منذ نشوب الحرب في أوكرانيا في 24 من فبراير/ شباط والرأي العام السوري، والعربي عموما، يمارس نوعا من "الثقافة المتعالمة" في مقاربته للحرب وتداعياتها، وأكثر من ذلك فإن تلك المقاربات للحرب كثيرا ما تخلط بين الوقائع والمواقف المسبقة، بين ما كان وما ينبغي أن يكون، بين السياسة والتاريخ، بين ما هو أساسي وما هو ثانوي. حتى أنها تضع نتائج لتلك الحرب وكأنها قضايا مسلم بها مسبقا، لدرجة أنها تبني على ذلك استبصارات وسيناريوهات مستقبلية، هي على الأغلب أفكار رغائبية.
وقد تعود مثل تلك الأزمة إلى أن الرأي العام السوري ما زال يعاني مما يمكن أن نسميه النزعة "الجماعاتية" أي رأياً يقدمه أفراد، ولكنهم يستندون في تبريراتهم ومقارباتهم على آراء الجماعة العامة التي ينتمون لها، أو إلى أيديولوجيتهم المسبقة، فيضعون أي حدث يستجد على سرير "بروكوست" المعروف، ويفصّلون الأحداث لتناسب سريرهم المريح، ثم ليحدث ما يحدث بعد ذلك، فتركيزهم على سريرهم وليس على تدفق أحداث العالم وتداعياتها.
فتجد، مثلا، اليساريون المؤيدون، أو (الحياديون) تجاه النظام السوري، يذهبون إلى تأييد بوتين في حربه، أو يختلقون له المبررات على أقل تقدير، ويحوّلونه من رجل دكتاتوري إلى زعيم يعبر عن مصالح أمم، ويريد أن يصحح أخطاء التاريخ. وفي هذا السياق يذهب محمد سيد رصاص إلى أن بوتين هو في الحقيقة "استمرار للينين"، ولكنه لينين قومي وليس أممياً، وأن من حقه أن يحيي الإمبراطورية الروسية العريقة، وأن يحمي نفسه من الغرب، وأن "يتغدى" بذلك الغرب قبل أن يتعشى الغرب به، طالما أن التاريخ يظهر لنا أن كل الدول تتعرض لعشرات التغيرات في حدودها، ولتبدل في انتمائها لهذه الإمبراطورية أو تلك.
الإسلاميون التقليديون فيستمرون في موقفهم غير المكترث بما يحدث في العالم وكأنهم يعيشون في جزيرة معزولة، جغرافيا وتاريخيا
طبعا لا يعير السيد رصاص أي اعتبار للقوانين الحديثة التي تؤكد على حق الشعوب في تقرير مصيرها، ولا للتشريعات الدولية التي تؤكد على استقلال الدول وحقوق الإنسان، على الرغم من تأكيده الدائم عليها عندما يتعلق الأمر باختراق الغرب لتلك القوانين.
أما الإسلاميون التقليديون فيستمرون في موقفهم غير المكترث بما يحدث في العالم وكأنهم يعيشون في جزيرة معزولة، جغرافيا وتاريخيا. فالصراعات في بلاد الكفر، بحسب محمد راتب النابلسي، لا تعنينا في شيء لأنه ليس هناك في تلك الحرب طرفا مؤمنا يمكن نصرته. أما أهم درس يمكن تعلمه من الحرب الأوكرانية الروسية، بالنسبة للنابلسي، فهو أن يلتفت المسلمون لأوضاعهم، وأن يتعاونوا ويتقوا الله.
ويعد "المتعالمون"، أي الذين يتخذون من الموضوعات السياسية طريقة لادعاء المعرفة والخبرة في كل شيء، أيضا من المتبنين لموقف غير مبالٍ، وحتى غير أخلاقي، من حيث إن مصائب الشعوب لا تعنيهم في شيء بقدر ما يعنيهم تقديم صورة عن أنفسهم بأنهم يفهمون في كل القضايا، ويعرفون بشكل مسبق كل الخلفيات والمؤامرات. فالغرب يريد أن يورط بوتين في أوكرانيا، ويريد تدمير روسيا اقتصاديا كما فعل مع الاتحاد السوفييتي السابق. مثلما هناك من يتحمس لبوتين، على الرغم من أنه هرب من طائرات الأخير، التي دمرت قريته وحولته إلى لاجئ. ويعد المهتمون بنشر معارفهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي خير مثال على هؤلاء.
ويستمر هؤلاء، أيضا، في طرح أفكار سياسية على شكل " تقليعات"، وكأن كل حدث يحدث في العالم يفرّخ عشرات النظريات السياسية. فالعالم بعد الحرب الأوكرانية ليس قبلها، مثلما انتهى عصر القطب الواحد ليعود عصر متعدد الأقطاب، أما أوروبا فقد قرَب زوال عصرها كما تنبأ ذات يوما أوسفيلد شبينغلر في كتابه الشهير "تدهور الحضارة الغربية"، وكأن الحضارات تبنى وتهدم ببوست على الفيسبوك. على الرغم من أن أكبر الخبراء الخاسرين بسبب هذه الحرب هو صموئيل هنتنغتون صاحب نظرية "صراع الحضارات"، الذي تنبأ بأن الصراع الأساسي الذي سيحكم القرن الواحد والعشرين هو الصراع بين الغرب والإسلام.
يبقى جمهور الثورة السورية الأكثر شعورا بالمسؤولية تجاه الحرب. فالسوريون عانوا أيضا من طائرات بوتين التي دمرت الآلاف من بيوتهم ومشافيهم ومدارسهم
وتعود تلك الطريقة في مقاربة الأحداث إلى الطريقة الخرافية أو الأسطورية التي تجعل من "العلامات" وسيلة للتنبؤ بالمستقبل. أو أن أحداث التاريخ تسير وفق خطة مسبقة، وما علينا سوى معرفة تلك الخطة والتنبه للعلامات التي ترسل إلينا.
يبقى جمهور الثورة السورية الأكثر شعورا بالمسؤولية تجاه الحرب. فالسوريون عانوا أيضا من طائرات بوتين التي دمرت الآلاف من بيوتهم ومشافيهم ومدارسهم، مثلما عانوا من عدم اكتراث العالم الغربي بمأساتهم (بالنسبة لأوكرانيا عدم الاكتراث أقل، ومستوى الدعم أكبر بكثير). وفوق هذا وذاك هناك إيمان، لدى ذلك الجمهور، بقضية الديمقراطية، وإحساس بوجوب الوقوف مع كل من يسعى إليها (أوكرانيا)، حتى لو لم يكن لبوتين دور في إطالة أمد النظام السوري.
طبعا دون أن ننسى مواقف من يتشفّى بالغرب لأنه تعاون مع بوتين في سوريا، أو لأنه اختلق "الحرب على الإرهاب"، الحرب التي شكلت طوق نجاة للأنظمة التسلطية في المنطقة، أو لكيله بمكيلين فيما يتعلق بإسرائيل. يضاف إليها المواقف التي ترحب بالحرب الأوكرانية إذا كانت ستودي ببوتين وغطرسته، دون اكتراث بما يحصل للأوكرانيين. ولا يخفى على المرء أن تلك المواقف تضمر عدم شعور بالمسؤولية، وعدم اتزان أخلاقي. وهي مواقف تشبه من يفرح بمصائب الآخرين، ولا تليق بشعوب تريد من العالم أن يتفهم قضاياها ومظالمها.
يبقى تكوين مبادئ سياسية تشكل بنية العقل السياسي (المصطلح للجابري) للسوريين هي المهمة التي على السوريين صقلها في تغريبتهم القاسية. ويبقى الوفاء للديمقراطية طوق النجاة لكل السوريين في ثورتهم، الوفاء الذي لا يمكن التخلي عنه أياً كانت الظروف والأحداث والحروب.