"الجيش السوري الاحترافي".. الموارد متاحة نحو المزيد من "التطييف"

2024.09.20 | 06:27 دمشق

5253
+A
حجم الخط
-A

فيما يعكف مسؤولو نظام الأسد، باختلاف مستوياتهم، وصولاً إلى رأس الهرم شخصياً، على تكرار لازمة عجز ميزانية الدولة عن تحمّل أعباء الدعم الاجتماعي المقدّم للسوريين، وذلك منذ بداية العام الحالي، حتى أُرهقت آذان السوريين من سماع هذه "المعزوفة" التي باتت شبه يومية، في الوقت نفسه، يجد نظام الأسد الموارد اللازمة لتمويل عمليةٍ غايتها بث دماء جديدة في "جيشه"، لترميم ركيزة حكمه الرئيسية، برواتب مغرية مقارنة بوسطي الأجور في البلاد، بحيث يصبح راتب "العسكري" مع تعويضاته، يتجاوز ضعف راتب الأستاذ في إحدى الجامعات الحكومية السورية.

وفيما يعيش السوريون بحدٍ أدنى للأجور قيمته 278 ألف ليرة، وبوسطي أجور في القطاع العام بنحو 400 ألف ليرة، وفيما يتقاضى الأستاذ في جامعة حكومية سورية نحو 700 ألف ليرة وسطياً، قد يصل في ظروف محدودة إلى نحو مليون ليرة، يمكن لـ "العسكري" في قوات النظام أن يتقاضى راتباً إجمالياً –مع إضافة التعويضات- يتراوح ما بين 1.8 مليون ومليوني ليرة، وفق عقود التطوع الأخيرة، التي أعلنت عنها وزارة الدفاع التابعة للنظام، قبل نحو أسبوع.

هي الدلالة الأولى التي يمكن الوقوف عندها، لهذا الإجراء. الذريعة، تشكيل "جيش احترافي" يعتمد على المتطوعين. لكن الواقع، أن "الدولة السورية" لا تحقق العدالة بين السوريين. وتُولي العسكريين منهم، رعاية أكبر. وبفارق صارخ جداً. وهو ما يؤكد أن الأولوية لدى النظام -الذي صادر مؤسسات "الدولة" منذ عقود- هو استقرار حكمه. وبدلاً من العمل على معالجة المشكلات المعيشية المتفاقمة التي يعاني منها غالبية "شعبه"، نجد النظام منشغلاً في تعزيز أدوات القسر الموجّهة ضد هذا الشعب.

النظام يريد جلب عناصر جديدة بدوافع ذاتية، على أن يشكّل عقيدتهم القتالية بالصورة التي يأملها، لضمان تماسك "الجيش" في خدمة أجنداته.

أما الدلالة الثانية، فنجدها في تفاصيل هذا الإجراء. فهو يقوم على معادلة جلب دماء جديدة لـ "المؤسسة العسكرية"، بالتزامن مع تسريح العسكريين الموجودين بالفعل، من الخدمة الاحتياطية. كما أن المغريات المادية الموجودة في العقود الجديدة، لا تشمل المتطوعين وفق عقود قديمة. فشريحة العسكريين المتطوعين وفق العقود القديمة، التي يرجع بعضها إلى أكثر من عقدٍ من الزمن، يتقاضون مجمل أجور لا تتجاوز الـ 40% من مجمل الأجور المعروضة وفق عقود التطوع الجديدة. وهي عملية سمّتها إحدى وسائل الإعلام، بصورة صائبة، "تغيير دماء الجيش".

الاستنتاج الأولي الذي يمكن الخروج به من هذا التفصيل اللافت، هو أن النظام يريد جلب عناصر جديدة بدوافع ذاتية، على أن يشكّل عقيدتهم القتالية بالصورة التي يأملها، لضمان تماسك "الجيش" في خدمة أجنداته، أملاً في أن يتجنّب تجربة الانشقاقات والفرار من الخدمة العسكرية، التي عانى منها "الجيش" بعيد ثورة العام 2011، في حال اختبر تحدياً جديداً مماثلاً، أو شبيهاً له.

لكن تفصيلاً آخر يدفعنا إلى استنتاج أبعد، وأكثر دلالة. فالنظام سبق أن أعلن عن عقود تطوع في تشرين الثاني/نوفمبر من العام الفائت. كان ذاك الإعلان هو الأول الذي تضمن رواتب مغرية نسبياً، مقارنة بوسطي الأجور في البلاد. إذ أعلن عن دخلٍ شهري –مع التعويضات- يصل إلى نحو 1.3 مليون ليرة. لكن، ووفق ما كشفت عنه صحيفة "الشرق الأوسط" السعودية، قبل أيام، ونقلاً عن مصادر عسكرية وثيقة الاطلاع، فإنه بعد إعلان تشرين الثاني/نوفمبر الفائت، تقدمت أعداد لا بأس بها لفرصة التطوع، إلا أنه كان "هناك تدقيق كبير وتشدّد في عملية القبول". مما جعل الأعداد المقبولة غير كافية. وهنا يجب الوقوف مطولاً عند هذه الحيثية. فالتشدد والتدقيق الكبير، يحيلان إلى دور المخابرات الذي لا بد أن يكون حاضراً. ومن الصعب هنا، ألا نسيء النيّة. فلا بد أن خلفية المتقدّم لفرصة التطوّع، والبيئة الاجتماعية التي ينحدر منها، ومدى ولائها للنظام، هي عوامل أساسية في عملية التشدد والتدقيق الكبير التي قلّصت أعداد المقبولين، والتي اعترفت بها المصادر العسكرية التي تحدثت للصحيفة السعودية. وبعد أن رفعت عقود التطوّع الجديدة، سقف الإغراء المادي (من 1.3 مليون إلى نحو مليوني ليرة)، قد نجد راغبين أكثر من الشباب القابع في مناطق سيطرة النظام. وهنا، ستصبح عملية التشدد والتدقيق أكبر، وتستهدف قبول فئات محددة، ولاؤها مضمون بصورة أكبر. وهنا، لا بد أن الحواضن الاجتماعية الأقرب للنظام، ستكون هي الأكثر استفادة. مما يعني الذهاب بصورة أبعد في عملية "تطييف" المؤسسة العسكرية السورية. لكن بمظهر أكثر احترافية.

قد تكون هناك دلالات وغايات أخرى لعملية "تغيير دماء الجيش السوري" التي يجريها النظام الآن.

وهنا يمكن أن نلحظ جانباً لافتاً، أن "الجيش" لطالما أعلن عن عقود تطوّع. لكن لم يكن أي منها يحتوي على عوامل إغراء مادية، بل على العكس. فيما جاء أول إعلان عن عقود تطوّع، يتضمن إغراء مادياً –في تشرين الثاني/نوفمبر الفائت- بعد أشهر فقط من حراك ناشطي الساحل السوري، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ورفع سقف انتقاداتهم للنظام، وصولاً إلى النيل من رأس الهرم فيه. بالتزامن مع انفجار حراك السويداء. وهو ما يدفعنا إلى استنتاج سيء النيّة، لكن لا مناص منه، أن عقود التطوّع المغرية تلك، المرفقة بعمليات تشدد وتدقيق كبير في خلفية المقبولين، تستهدف جذب شباب من بيئات وحواضن اجتماعية موالية للنظام.

قد تكون هناك دلالات وغايات أخرى لعملية "تغيير دماء الجيش السوري" التي يجريها النظام الآن. لكن أبرز دلالتين، في رأينا، اللتين وقفنا عندهما مطوّلاً. فالموارد غير متاحة لدعم السوريين بالوقود والسلع الغذائية وفي قطاع الصحة والتعليم. لكنها متاحة لتمويل حياة أفضل لمقاتلي "جيشٍ" لم يخض أية معارك حاسمة ومصيرية في عقوده الخمس الأخيرة، إلا ضد الثائرين على نظام الأسد. في الوقت نفسه، سيستمر النظام في سياسته نحو دفع حواضن اجتماعية محددة باتجاه زاوية أن تكون العمود الفقري لأدوات القسر التي يستخدمها ضد باقي مكونات المجتمع السوري. وهي اللعبة التي أتقنها النظام منذ عقود، كي يضمن قدرته على تفريق السوريين، وتعميق شروخ العداوة بينهم، مما يضمن بقاءه على سدة الحكم القابع على أنفاسهم.