يثير ما سُمي قانون "تجريم التعذيب" الذي حمل الرقم 16، وأصدره بشار الأسد في 29 مارس/ آذار الماضي، الدهشة والاستهجان، ويستدعي السخرية، كونه يأتي في سياق نهج الدجل والاحتيال والتذاكي الذي يتبعه نظام الأسد من أجل تخريج المهازل التي اعتاد القيام بها، ويريد منها تضليل العالم أجمع، ومحاولة تلميع صورته الملطخة بدماء مئات آلاف السوريين.
وإذا كانت القراءات قد تعدّدت لهذا القانون الهزلي، القاضي بتجريم ممارسة التعذيب، وتبديل الوصف الجرمي لجريمة التعذيب من جنحة إلى جناية، إضافة إلى تشديد العقوبة إذا كان التعذيب من أجل الحصول على اعتراف أو على معلومات وسوى ذلك، فإن الوقوف على حيثيات وأهداف نظام الأسد من إصداره، تستلزم النظر في خلفية ما يريده من إثارة أصداء حوله، وفي توقيت إقراره لهذا القانون، فضلاً عن تساؤلات كثيره حول أهدافه البعيدة كل البعد عن تجريم التعذيب الممنهج، الذي دأب النظام على ممارسته بحق المعتقلين السوريين في زنازين سجونه ومعتقلاته طوال عقود عديدة من الزمن، فضلاً عن جرائم القتل والتجويع حتى الموت، والاعتقال التعسفي، والإخفاء القسري، والاغتصاب وغير ذلك.
نظام الأسد يضع مصالح آل الأسد وحاشيته وأزلامه فوق كل شيء، ولا تعني له القوانين شيئاً، ولا الدساتير، ولا المواثيق والأعراف الدولية شيئاً
لا شك في أن هذا القانون لا معنى له، بالرغم من أنه ينص على معاقبة مرتكب جريمة التعذيب بلائحة عقوبات تبدأ من ثلاث سنوات، وتنتهي بالإعدام، لأن صدوره لن يفضي إلى محاسبة عناصر النظام الذين ارتكبوا مختلف أنواع جرائم التعذيب بحق السوريين، ولا إلى وقف ممارسات التعذيب الممنهجة في مراكز اعتقال وسجون النظام المتعددة، والتي تدل على وجود سياسة انتهجتها، و"تتلخص في تعذيب وإساءة معاملة الأفراد، وترقى إلى كونها جريمة ضدّ الإنسانية"، بحسب تقرير لمنظمة هيومن رايتس ووتش، وبالتالي فهو لا يفترق عن قوانين كثيرة مشابهة أصدرها وبقيت مجرد حبر على ورق رخيص، لأن نظام الأسد يضع مصالح آل الأسد وحاشيته وأزلامه فوق كل شيء، ولا تعني له القوانين شيئاً، ولا الدساتير، ولا المواثيق والأعراف الدولية شيئاً، كونه تعود على الاحتيال عليها، وعلى الدوس عليها حين تتعارض مع نهجه وممارساته الإجرامية بحق السوريين.
ولا يعني إصدار هذا القانون جنوح نظام الأسد نحو الاعتراف باقتراف سجانيه وعناصر أجهزته الأمنية جرائم تعذيب في معتقلاته وسجونه، إذ سبق لبشار الأسد أن أنكر وجود أي ممارسات للتعذيب، وتبجح بالقول "ليس لدينا وحدات تعذيب، وليس لدينا سياسة تعذيب في سوريا"، بالرغم من صدور تقارير أممية ودولية مقرونة بوثائق وأدلة تثبت ضلوعه في جرائم تعذيب مئات آلاف المعتقلين، الأمر الذي يثير سخرية سوداء حول مبرر إصداره قانوناً يجرّم التعذيب، لذلك أوعز إلى أبواقه للتشدق والادّعاء بأنه يأتي في إطار "اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة"، التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1984، وانضم إليها نظام الأسد في عام 2004، وتستلزم قيام أي دولة تنضم إليها بتعديل تشريعاتها بما يتلاءم مع بنودها، وبالتالي، لم يجد أبواق النظام سوى الدجل والتذرع بالحرب لتبرير التأخر في إصدار القانون، لكن منظمة العفو الدولية اعتبرت، في بيان لها، أن القانون الذي أصدره نظام الأسد "لا يوفر الإنصاف لضحايا التعذيب، ولا يشمل أي تدابير حماية للشهود أو الناجين من التعذيب، ولا يذكر ما إذا كان الناجون من التعذيب، أو في حالة وفاتهم، سيتلقون تعويضات"، إضافة إلى أنه " لم يذكر أي إجراءات يمكن اتخاذها لمنع حدوث التعذيب في مراكز الاحتجاز والسجون في المستقبل". وعليه دعت المنظمة إلى "السماح بشكل عاجل للمراقبين المستقلين بالوصول إلى مراكز الاعتقال السيئة السمعة في البلاد، حيث يحدث التعذيب الذي يؤدي إلى الوفاة على نطاق واسع منذ سنوات، كخطوة أولى للإشارة إلى أي نية حقيقية للحد من هذه الممارسة من التعذيب من قبل النظام وأجهزته".
غير أن المفارقة التي تستدعي سخرية مرّة ممزوجة بالهزل والقرف من ألاعيب وأحابيل النظام، هي أن هذا القانون الذي يزعم مناهضة التعذيب لم يتضمن أي إشارة، لا من قريب ولا من بعيد، إلى إلغاء قوانين ومراسيم سابقة مخالفة له، تضمنت توفير الحماية لعناصر أجهزة الأمن وسواهم من الملاحقة القضائية على الجرائم التي يقترفونها بحق المعتقلين والسجناء السوريين، بالرغم من أن تجريم التعذيب ورد في قانون العقوبات العام في سوريا، وكذلك في الدساتير السورية، بما فيها دستور 2012 في مادته العاشرة، والتي ضرب بها نظام الأسد عرض الحائط، ووفر الحماية الكاملة لكل مرتكبي جرائم التعذيب وسائر الانتهاكات بحق الإنسان السوري، وفي الوقت نفسه، لم يكف عن التبجح بكلام معسول عن قدسية حقوق الإنسان الواردة في مواد الدستور والقوانين.
لقد وصل الدجل بنظام الأسد حداً جعله يتمادى في اجتراح قوانين، غايتها التضليل بأنه قد تغيّر، والتستر على مختلف الجرائم التي يقترفها بحق السوريين
وخلال سنوات الحرب، التي شنها ويشنها نظام الأسد، وحليفاه الروسي والإيراني، ضد غالبية الشعب السوري، قامت منظمات حقوقية أممية ودولية بجمع بأدلة وإثباتات على قيام نظام الأسد بممارسة التعذيب داخل زنازينه ومعتقلاته، حيث وصفت منظمة "هيومن رايتس ووتش" سوريا في تقريرها الصادر في تموز/ يوليو 2012 بـ "أرخبيل التعذيب"، بالنظر إلى كثرة وتنوع مراكز الاعتقال التي يمارس فيها تعذيب المدنيين، والتي طالت حتى المشافي. كما شكلت الصور الرهيبة لجرائم التعذيب حتى الموت، التي هرّبها "قيصر" صدمة للعالم أجمع. وكذلك تمكنت "لجنة العدالة والمساءلة الدولية" من تهريب 900 ألف وثيقة، تدين نظام الأسد، وتوثق عمليات التعذيب والقتل الممنهج داخل أقبية أجهزة النظام وجيشه، تنفيذاً لأوامر عليا، موقعة على الأرجح من طرف بشار الأسد. يضاف إلى ذلك محاكمات عناصر من النظام في ألمانيا لارتكابهم جرائم تعذيب، وكذلك الدعوى التي قامت بهولندا في العام 2020 لمساءلة نظام الأسد على جرائم التعذيب بحق السوريين، عبر توجيه مذكرة دبلوماسية إليه، تتهمه بانتهاك اتفاقية الأمم المتحدة المناهضة للتعذيب، واستندت فيها إلى وجود ما يكفي من الأدلة والبراهين القاطعة على انتهاكات نظام الأسد حقوقَ الإنسان، وخاصة استخدامه التعذيب.
لقد وصل الدجل بنظام الأسد حداً جعله يتمادى في اجتراح قوانين، غايتها التضليل بأنه قد تغيّر، والتستر على مختلف الجرائم التي يقترفها بحق السوريين، طالما أنه نجح، بفضل الدعم المتعدد الإشكال من طرف نظام بوتين الروسي وسواه، من الإفلات من المساءلة والعقاب والمساءلة عليها، لكن ذلك كله، لا يلغي أن جرائم نظام الأسد ما تزال برسم العدالة الدولية، التي لا بد أن تأتي يوماً على سوريا لمنع إفلات المجرمين من العقاب، إحقاقاً للحق، وإنصافاً للضحايا.