معبر "أبو الزندين" يختصر قصة سوريا الراهنة، بكل تعقيداتها الداخلية، الشعبية والفصائلية والميليشياوية، والخارجية، المتجسدة في مصالح القوى الفاعلة وذات المصلحة على أراضيها.
الأهم من ذلك، تضارب المصالح الاقتصادية مع السياسية والميدانية، وسط غياب قوى أمر واقع محلية تتمتع بحد أدنى من "الحوكمة الرشيدة"، التي تتيح الارتقاء بها من موقع "الفصيل" أو "الميليشيا" إلى مستوى أكثر تنظيماً.
يتضح ذلك جلياً في فشل جهود فتح ذلك المعبر الواقع بريف حلب الشمالي الشرقي عدة مرات على مدار السنوات الأربع الماضية، وصولاً إلى تكرار هذا الفشل مرتين في بضعة أيام فقط خلال الأسبوع الفائت. ويتضح ذلك بجلاء أكبر في تعدد الجهات المستفيدة من إفشال مسعى فتحه، مما جعل من الصعب الجزم بحقيقة من وقَفَ وراء عملية الإفشال تلك.
لنبدأ بأولى التعقيدات التي يختصرها ذلك المعبر. فتحه بالنسبة لشريحة من السوريين يمثّل هدراً لدماء أهلهم ولحقوقهم المسلوبة في أراضيهم التي هُجّروا منها. وهذه الشريحة ليست صغيرة. جرائم نظام الأسد، الذي لم يحترم أي مُحرَّم في حربه على مناوئيه، أسست شرخاً نفسياً لدى شريحة كبيرة من السوريين، تجعل أي طرح يُقدَّم من منطلق الواقعية جريمة تستوجب التعبئة لمواجهته من وجهة نظرهم. ورغم التدهور المعيشي الذي يعاني منه معظم هؤلاء، خاصة في شمال غربي البلاد، ناهيك عن من هم في بلاد اللجوء، إلا أنهم عالقون –نفسياً- عند مفرق الرغبة في إسقاط النظام، المغمّسة بدماء وحيوات من ناضلوا في سبيل ذلك ودفعوا الثمن الغالي من أجله. ولأن الطرف الآخر، ممثّلاً بالنظام، لم يتقدم بأي خطوة نحو لمّ الجراح ومحاولة تضميدها، بل على العكس، تعامل بفوقية "المنتصر" غير المبررة أساساً، أصبح هذا الشرخ النفسي عقبة كأداء أمام أية حلحلات تدريجية لتعقيدات المشهد السوري، باتجاه تسوية مستقبلية لن تكون عند قدرِ تطلعات وتوقعات هذه الشريحة الكبيرة من السوريين. في المقابل، لا يوجد مسار يسير بالاتجاه الآخر، مما يجعل الساعة متوقفة في التوقيت السوري، على حساب كل المتضررين، من جميع الأطراف السورية.
لكن إن كان هناك شريحة كبرى من المتضررين، فهناك شريحة صغرى من المستفيدين. أولئك الذين انخرطوا في فصائل وميليشيات، على الطرفين، فتحولوا تدريجياً إلى مرتبطين عضوياً بمصالح ومكاسب، وتحزبات مناطقية، مؤيَّدة بارتباطات مع القوى الخارجية الفاعلة على التراب السوري. وأصبحت الجغرافيا السياسية السورية المعقّدة، بتنويعات قوى الأمر الواقع فيها، مصدر دخلٍ لهم، قوامه التهريب والجريمة المنظّمة في حالات، والالتزام بتعليمات الداعم الخارجي في حالات أخرى، وما بين بين، في حالات ثالثة، مما جعل تنفيذ تطور ما، ميداني أو سياسي أو اقتصادي، مفيداً لقوى فصائلية وميليشاوية، ومضرّاً لأخرى. مما يجعل تحريك المشهد السوري من حالة المراوحة الراهنة في المكان أمراً عصيباً للغاية، حتى لو حصل تفاهم روسي-تركي مثلاً.
من المستفيد أكثر من فتح المعبر، المعارضة وأنصارها، أم النظام وأنصاره؟ حتى في حالة طرح سؤال تبسيطي من هذا الطراز، نجد الإجابة في غاية الصعوبة.
وفي الحيثية الأخيرة، يتجلى جانب آخر من تعقيدات المشهد السوري، الناجمة عن تداخل وتضارب مصالح القوى الخارجية الفاعلة فيه. فالتفاهم الروسي-التركي الأخير لا يُرضي الإيرانيين، وقد لا يُسعد الأميركيين أيضاً. وفي حالة نظام الأسد، أكبر الميليشيات السورية الفاعلة اليوم، يتجلى هذا التعقيد في أقصاه. إذ للروس أسهم داخل مراكز القوة فيه، كما للإيرانيين أسهم أيضاً، ولـ بشار الأسد أسهم خاصة به. تحقيق خطوة ما تضمن مصالح أصحاب الأسهم الثلاثة، أمر في غاية الصعوبة. وهو أمر يتضح أيضاً في الفصائل الناشطة بشمال غربي سوريا، حيث تتضارب الاصطفافات، ويختلف مدى قدرة الداعم التركي على التأثير والضبط بين فصيل وآخر.
أما في البعد الاقتصادي، الذي من المفترض أن يكون صاحب الكلمة العليا في اتخاذ قرار فتح المعبر، من عدمه، نجد تعقيداً آخر. فإن أردنا أن نطرح سؤالاً تبسيطياً للغاية، من قبيل: من المستفيد أكثر من فتح المعبر، المعارضة وأنصارها، أم النظام وأنصاره؟ حتى في حالة طرح سؤال تبسيطي من هذا الطراز، نجد الإجابة في غاية الصعوبة، وتتوقف على إجابات أسئلة أخرى، من قبيل: أية سلع وبضائع سيتم تبادلها عبر المعبر؟ وهل سيكون التبادل مفتوحاً دون قيود، أم سينحصر بقوائم سلع محددة؟ وبأية عُملة سيتم التبادل بين الطرفين؟ ومن سيدير عملية التبادل هذه بين الطرفين؟ ومن سيؤمّن عملية التبادل هذه بين الطرفين؟ والأهم، هل هناك قدرة على مراقبة عملية التبادل هذه بصورة تضمن عدم تحولها إلى قناة لتمرير المخدرات والتهديدات الأمنية؟
لو كان النظام يعمل وفق عقلية "الحكومة الرشيدة" في أدنى حدود "الحوكمة" و"الرُشد"، لما كانت تعقيدات المشهد السوري وصلت بنا إلى ما وصلت إليه اليوم.
وللتعقيد الاقتصادي آنف الذكر استتباعات سياسية ليست أقل تعقيداً منه. أبرزها المخاوف المبررة من استثمار النظام في فتح المعبر سياسياً، بصورة خاصة فيما يتعلّق بمساعيه لوقف المساعدات الإنسانية الدولية القادمة من خارج الحدود الخاضعة لسيطرته. ناهيك عن المخاوف من أن يتحوّل فتح المعبر إلى رافعة للنهوض بموقع شمال غربي سوريا بوصفه منطقة رمادية للترانزيت الآتي إلى مناطق سيطرة النظام، لكونه غير خاضع للعقوبات الغربية. وهذا أمر له نتائج ذات حمولة سياسية لا يستطيع مناوئو النظام تقبّلها بالمُطلق، رغم فوائدها الاقتصادية على الحاضنة الشعبية في الشمال الغربي.
أما كلمة سرّ كل تلك التعقيدات، فهي انعدام الإرادة لدى الفاعلين المحليين السوريين في دفع ثمن –ولو كان جزئياً- لأية خطوات جدّية نحو تحريك الوضع الراهن. أبرز هؤلاء الفاعلين، الذين ينطلقون من عقلية المعادلة الصفرية في الربح والخسارة، هو نظام الأسد. ورغم حاجة الشارع الخاضع لسيطرته لأي متنفسٍ اقتصادي، مهما كان ضئيلاً، وجد في فشل افتتاح المعبر مناسبة لمناكفة تركيا إعلامياً، والتصويب على قدرتها في ضبط الفصائل المدعومة من جانبها، بدلاً من البحث عن سبل لبناء الثقة مع الجانب السوري على الضفة الأخرى، ووضع حجر أساس يمكن أن يؤدي مستقبلاً للملمة الشرخ القائم اليوم بين السوريين. وهذا أمر غير مفاجئ لنا، بطبيعة الحال، فلو كان النظام يعمل وفق عقلية "الحكومة الرشيدة" في أدنى حدود "الحوكمة" و"الرُشد"، لما كانت تعقيدات المشهد السوري وصلت بنا إلى ما وصلت إليه اليوم.