في الربع الأول من عام 2022 صدرت عن دار "نرد" للنشر والتوزيع رواية "عمامة وجسد" للكاتبة اللبنانية "دلال زين الدين" التي ودَّعت الحياة منذ أيام قليلة إثر زلزال أنطاكيا.
حاولت الكاتبة عبر 284 صفحة أن تقدِّم سردية ذاتية تتصارع فيها الأحداث عبر ثلاثة أقانيم محدَّدة (السياسة- الدِّين- الجنس) لتربط بين السلطة الدينية والسياسية وبين تأثيرهما في البنية الاجتماعية، مبرزة بذلك ملامح الواقع كما هو، ومتعمِّدة إظهاره من دون أي رتوشات تجمِّله وتحسِّن من مظهره في عين القارئ. ويحيل عنوان الرواية "عمامة وجسد" بوصفه عتبة نصية أولى على هوية المتن الذي يعالج قضية شائكة ترتبط ارتباطاً أنطولوجياً بالمعنى المختزل في العنوان المختار، فيشكِّل المتن امتداداً حيوياً له حين تتكشَّف المدلولات التي يترقبها المتلقي بأفق توقُّعه في أثناء عملية القراءة.
في الرواية التي تدور معظم أحداثها في جنوب لبنان -الحيز المكاني الأهم- سنقف وجهاً لوجه مع العديد من الشخصيات التي تمثِّل نماذج إنسانية مختلفة ومتناقضة في آن معاً، إذ تستمدُّ الشخصيات هذا التنوع من البيئة المكانية ذاتها والتي تعدُّ منطقة مضطربة سياسياً وأمنياً بسبب صراعاتها الداخلية بين الأحزاب من جهة، وحربها مع إسرائيل من جهة أخرى، وتتراوح هذه الشخصيات بين النموذج السلطوي (السياسي والديني) الذي يمارس صلاحياته على حساب النموذج الآخر المتمثِّل بالإنسان البسيط والساذج في بعض الأحيان والذي لا همَّ له سوى أن يحصِّل لقمة عيشه وأن يتجنَّب ما أمكنه الاصطدام بالحدود التي تفرضها السلطة.
ويمكننا أن نقول بناء على ذلك إنَّ الموضوعات التي تمسُّ السلطة باختلاف أشكالها وميادينها تحظى باهتمام كبير في العالم وليس فقط في مجال الرواية، إذ طالما عاش الإنسان عبر سيرورته التاريخية حالة من الجدل بين مواجهة السلطة المهيمنة عليه وبين انتزاع حريته والنضال من أجل العيش بعيداً عن استبدادية أي سلطة سواء أكانت سياسية أو دينية أو حتى اجتماعية، فكلما زاد الاستلاب والاستبداد السلطوي أكثر زادت رغبة الإنسان في مواجهة هذه الهيمنة التي شكَّلت مع مرور الزمن حالة من الكبت الجماعي لدى المجتمعات، لذلك فإنَّ الكاتبة تقارب بكلِّ جرأة تابوهات حرَّمت السلطات الاستبدادية والأعراف الاجتماعية التي تعود في أصولها لما هو اجتماعي حيناً ولما هو ديني حيناً آخر تداولها بين الشعوب من خلال اتباع سياسة التخويف التي أرهبتهم وضاعفت من كبتهم.
يظهر السلطوي في الرواية بكامل قوَّته وقدرته وحياته بينما الموت والذل والفقر يكون من نصيب الناس البسطاء الذين ينساقون بشكل أو بآخر وراء من كانوا يعتقدونهم أيقونات دينية أو سياسية
تركِّز الكاتبة في روايتها على التحولات التي طرأت على الإنسان في أثناء محاولة تصييره مشروعاً صالحاً لخدمة السلطة، فمن ناحية الشكل أو المظهر الخارجي يمكن أن تكون (اللحية) كما تشير إلى ذلك الكاتبة مظهراً صالحاً لخدمة حزب سياسي أو مذهب ديني حيث "ترتفع أسعار اللحية في الحروب ارتفاعاً جنونياً، لذا يُرخي الجميع لحاهم لأسباب تجارية بحتة"، ومن أبسط الأمور الشكلية تنتقل الكاتبة إلى الإشارة إلى حقيقة استغلال النسق الديني لخدمة السياسي من خلال أدلجة المنظومة الاجتماعية وفق مصالحها وأهوائها، خاصة في البيئات الاجتماعية التي تحكمها وتتحكَّم بها جملة من المعتقدات الدينية والاجتماعية القائمة على أساس العادة ليس إلا، إذ تلج تلك المعتقدات إلى داخل الأسرة وتتحكَّم في نمط عيشها وأسلوب تربيتها، بل تتحكَّم حتى بعدد أفرادها بحجَّة "أنَّ الأمة الإسلامية ينقصها كثير من الرجال" فلا مشكلة تواجه السلطة السياسية المستندة إلى إيديولوجية دينية عقائدية ما دام من سيولد في هذه البلاد سيرضع حليب الخنوع لها ويُربَّى ليدافع عن وجودها، فيكون مصدر قوة لهذه السلطة من دون أن تبالي بما يتحمَّله هذا الإنسان في سبيل خلودها على كرسي الحكم وفي سبيل بقائه على قيد الحياة.
ويظهر السلطوي في الرواية بكامل قوَّته وقدرته وحياته بينما الموت والذل والفقر يكون من نصيب الناس البسطاء الذين ينساقون بشكل أو بآخر وراء من كانوا يعتقدونهم أيقونات دينية أو سياسية لذلك يقول أحد الشباب للشيخ علي قبل تنفيذه لعملية عسكرية "إدعينا بالشهادة مولانا، النصر مهمتكم أنتم"، فرجال السلطة لا يجنون الانتصارات فقط بل هم مخولون باسم الدين بمنح تأشيرات الدخول إلى الجنة اعتماداً على ثنائية (الشهادة أو النصر) التي تمَّ التسويق لها تسويقاً إيديولوجياً يتناسب مع غايات السلطة السياسية.
ومن خلال العلاقة التي تربط بين الشيخ علي وليلى الفتاة اليتيمة والفقيرة تحاول الكاتبة تفسير الارتباطات التي تجمع بين الجنس والدين ومن ثمَّ السياسة، فتطرح قضية زواج المتعة بوصفها قضية تمسُّ بشكل مباشر العلاقة المقدَّسة التي تربط بين الرجل والمرأة من الناحية الاجتماعية والتشريعية، فقد حوَّلت السلطة السياسية العلاقة المحرَّمة بينهما إلى علاقة محلَّلة ومشرعنة بحجة خدمة الدين، "هم أنفسهم الذين أفتوا لنا بحرمانية مصافحة المرأة للرجل، أفتوا لنا بجواز المتعة بينهما، ومن ذلك اليوم نحن لا نصافح لكن نزني باسم الدين"، فقد حوَّلت السلطة الدينية اعتماداً على خلفيتها السياسية الجسدَ لأداة طيعة تمارس عليه سلطتها الذكورية بشكل يعيد الإنسان إلى مرحلة الهمجية والبدائية حيث تسيطر العلاقات التي لا تحكمها أيُّ ضوابط.
لقد أوهم الشيخ علي عبر زواج المتعة ليلى الفتاة الصغيرة التي لم تتجاوز ستة عشر ربيعاً من عمرها أنَّها تستطيع بجسدها أن تتقرَّب من الله، فبات جسدها أداة لجمع الثواب عندما أقنعها بأنَّ الله يبني لها القصور في الجنة مقابل منح جسدها، تقول: "جاء حبك على شكل صفقات رابحة أبرمتها مع جسدي الطري، عندما أخبرتني أنه مقابل كل ساعة متعة أقضيها معك، سيُبنى لي قصرٌ جديدٌ في الجنة" والمفارقة الواضحة تبدو حين تملك ليلى عقارات وهمية تدفع ثمنها من جسدها بينما هي في الواقع تبيع ذلك الجسد من أجل أن تحصِّل لقمة العيش لها ولأخواتها، راغبة بالتخلُّص من الفقر الذي أنهكها في بيت مكوِّن من غرفة صغيرة يعيش فيها ثلاثة عشر فرداً يتقاسمون تحت سقفه خوفهم وجوعهم وأحلامهم.
اشتغلت الكاتبة على أحداث مسترجعة من الذاكرة البعيدة زماناً ومكاناً وامتدَّت هذه الأحداث حتى ارتبطت بالحاضر لتثبت ديمومة واستمرارية هيمنة السلطوي (السياسي والديني) على الواقع الاجتماعي، ولتكشف من خلال شخصية ليلى كيف يمكن للإنسان الفاقد للوعي والمعرفة أن ينساق وراء عمامة تستر ربَّما الرأس ولكنَّها في حقيقة الأمر تنتزع قدسية جسدٍ حرٍ حين تجعله مستباحاً ليُقتل مئات المرات وبأشكال مختلفة.