في خضم عزلة مفروضة ومقبولة إلى حد كبير، يجد الإنسان منا نفسه وحيداً فيخترع لنفسه شكل حياة يتناسب والظرف الجديد وأدوات تسلية تتماشى معه، والنتيجة أننا أصبحنا مندمجين مع الشاشات الإلكترونية التي تقدم محتوى مختلِفا ومختلَفا عليه في آن.
لقد أصبحت ساعات عمل التلفاز على سبيل المثال تتجاوز عمل ساعات الإنسان الطبيعي بمراحل، تُقدَّم في خلالها أعمالٌ درامية وتلفزيونية أو سينمائية في أحيان أخرى كثيرة، لكنها في الأحيان أغلبها تفتقر إلى القيمة ولا تقدم محتوىً هادفاً أو مفيداً بقدر كونه ترويجياً لفكرة أو إيديولوجيا كما أنه يفتقر في الغالب للجودة الفنية.
تمر في الشاشات المتلفزة أو المنصات الرقمية مدفوعة الاشتراك أعمال مختلفة قد تأتي على ذكر الحكاية السورية بطريقة ما، إلا أنها تكتفي في الحقيقة بذكرها وفق ما يتناسب مع سياق النص المعمول درامياً الذي لا يهتم في الغالب بسرد الحقيقة بقدر ما يهتم بتزيين عمله بقضايا قد تبدو محقة وذات أهمية في نظر كثيرين، مثل محاربة الإرهاب التي يضعها العالم على رأس بقية القضايا في الأهمية وهو ما يُراد بشكل أو بآخر وضع الثورة السورية في إطاره.
كان السوريون ينتظرون من الدراما السورية التي كانت في أوج عطائها ودخلت بحكاياتها وأداء ممثليها إلى منازل العالم العربي أن تقدم صورة حقيقية أقرب إلى الواقع المعاش
قد يقول قائل اليوم إن هذا أفضل ما يمكن أن يُقدَّم عن الثورة السورية عوضاً عن تقديمها في إطار الحرب الأهلية والاقتتال الداخلي، لكن أليس من حقنا أن نتساءل كيف تحول سيناريو الثورة ضد الاستبداد ونظام الحكم إلى تدخل عالمي للحرب ضد الإرهاب في هذه البقعة الجغرافية بالتحديد؟ ألم ترسخ محطات الأخبار ذلك فحولت مع الوقت وبالعناوين والمانشيتات حديث الشارع من الثورة إلى الإرهاب؟ وهل تكون ساحة الأعمال الدرامية بريئة من العمل على ذلك التحول ببطء؟ ألا يمكن أن يُعد مساهمة ولو عن غير قصد في طمس الحقيقة وتصدير واقع بعيد عن المصداقية ومنحازاً لطرف على حساب آخر؟!
ربما كان السوريون ينتظرون من الدراما السورية التي كانت في أوج عطائها ودخلت بحكاياتها وأداء ممثليها إلى منازل العالم العربي أن تقدم صورة حقيقية أقرب إلى الواقع المعاش، بهدف توضيح الحقيقة للعالم وكسب تأييد أفضل على المستوى الشعبي والرسمي، غير أن الأمر كان منوطاً بحسابات متعلقة بالاستثمار وسياسات متعلقة بقنوات العرض الأمر الذي لا يخلو من أسباب سياسية تحتم عليهم عدم الخوض في ذلك.
كانت محاكاة الدراما للثورة السورية خجولة وغير مشابهة للواقع إلى حد كبير وفشلت في توضيح الحقيقة للمشاهد العربي
فعلى الرغم من الأثر الكبير الذي تتركه الأعمال الدرامية على المتلقي، إلا أن الأعمال السورية لم تختلف عن تلك العربية والعالمية في رواية الحدث السوري وتقديم طرح حقيقي للثورة السورية، فأتت على ذكرها ـــــــ في المرات القليلة التي فعلت فيها ذلك ــــــ بطريقة خجولة تعمدت المساواة بين طرفي الخلاف موزعة بذلك المسؤولية على النظام والمعارضة على حد سواء، وإذا كان ذلك صحيحاً نسبياً لكنه ينضوي على محاباة ومحاولة تلافي غضب طرف معين لضمان عدم منع عرض هذا العمل أو غيره أو في الأكثر لمحاولة كسب شرائح السوريين على اختلافهم طمعاً بنسب مشاهدة مرتفعة.
كانت محاكاة الدراما للثورة السورية خجولة وغير مشابهة للواقع إلى حد كبير وفشلت في توضيح الحقيقة للمشاهد العربي، واكتفت بتقديم نسخة مكررة من رواية عالمية عن الواقع السوري تقدم على الدوام في الأعمال الدرامية وفي نشرات الأخبار، رواية تحاول تجاهل حالة الثورة ضد نظام الحكم وتركز على وجود جماعات مسلحة منتشرة في أطراف الخريطة السورية، الأمر الذي يستفز الدول الحدودية المعنية والقوى العظمى العالمية ويضطرهم إلى التدخل بسلاحهم وعتادهم بحجة إنقاذ السوريين من بطش المجموعات المتطرفة، فيما نأت الرواية المذكورة عن ذكر استبداد السلطة وتوحش نظام الحكم والمجازر التي تعرض لها السوريون من النظام السوري المزعوم، ولم تأتِ على ذكر أعداد المعتقلين ووصف أحوالهم بل اكتفت بسرد الرواية المرحب بقبولها عالمياً في محاولة لطمس معالم الثورة الحقيقية والحد من التعاطف الشعبي والدعم العالمي.
من ناحية تجارية قد يبدو ذلك طبيعياً ومبرراً في بعض الأحيان بسبب محاباة رأس المال للسلطة في الغالب وخوفه من اتخاذ موقف سياسي في أحيان أخرى، إذ تمتنع شركات الإنتاج الفني عن الاستثمار في أعمال تتحدث عن الوضع علانية أو تشير بأصابع الاتهام بشكل صريح للفاعل الحقيقي الذي كلف سوريا وشعبها هذه الأثمان الباهظة، لأنهم تجرؤوا على رفض الواقع السياسي السوري المزري وقرروا الثورة ضده.
يبدو للسوريين العالمين بحقيقة الأمر أن الدراما السورية بدأت تعيش حالة تدهور واضح سواء في الأمور الفنية أو الأداء أو في التمويل أو في بسط سلطة الرقابة على مختلف أشكالها، كما أنها نأت بنفسها عن السياسة واختارت لنفسها نمطاً اجتماعياً غير قابل للرفض من طرف المنتجين، لكنها فشلت في تقديم صورة اجتماعية حقيقية لواقع السوريين البائس بسبب طول سنوات الحرب، التي أثرت بدورها على الأوضاع الاقتصادية للعاملين في المجال الفني من ممثلين وكتاب ومخرجين وفنيين، فاضطرتهم للعمل في أعمال مشتركة أقل ما يمكن أن توصف به، أنها سطحية ولا تمثل شيئاً مما يعانيه السوريون في الداخل والخارج على حد سواء.
لقد اتسمت الدراما بالابتعاد عن صوت الواقع الذي عهدناه منها في أعمال ما قبل الثورة السورية إذ إنها خضعت بشكل كبير للرقابة ولم تبذل جهدها في محاولة رفع سقف الحريات مثلما طالب الشعب السوري بذلك، وإذا كانت هناك بعض الأعمال ــــ على قلتها ــــ تعبر عن واقع سوريا سياسياً فهي لا تُقارن بحجم التوقعات المرجوة منها، إضافة إلى أنها اقتصرت على محاولات فردية كانت ذات أثر محدود في الانتشار، واعتمدت على تمويل صغير ذاتي في الغالب بسبب إحجام شركات الإنتاج عن الخوض في ذلك المجال، لأنه لا يدر ربحاً من جهة أو لأنه مرفوض تماماً من قنوات العرض الموجهة سياسياً ومالياً وقد تتدخل إلى حد تعديل المحتوى وقصه وإعادة بنائه في أكثر من محور.
لا نبحث هنا كسوريين عن مساحة حرة تقدم وجهة نظرنا في الثورة للعالم فقط، بل نشعر بأسى وخذلان بسبب الحالة التي آلت إليها الدراما، ونرفض بذلك تزييف الحقيقة أو تجميل صورة النظام الذي يبدو وفقاً لكثير من الأعمال وكأنه عالق في خضم مواجهة المؤامرة الكونية ضده ومستبسل في صدّ الهجمات الإرهابية، ونشعر بعتب كبير لأنها لم تعد مثلما تمنينا صوتاً حراً، وإنما ساهمت ولو بشكل غير مقصود في تغيير صورة الثورة بتركيزها على إجرام الجماعات المسلحة، وغض النظر عن المجرم الحقيقي ما يؤدي بالضرورة إلى تغيير المزاج والرأي العالميين بخصوص قضيتنا.