"أيها السوريون، هل يمكننا أن نتفق، ولو مؤقتاً، على موقف من مقاتلي حزب الله؟ فهم الآن جزء من معركة ضد العدو الصهيوني، وعندما تنتهي تلك المعركة، يمكن لكل منا أن يعود إلى موقفه الأصلي ودوره. لقد شهدنا في السابق ما جرى في مضايا وداريا وحمص وغيرها من المناطق السورية، ولنا كسوريين في ذلك مواقفنا المعروفة. ومع انتهاء هذه المرحلة، يمكن أن نعود إلى عداء حزب الله".
هل بدا لكم أنني أرسم بكلماتي لوحة كاريكاتورية؟ نعم، أنتم محقون. فكيف يمكن الرد على سطحية بعض الطروحات المفبركة التي تتناول تلك الانشقاقات حول دور الممانعين في مواقف النخب العربية منذ بداية الربيع العربي؟ لقد احتدمت حروب المواقف بشكل أكبر مع بداية حرب غزة، وزادت تفجيرات "البيجرز" وأجهزة اللاسلكي، ومحاولة الاغتيال الجماعي لقادة "قوة الرضوان" التي نفذتها إسرائيل ضد حزب الله في لبنان، من حدة هذه المصادمات وأدخلتها في مستوى أكثر تطرفا.
في معاركهم الكلامية، وصل كثيرون إلى وسم المختلفين عنهم بالخيانة. "الصهينة" وخيانة قضية فلسطين وهي قضية الأمة، من جانب إحدى الفئتين، وخيانة دم السوريين وعموم ضحايا المحور الإيراني من الجانب الآخر.
وأنا هنا لست بصدد الحديث عن المطبّعين المزمنين المعروفين من العرب، ولا بصدد المرتزقة المتلونين الذين يتوجهون أينما توجهت بوصلة ملالي إيران. ما أنا بصدده هو الجمهور العام من النخب وغيرها.
يجب ألا يختلف اثنان أن عملية تفخيخ وسائل الاتصال بأنواعها، والتي يمكن أن تصيب بعض المدنيين هي عملية خسيسة، ولا يخطط لها ويرتكبها سوى من يمتلك عقلاً إجرامياً، وهي ستُعتبر جريمة حرب، فيما لو أعيدت صياغة القوانين الدولية، بما يتناسب مع التقدم التكنولوجي الحالي.
ولكن هل هذا سيُعمينا عن اعتبارها أقل وضاعة وخسّةً من رمي البراميل المتفجّرة العمياء على مئات آلاف المدنيين، ومن إطلاق صواريخ سكود التي دمرت وأزالت من الوجود أحياء بكاملها، ومن السلاح الكيماوي الذي قتل مئات المدنيين، ومن إحراق البشر أحياء؟ بالتأكيد لا.
أن يكون الذي فجّر مقاتلي حزب الله هو الطرف الإسرائيلي المجرم الذي يقتل أهلنا وأطفالنا اليوم في غزّة، فهذا لا يعطي امتيازاً لأيٍّ من الطرفين
الأسوأ بعد تفجيرات لبنان هو أن قلّة لا يُعتدّ بها (يحاول ممانعو الملالي إلصاقها بجميع السوريين) لم تكتفِ بالتعبير عن ارتياحها لنتائج العملية الإسرائيلية، بل ذهبت إلى حد مدح الفاعل نفسه، في موقف يفتقر إلى البعد الأخلاقي. في المقابل، كان جمهور الثورة السورية يدرك جيداً أن حقوقهم لن تُستعاد عن طريق إسرائيل، التي ظلت تدعم بقاء نظام الأسد لأكثر من عقد. ولذلك، كانت ردود أفعالهم تتمحور حول مقارنة الجرائم التي ارتكبها كل من المحور الإيراني وإسرائيل.
شعور بعض السوريين هنا تجاه ما جرى، له بُعد نفسي معقد يمكن وصفه بأنه نتيجة طبيعية لمأساتهم. فالسوري الذي يشاهد صورة مقاتل حزب الله مصاباً في "حادثة البيجر"، لا يسعه إلا أن يتذكر المآسي التي عاشها، مثل إحراق المدنيين في مدينة "النبك"، وهو مثال واحد ضمن العديد من الجرائم المستمرة.
وللمفارقة المؤلمة، يفاخر حزب الله في نعوات قادته بـ"إنجازاتهم" في سوريا، فهل يُنتظر من ذوي ضحايا تلك الجرائم أن يتغاضوا عن وصف تلك "الإنجازات" بواقعها؟
أن يكون الذي فجّر مقاتلي حزب الله هو الطرف الإسرائيلي المجرم الذي يقتل أهلنا وأطفالنا اليوم في غزّة، فهذا لا يعطي امتيازاً لأيٍّ من الطرفين، ولو كان حزب الله هو من فجَّر أجهزة الاتصال بالجنود الإسرائيليين القتلة لما اختلف الأمر، وسيبقى الطرفان أعداء ومجرمين، ويستحقون الجزاء.
إدانة إسرائيل وحزب الله بذات الوقت بصفتهما جهتين مجرمتين، ليست ماء وزيتاً لا يجتمعان. فقتلى الحزب اليوم هم مجرمون سابقون وحاليون، وكذا الإسرائيليون.
اعذرونا قليلاً أيّها الأصدقاء، فإن دماء مئات آلاف السوريين التي سفحها الأسد وحلفاؤه، الحرس الثوري الإيراني وحزب الله والميليشيات العراقية وغيرها.
معظم السوريين لم يعادوا حزب الله يوماً، قبل عام 2011، بل على العكس تماماً كان حسن نصر الله بطلاً لديهم، وربما الشخصية العربية الأولى في ضمائرهم، إلى أن اتخذ الجانب الإيراني قرار مساندة بشار الأسد ضد الشعب السوري، وأوكل التنفيذ لذراعه الميليشياوي في لبنان.
أكثر من ذلك، تشير معظم المعلومات من أوساط حزب الله الداخلية، أنهم كانوا مناصرين لمطالب السوريين في الأيام الأولى للثورة، خصوصاً وهم يعلمون أن لهؤلاء أيادٍ بيضاء تجاههم.
كان هذا قبل أن يأتي أمر العمليات من طهران. حينها لم يكن أمام الحزب التابع والمؤتمر بأمر الولي الفقيه، إلا أن يستجيب لسيّده، فاستنفر كوادره ومقاتليه طائفياً، بحجة حماية المقدسات الشيعية بمواجهة الإرهابيين السنّة، ما خلق هذا الشرخ الذي سيُعمِّر طويلاً في عموم المنطقة. وهو ما أسهم في تحويل (أشرف الناس) كما كان يخاطب نصر الله مقاتليه ومواليه، إلى مرتزقة رخيصين مكشوفين أمام الجمهور السوري المناصر للثورة.
أما المشكلة الأساس برأيي، عدا طائفية الحزب كغيره من التنظيمات الدينية، فإنها ابتدأت عندما احتكر حزب الله بدعمٍ من إيران وحافظ الأسد حصرية (المقاومة)، وحق امتلاك السلاح في لبنان، فحارب وقتل وأنهى "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية"، بل وحيّد الجيش اللبناني عن أي دور.
إن عدم قراءة تلك المسارات منذ بداياتها، هو ما يوصل بعضهم اليوم إلى تلك المواقف التوفيقية المائعة، لتغدو نوعاً من التلفيق، يمارسه بعض المتذاكين، أو اللاعبين على الحبال، فيصبح العداء لإسرائيل يجُبُّ ما عداه. وهذا يشبه ما اعتُمد سابقاً لدى اليسار، بأن العداء لأميركا يمحو كل الجرائم، فغدا "نورييغا" تاجر المخدرات البانامي بطلاً يسارياً.
وأنا أكتب مادتي هذه، تظهر أمامي على الشاشة، صور طوابير السيارات التي تفرّ من القصف الإسرائيلي الوحشي على جنوبي لبنان.. مع شعوري بالحزن، أعتقد أن معظم هؤلاء هم من المدنيين الأبرياء، بل وأكثر من ذلك، هناك أعداد ليست بالقليلة بينهم لها مواقف حاسمة من حزب الله عموماً، ومن جرائمه في سوريا خصوصاً، وقد دفعوا أثماناً ليست قليلة بسبب انحيازهم الأخلاقي. لهؤلاء لا يسعني سوى القول "سلامتكم يا أهلنا".
اعذرونا قليلاً أيّها الأصدقاء، فإن دماء مئات آلاف السوريين التي سفحها الأسد وحلفاؤه، الحرس الثوري الإيراني وحزب الله والميليشيات العراقية وغيرها، لم تجفّ بعد في ذواكرنا، فكيف تريدون منا أن نلبس قناعاً ليس لنا، وأن نمحو ذاكرتنا جزئياً أو كلياً.
التعامي ونسيان أن الإيرانيين وذراعهم حزب الله، ما زالوا يحتلّون مناطق سوريّة، ويرتكبون الجرائم حتى اللحظة، أمرٌ فوق طاقة السوريين.. فلا يستقيم لدينا أن يكون هؤلاء أبطالاً بدوامٍ جزئي على جبهة إسرائيل، ومجرمون بدوامٍ كامل على الأرض السورية.
جرائم حزب الله لم تنتهِ فتصبح من التاريخ، فأي نوع من الملائكة مطلوب من السوريين أن يكونوا؟.