عن الحنين وأحواله

2024.09.07 | 05:20 دمشق

26+++++2+6
+A
حجم الخط
-A

في هذه الأيام، أكمل ما يتجاوز اثني عشر عامًا من وجودي في القاهرة، التي أعيش فيها بشكل متواصل دون أي انقطاع منذ منتصف عام 2012، باستثناء بعض الزيارات إلى بعض الدول الأوروبية تلبية لدعوات شعرية أو مسرحية، أو لزيارة أفراد عائلتي ممن يقيمون في أوروبا.

أما سوريا، فلم تطأها قدمي منذ خرجت منها، ولا أعرف عن أحوالها اللوجستية إلا ما أقرؤه على صفحات الأصدقاء في الداخل السوري على مواقع التواصل الاجتماعي، أو ما ينقله لي البعض ممن ألتقي بهم أثناء زياراتهم لمصر، أو من بعض السوريين غير الممنوعين من زيارة وطنهم والعودة منه إلى البلاد التي يقيمون فيها.

كلهم يقولون لي إنه لو أتيح لي أن أزور سوريا بعد هذا الزمن، فلن أعرفها ولن أتمكن من التعود على ما هي عليه حاليًا، ذلك أن سوريا التي عرفتها لم يبق منها شيء، كما يقولون لي، ولن أتمكن من استيعاب حالتها بعد كل هذه السنوات التي مرت، ليس فقط لأن سوريا قد انقلبت حالها تمامًا، بل أيضًا لأنني أنا كبرت وتغيرت وتغير فهمي وإدراكي للتفاصيل والأشياء الخاصة والعامة.

والحال أنه حين يجرفني الحنين إلى سوريا حاليًا، أحاول أن أحدد في ذهني ما هي الأشياء التي أحن إليها وأشتاقها هناك! هل هو الحنين إلى المكان الذي نشأت وتربيت وتشكلت شخصيتي الحالية فيه، وهو ما يسميه البعض الحنين إلى مسقط الرأس بوصفه المكان الأول الذي نبدأ فيه إدراكنا لذواتنا وللعالم حولنا ولتفاصيل وجودنا؟ أم هو الشوق والحنين إلى الحياة التي عشتها والمشاريع التي كنت بصدد إنجازها وإكمالها؟ أم هو الحنين إلى حياتي مع أصدقاء مراحل العمر المختلفة ومع أفراد عائلتي وأقاربي هناك؟ هذا جواب سهل والإجابة عليه أكثر سهولة: أنا أشتاق إلى كل تلك التفاصيل، إلى كل حياتي هناك، إلى المكابدات اليومية في تأمين المعيشة؛ إلى القرف من الذهاب اليومي إلى وظيفة لا أطيقها في مكان لا أطيقه؛ إلى غبطة لقاء الأصدقاء اليوميين والسهر حتى أول الصباح والسكر أحيانًا والغناء في البارات ومصادفات المقاهي والنميمة الثقافية والمناحرات والخلافات والانحيازات؛ إلى الانشغال السنوي بمشروع ثقافي كبير كان هو مشروع حياتي بحق والانشغال بتفاصيله والخوف من فشله والفرح بنجاحه والقبول بنتائجه والسعي لتطويره وتوسيعه.

تفاصيل حياة كاملة شخصية وعامة وفردية ومشتركة، تفاصيل ممتلئة بالحياة والحب والغضب والخوف والفرح والفخر والنجاح والفشل والقلق والاعتزاز؛ تفاصيل لم يبق منها شيء الآن سوى العلامات التي تركتها على شخصيتي الحالية وأنا في أول ستينيتي بينما لم تزل طاقة روحي على الحياة كما لو أنها في الأربعين، كما كانت حين خرجت من سوريا مرغمة وبأمل الرجوع بعد شهور قليلة تحولت إلى عقد زمني مضاف إليه عامان لا يبدو مطلقًا أنهما الأخيران، ذلك أن الوضع السياسي السوري في حالة ثبات مخيفة ولا تدل على أية انفراجة قادمة.

لم يبق من أصدقائي أحد هناك إلا قلة قليلة جدًا، ينكفئ كل على نفسه وحيدًا وحزينًا. أصدقائي باتوا في أماكن مختلفة في دول عدة من دول هذا العالم، هم أيضًا منكفئون كل على مكابداته الشخصية وهزيمته المشتركة مع الجميع. أصدقائي أيضًا رحل كثر منهم، غادروا الحياة باكرًا كما لو أن موتهم جزء من التغريبة السورية المهولة. هكذا، لو أتيح لي أن أعود إلى دمشق فلن أجد أحدًا منهم. المقهى الذي كان يجمعنا فرغ تمامًا، والبارات احتلها آخرون لا يمتون لنا بصلة ولا على أي صعيد، دمشق القديمة التي كنت أعشقها، يكتب عنها أصدقاء العالم الافتراضي أنها باتت محتلة من قبل عقيدة لا تشبهها ولا تشبه سكانها. لم يبق شيء مما أحن إليه في دمشق ولم يبق أحد. عالمي الذي كان هناك تبدل بالكامل، الحنين إليه هو حنين إلى ذاكرة موجودة معي، الحنين إليه هو ليس أكثر من جسر أمده مع نفسي كي لا تنقطع صلتي مع دمشق بشكل كامل.

تخففت أيضًا من الحنين، رغم موجات مفاجئة تداهمني وتضعني أمام أسئلة ملحة كالتي أكتبها الآن، تخففت منه ظاهريًا، أقصد أنني دربت نفسي على تجاوزه وعلى التظاهر بالنسيان وبالانقطاع عن كل تلك الحياة.

أفكر أيضًا بما كانت ستكون عليه حالتي لو أنني لم أخرج من سوريا وبقيت فيها حتى اللحظة! هل كنت سأزال على قيد الحياة؟ هل سأكون مكتئبة ومنكفئة على ذاتي؟ هل سأشعر بالوحدة وأشتاق إلى حياتي السابقة في دمشق كما يشتاق من تبقى من أصدقائي بها؟ هل كانت كتابتي ستتغير كما تغيرت خلال هذه السنوات؟ والأهم هو السؤال عن تغير قناعاتي الشخصية تجاه الثورة والسياسة والعيش؟ هل كنت سأكون جذرية الموقف كما أنا الآن أم كان ثمة ما قد يتغير في ذلك كي أحافظ على حياتي؟ وهل كنت سأشتم من خرجوا وتركونا كما يفعل البعض الآن وأحملهم مسؤولية ما حدث وأتجنب تحميل النظام أية مسؤولية؟ لوهلة تبدو هذه الأسئلة بلا معنى، ذلك أنني خرجت وعشت وبقيت على موقفي السياسي من الحدث السوري وتغيرت طريقتي في الكتابة، وحظيت بفرص مهمة، ودخلت في تجارب حياتية وثقافية استثنائية، وواصلت حياتي وتعرفت على أصدقاء جدد، وأسست لتفاصيل يومية حيث أعيش، وبنيت عالمًا شخصيًا يشبهني إلى حد ما، وتخففت مع الزمن من الغضب الذي رافقني خلال سنوات عدة بعد خروجي من سوريا، وتخففت من الألم والحزن الذي يسببه الفقد والانقطاع، أو لنقل ألم الفطام عن الوطن الأم.

تخففت أيضًا من الحنين، رغم موجات مفاجئة تداهمني وتضعني أمام أسئلة ملحة كالتي أكتبها الآن، تخففت منه ظاهريًا، أقصد أنني دربت نفسي على تجاوزه وعلى التظاهر بالنسيان وبالانقطاع عن كل تلك الحياة. لكن الحقيقة هي أن الحنين يصبح جزءًا من حياتنا اليومية دون أن نشعر. لكنه الحنين الذي يجعلنا نحتفظ بهويتنا الأساسية، الهوية التي تشكلت منها شخصياتنا وذواتنا الحالية، الهوية التي نقدمها للآخرين كي يتعرفوا بنا بشكل صحيح. الحنين هو ما يجعلني أحافظ على لهجتي السورية في القاهرة، رغم أنني نادرًا ما أقابل سوريين هنا، ورغم أن الغالبية العظمى من أصدقائي مصريون، ورغم أنني أتكلم اللهجة المصرية بطلاقة. الحنين أيضًا هو ما يدفعني للاحتفاظ بعاداتي في الطبخ السوري، ودعوة أصدقائي المصريين كل فترة لتذوق أطباق سورية لم يعرفوها سابقًا. الحنين هو ما يدفعني أيضًا لتصحيح فهم كثر من المصريين لما يحدث في سوريا حين يتم الحديث أمامي عن هذا الأمر. الحنين هو محاولاتي الدؤوبة للفت انتباه الآخرين إلى الجمال السوري الذي كان وما زال مستمرًا لدى كثير من السوريين.

الحنين هو ذاكرتنا وإرثنا وحكايتنا ولغتنا وثروتنا الوحيدة التي بقيت لنا من سوريا.

الحنين هنا ليس شخصيًا، أقصد أنه لا يعني تعلقي الشخصي بماضي حياتي. أنا لست هكذا، أنا أعيش حياتي (على المستوى المادي والمعنوي) في مصر كما لو أنها كانت وطني طيلة حياتي. لكنني نفسيًا متصلة بسوريا التي عشت بها إلى حد كبير، رغم كل الغضب والألم الذي تسببه لي أخبارها. لكن الحنين هو ما يجعلني دائمة الصلة بها، وهو ما يجعلني أحتفظ بكل تفاصيلها وأقدم نفسي للآخرين من خلالها وأنا فخورة. هكذا يساعدنا الحنين، حين نحسن التعامل معه في دواخلنا، على الاحتفاظ بهويتنا الوطنية (الوطن هنا انتماء ونشأة وإدراك وصفات بيولوجية ونفسية ولا علاقة له بالسياسة لا من قريب ولا من بعيد) وبحيثيات هذه الهوية. الحنين يمكننا من الاحتفاظ بثقافتنا العامة كشعب تعرض للانتهاك والإجرام ولمحو تاريخه وحاضره، ويجعلنا ننقل هذه الثقافة للآخرين كما لو أننا ندونها في مدونات تنتقل من شخص لآخر.

الحنين هو ذاكرتنا وإرثنا وحكايتنا ولغتنا وثروتنا الوحيدة التي بقيت لنا من سوريا. تلك سوريا التي، إن عدنا إليها، فلن نعرفها ولن تعرفنا ولن ترحب بنا. لكن هذا آني ومؤقت، كما هي حياتنا الشخصية آنية ومؤقتة. سيكملها أبناؤنا بعدنا، وسيعودون إلى سوريا، وسترحب بهم وتحتضنهم. لهذا علينا أن نعدهم لمعرفتها بأن نبقي بينهم وبينها جسرًا يمكنهم من العبور إليها دون أن يوقف حياتهم ودون أن يمنعهم من الاندماج في المجتمعات والبلاد التي يعيشون فيها حاليًا. الحنين هو هذا الجسر أحيانًا.

كلمات مفتاحية