"عشر سنوات من حرب لا تبقي ولا تذر".. هو عنوان المرحلة التي مرت بها الغوطة الشرقية خلال عشر سنوات عصفت بها فما خلفت وراءها سوى دمار في الممتلكات ونقص في الغذاء فضلاً عن سوء الأوضاع المعيشية وتراجع سوق العمل ما يعني أن شبح الجوع بات الأكثر وضوحاً فهل كان للجمعيات الخيرية دور في تخفيف المعاناة على الأهالي؟
سؤال قد لا يكون الجواب عنه مرضياً في كثير من الأحيان ولا سيما إذا كان ممن عايش الواقع وعانى الفقر ليطرق أبواب تلك الجمعيات مستغيثاً ثم لا يجد سوى المماطلة والتأجيل والتسويف أو ليأتيه الرد بأنه ليس من الفئات المستحقة للمساعدة، فمن تكون تلك الفئات المستحقة؟ وهل حقاً تجد من الدعم ما يكفيها صعوبة العيش؟
من المعروف أن الحرب تسببت بزيادة في نسب العائلات التي فقدت معيلها ميتاً أو مفقوداً، لكن لا يخفى على أحد أن من لم يفقد معيله ليس بأحسن حالاً، فسوق العمل ما إن ترى النور حتى تعود للجمود من جديد، إذ منذ انتهاء الحرب لم تنشط حركة الإعمار ما يعني أن أصحاب المهن في حالة شبه بطالة، أما الأسواق فليست أحسن حالاً فوباء كورونا استطاع أن يغلق الأسواق خلال شهري مارس وأبريل الماضيين من العام 2020، ومع دخول عام 2021 والتدهور الذي شهدته الليرة السورية أخيراً وما نتج عنه من ارتفاع في أسعار السلع كافة من أغذية وأدوية إضافة إلى الكساء والأثاث مما يفوق حجم القدرة الشرائية أضعافاً هائلة، فدخل الأسرة قد لا يتجاوز ما يعادل خمسين دولاراً شهرياً في حين يحتاج كساء طفل واحد إلى المبلغ نفسه، هذا كله أدى إلى تراجع حركة البيع والشراء وإغلاق بعض المحال التجارية كما قد يكون رب الأسرة غير قادر على العمل لسبب صحي فأسرته تتساوى مع من لا معيل لهم.
سلّة غذائية واحدة كل ثلاثة أشهر
يذكر أن هذه الأسر تتلقى سلة غذائية مرة واحدة كل ثلاثة أشهر تتضمن المواد الأساسية كالطحين والأرز والزيت والسكر، فهل تكفي؟
تجيبنا سيدة تقيم مع زوجها وابنها وابنتها بمدينة سقبا، في حديث لـ موقع تلفزيون سوريا وتقول: "في الحرب خسرت بيتي واضطررت إلى البحث عن منزل نستأجره، كنا نبحث في مناطق نائية بعيدة عن وسط المدينة لأننا لا نملك أجرة تلك المناطق، زوجي يعمل حارساً لمجموعة من الأراضي الزراعية ويتقاضى راتباً قدره 70 ألف ليرة سورية شهرياً، ندفع منها 12 ألفاً لصاحب البيت الذي لا يصلح للعيش لكنه الأقل كلفة إضافة إلى كونه في منطقة نائية ولذا علي المشي أكثر من نصف ساعة يومياً للوصول إلى السوق وجلب ما يلزمني وزوجي كذلك يقطع الطريق إلى عمله مشياً لأننا نوفر أجرة المواصلات التي تكلف مئتي ليرة لكل واحد يومياً للذهاب والعودة وهو مبلغ يعني لنا الكثير رغم أن حالتنا الصحية لا تسمح لنا بالتعب فأنا أبلغ من العمر 55 عاماً وأعاني من مرض السكري الكاذب وأحتاج إلى دواء دائم فضلاً عن آلام المفاصل والفقرات والديسك الرقبي، وكذلك زوجي ذو 60 عاماً يعاني من التهاب حاد في الأعصاب وهو ما منعه من مزاولة أي مهنة غير الحراسة وسعر الأدوية في ازدياد هذا إن تمكنا من دفع تكاليف المعاينة الطبية التي تكلف 3000 ليرة".
الأطفال بلا تعليم
وتضيف السيدة "لهذا اضطر ابني إلى ترك مدرسته من الصف التاسع والعمل مع ورشات إزالة الردم ومخلفات الأبنية ليساعد في نفقات المعيشة وهو عمل شاق جداً إضافة إلى خطورته خوفاً من مخلفات الحرب، وما تبقى من المرتب بالكاد يكفي لتأمين الخبز والخضراوات الضرورية ونختار شبه التالفة لأنها أقل ثمناً أما اللحوم فليست لنا، وما عدا ذلك من الكساء والأثاث فلا نحلم بشرائه رغم أن بيتي شبه خال من الأثاث".
أخبرتنا سيدة أخرى من سكان الغوطة الشرقية أن زوجها يعاني من مرض نفسي عصبي ولذا فقد عمله ولا معيل للأسرة المكونة من ستة أفراد سوى ابنها الأكبر (11 سنة) الذي ترك مدرسته ليعمل 17 ساعة يومياً.. وتضيف: زوجي يحتاج إلى أدوية عصبية وهي غالية جداً وابنتي الصغرى تحتاج إلى عمل جراحي في القلب لأنها تعاني من فتحة في القلب، ابني الذي يعمل ليعيلنا يعاني من ضعف حاد في البصر ويحتاج إلى علاج أيضاً لكن ما يحصل عليه من العمل لا يكفي لتأمين الطعام.
تطول القائمة وتزداد المعاناة مع كل قصة من دون أن تغير الجمعيات الخيرية نظرتها إلى الفئات المستحقة للمساعدة، فهل من المعقول أنها لم تطلع على أحوال هؤلاء وأن أحداً منهم لم يطرق بابها حتى تصر على الجواب ذاته لكل سائل: "جيبوا شهادة وفاة الأب وتفضلوا لعنا".
جواب قد يوحي أن شهادة الوفاة ستخلص الأسرة بأكملها من الفقر، ولكن الواقع يشهد بغير ذلك، فما تروية هذه الأسر لا يختلف كثيراً عما سمعناه ممن لم يفقد معيله..
مساعدات الجمعيات الخيرية بشروط
تجمع الروايات التي سمعها معد المادة من الأسر المستفيدة من خدمات الجمعيات الخيرية بريف دمشق على أن الكفالات لا تشمل الأطفال ممن تجاوزوا الخامسة عشرة ذكراً كان أو أنثى ليكون الطفل قبل الثامنة عشرة مضطراً إلى ترك المدرسة والعمل لجلب المال وهو ما يخالف ميثاق الأمم المتحدة لحقوق الطفل من حيث العمالة المبكرة والحرمان من حق التعليم، أما المستحقون للكفالات فيتقاضون مبلغ سبعة آلاف شهرياً من ذوي المفقودين وعشرة آلاف لذوي الوفيات ارتفعت إلى ثمانية عشر ألفاً أخيراً تقول إحدى السيدات: "توفي زوجي وترك لي خمسة أولاد أكبرهم طالب ثانوية 17 عاماً ويليه أخوه 16 عاماً يتناوبان في العمل والدراسة فهما يرغبان بمتابعة تعليمهما، ولكن أحوالنا المادية لا تسمح لهما بالتفرغ فيعمل أحدهما في حين يدرس الآخر والعام المقبل يتبادلان المهام إذ لم تتكفل بهما الجمعية الخيرية في دوما، أما الثلاثة الباقون فأتقاضى من أجلهم مبلغ عشرة آلاف ليرة لكل واحد شهرياً، هذا المبلغ لا يسد احتياجاتنا لخمسة أيام".
هذا وإن أجمعت الروايات في هذا الجانب من حيث الشح في المبلغ المذكور وحرمان من تجاوز خمسة عشر عاماً فإنها لا تتفق في جوانب كثيرة من حيث الخدمات الرديفة كالكساء والوجبات الغذائية وتأمين بعض الأثاث لمنزل الطفل ودفع رسوم المدارس الخاصة مما لا يتساوى فيه جميع المستفيدين، بل إن مثل هذه الخدمات تطول فئة دون أخرى لتكون الوساطة والمحسوبيات المعيار الأساس الذي تتفاوت تلك الأسر وفقاً له.
الجمعيات الخيرية.. وساطات وسوء تقدير
أخبرتنا سيدة أرملة لها ثلاثة أطفال (16، 14، 11 عاماً) خلال حديثها لـ موقع تلفزيون سوريا أنها لجأت إلى الجمعية الخيرية في مدينة دوما لطلب المساعدة فكان الجواب أن مظهرها الخارجي لا يوحي بأنها بأمس الحاجة وأن بعض أقارب زوجها المتوفى من الميسورين فأمثالها يقدمون الدعم ولا يطلبون لتعود خالية الوفاض من غير معيل ولا مصدر للرزق، في حين حصلت أخرى على كفالة دراسية لأطفالها في مدارس خاصة لا يقل الرسم السنوي على أقل تقدير عن مليون ليرة سورية للطفل الواحد إضافة إلى تأمين بعض أثاث المنزل.
لم تكن الخدمات الطبية بعيدة عن نطاق التمايز بين الفئات رغم حساسية الموقف في كثير من الأحوال، فالسيدة التي توفي زوجها وترك لها طفلاً نشأ خلال حصار الغوطة عام 2014 ما أدى إلى إصابته بكسل في الأمعاء بسبب نقص ورداءة الغذاء الذي تسبب بتراجع نموه خلال السنوات الثلاث الأخيرة لم تتردد في اللجوء إلى الجمعية الخيرية لطلب الدعم لكن ما حصلت عليه لم يتجاوز العشرة آلاف ليرة الشهرية فلا مساعدة طبية ولا مالية لإجراء عمل جراحي ما دفعها للجوء إلى جمعية التميز في مدينة دمشق إلا أن الأخيرة اشترطت عليها إيقاف كل بطاقات المساعدة من أي جمعية أخرى للنظر في أمرها الذي قد يستغرق شهوراً طويلة وقد لا يجدي في نهاية المطاف، فهل يحتمل حال هؤلاء أن تنقطع عنهم المساعدات الشحيحة مدة قد تقارب نصف العام؟
جمعية التميز الخيرية في دمشق.. تأخر في إقرار طلبات المساعدة
هذا ما عانته سيدة لجأت هي الأخرى إلى جمعية التميز وأوقفت بناء على طلبهم كفالة أولادها من كل جمعية بدوما منذ صيف 2020 وما زالت حتى الآن تنتظر المقابلة التي وعدت بها والتي ستحدد إن كانت بحاجة للمساعدة فماذا يفعل هؤلاء ولا معيل لهم طوال هذه الأشهر؟.
كثيرة هي الروايات التي تثبت التناقض بين المستفيدين فمنهم من يحرم من أدنى مقومات العيش بحجج واهية، ومنهم من ينال ما يشاء ولا سيما إذا كان على صلة بالمسؤولين عن هذه الجمعيات كما ذكرت لنا زوجة فقيد أم لبنتين أنها لا تنال إلا سبعة آلاف شهرياً في حين تحصل جارتها على كسوة دورية من أجود الأنواع ووجبات غذائية غنية ومبالغ إضافية خارجة عن الكفالات لمعرفة شخصية بين والدها ومدير الجمعية.
هذا المبلغ يفتح باب السؤال عما إذا كان من المعقول أن المتبرعين من خارج سوريا يخصون كل طفل بمبلغ زهيد لا يساوي في الواقع ثلاثة دولارات شهرياً، ليكون الجواب من القائمين على العمل أنهم لا يتلقون أية تبرعات من الخارج وأن كل المسهمين من داخل سوريا، جواب قد يحمل في طياته الكثير من الألغاز والشكوك فإذا كانت الجمعيات تتلقى دعماً خارجياً فلمن يذهب؟ وإن لا فلم منع أهالي المدينة المغتربون دعمهم عنها وهي التي تكفل ذويهم لو كان الحق يصل إلى أصحابه؟