون في السياسة والدين والاقتصاد؛ عدا تمكن هذه الوسائل من استباحة الحياة الفردية والشخصية للبشر جميعاً، في تواطئ مرعب بين الافتراض ومنشئيه ومستثمريه وبين الواقع وشخوصه المستهلكين لهذا الافتراض، خصوصا من لم يكن لهم أي علاقة لا في تصوره ولا في ابتكاره ولا في تمويله ولا في برمجته ولا في تخديمه وتسييره، ممن تعتمد عليهم شركات التكنولوجيا التي باتت هي الحاكمة الفعلية للعالم في تحديد مسار الحياة القادمة وشكلها.
والآن، بالعودة إلى مصائر دول الربيع العربي الكارثية وما يحدث في هذه المنطقة من العالم أليس منطقيا السؤال عن حقيقة أسباب الربيع العربي وتوقيته، بعيدا عن نظريات المؤامرات السخيفة التي اجتاحت خطاب أنظمة الاستبداد ضد الثورات، ومع الإيمان المطلق بضرورة التغيير، بل وحتميته، مهما طال الزمن، ليس فقط بسبب الظروف الموضوعية التي هيأتها الأنظمة لشعوبها لتثور ضدها، من فساد وتجهيل وإقصاء وتفقير وقمع وتجريف للمجتمعات، بل أيضا لأن كل هذه الأنظمة باتت قديمة وبالية ومهترئة ولا تتناسب مطلقاً مع شكل الحياة إلا ما بعد حداثي الذي تدخل فيه الأجيال الجديدة في مجتمعاتنا بسبب التقدم المذهل في تقنيات التواصل.