يقف السوريون، اليوم، أمام مأساة بلدهم مكتوفي الأيدي، عاجزين عن القيام بأي فعل من شأنه أن يخفف من حجم الكارثة التي حلت بهم وبوطنهم في السنوات العشر الماضية من عمر الصراع الذي دمر الدولة والمجتمع، أو أن يعيدهم إلى دائرة القرار فيما يتصل بالاتفاقيات والمداولات التي تجري حول وطنهم ومستقبلهم.
على الرغم من أننا في صف الثورة نتحمل وزر التنازل عن قرارنا الثوري لصالح "الأصدقاء"، فإن هذا لا يستلزم، في ظني، التوقف عند جلد ذواتنا، واتهامها بالتفريط وبالمساهمة في إخراج السوريين من دائرة القرار، فبنية النظام السوري وتركيبته الأمنية وارتباطاته الخارجية تجعل من العنصر الداخلي ذا أثر محدود في أي صراع معه، وتجلى هذا واضحا منذ أن فتح النظام أبواب سوريا أمام الميليشيات الطائفية لتسانده في حربه ضد المجتمع السوري.
الهم المعيشي في مناطق الشمال السوري يترافق مع القصف اليومي الذي يقوم به الطيران الروسي، وصعوبات العيش في المخيمات، وانقطاع الأمل، وغياب أي بادرة للحل
التيه السوري اليوم تيه عام، فعلى المستوى الشخصي، يشغل السوريون اليوم في مناطق النظام هم واحد، هو الهرب من الجحيم الذي أوصلتهم إليه "انتصارات" النظام، والبحث عن مكان يجدون فيه مأوى لهم ولأبنائهم يكفل لهم أدنى مقومات الحياة البشرية. فحتى الفئة التي وقفت مع النظام تجد نفسها أمام خسارة كبيرة، بعد أن كانت تتطلع إلى المكتسبات الاقتصادية التي ستجنيها من وراء تهجير السوريين وقتلهم، إذ نظرت إلى الوضع العام على أنه مماثل لسياق الصراع بين النظام والإخوان المسلمين في الثمانينيات من القرن المنصرم، وأن النظام سيعود بعد "القضاء على الإرهابيين" ليحكم سوريا بالقبضة الحديدية نفسها التي حكم بها بعد مجزرة حماة عام 1982م، وسيوزع على مواليه ما سيحصل عليه من "انتصاره"، ولكن قصر نظر هذه الفئة جعلها لا تدرك أن النظام في حربه على الشعب دمر الموارد التي يمكن أن يستند إليها في قيامه بواجباته الأساسية، والتي قد تشكل رافعة له في سبيل عودته إلى ممارسة الدور المنوط به، على الأقل في تقديم الحد الأدنى مما يطلبه منه موالوه ومناصروه.
الهم المعيشي في مناطق الشمال السوري يترافق مع القصف اليومي الذي يقوم به الطيران الروسي، وصعوبات العيش في المخيمات، وانقطاع الأمل، وغياب أي بادرة للحل، وبخاصة مع الإخفاق في بناء منظومات سياسية وعسكرية ومدنية، توازي التضحيات التي قدمها جمهور الثورة. وعلى الرغم من أن الحالة الاقتصادية، في المناطق التي تسيطر عليها "قسد"، تبدو أفضل من سواه، لأسباب تتصل بالموارد النفطية والثروات المائية والزراعية التي تزخر بها المنطقة، ولكن الخوف من المستقبل، وعدم القدرة على التنبؤ بالسلوك الأميركي، وانعدام الأفق، كلها عوامل تجعل السكان لا يختلفون عن نظرائهم في مناطق النظام والشمال السوري. إنها لحظة تيه مديدة تبدو مثل ثقب أسود يستهلك حيوات الناس وآمالهم.
لننتقل إلى التيه الإيديولوجي في جانب الثورة، الجانب الذي يهمنا -نحن جمهورها- في المقام الأول. إن محاولة البحث عن صيغة حل ما للكارثة السورية لا بد أن تستند إلى إحدى المنظومات السياسية القائمة، والتي تعتمد عليها الدول في قيامها، وتعريفها لنفسها. ولكن المشكلة التي يواجهها السوريون، اليوم، أن كل المنظومات والأفكار التي يمكن الاستعانة بها هي منظومات منتهية الصلاحية، أو على الأقل لا يمكن تطبيقها. فجزء كبير من تلك الأنظمة السياسية التي نفكر بأنها قد تكون رافعة الحل المأمول كانت وليدة مراحل تاريخية سابقة، وثمرة عوامل سياسية واقتصادية وجيوسياسية يبدو من المستحيل تبيئتها سوريا. لقد كانت الثورة السورية مذبحة حقيقية لكل الإيديولوجيات والرؤى والأفكار التي يتحرك داخلها العقل السياسي العربي الحديث، فالحديث عن الدولة الوطنية هو نوع من الرغبة في نقل تجارب ناجحة لدول أخرى، تشكلت فيها الهوية الوطنية عبر مراحل تاريخية، وفي ظروف مختلفة عما نشهده في سوريا، وهو حديث يقترب من حديث الأمنيات أكثر منه تفكيرا عقلانيا منطقيا، ولاسيما في حالة ثورة تحولت بفعل عنف النظام إلى حالة احتراب عابر للحدود. لهذا، تبدو الهوية الوطنية بعيدة من التحقق أولا، وعاجزة عن احتواء الولاءات ما قبل الوطنية، ولا سيما في لحظة صراع تلك الولاءات على كل شيء بدءا من العلم والنشيد، وليس انتهاء بالنظام السياسي وشكل الحكم.
سقوط الإيديولوجيا الوطنية تبعه سقوط وهم التضامن العربي أو الطرح العربي الذي عول عليه المتظاهرون في البداية، فبعد أن انخرط العرب في الصراع السوري في بداياته، نرى جزءا كبيرا منهم، اليوم، يسارع لتأهيل النظام وإعادته إلى جامعة الدول العربية، وفتح قنوات التواصل معه، وآخرها محاولات الأردن التي جاءت فيما يبدو نتيجة لتفاهمات دولية تسعى لتخفيف الضغط على النظام، بعد أن شارف على الموت الاقتصادي. إن دولة مثل مصر- وهي قاطرة المشروع العربي تاريخيا- لا تخفي وقوفها إلى جانب النظام وسعيها لإعادة تأهيله، ناهيك عن تغاضيها عن الدمار الذي قام به للأمن القومي العربي الذي تدعي الحفاظ عليه، ولولا الضوء البرتقالي الأميركي لرأينا سفارات كثير من الدول العربية مفتوحة في دمشق. لقد تنكر السوري للعروبة، بعد أن تنكرت هي له، وأصبحت شماعة تسوغ بها الأنظمة الحاكمة الانفتاح على نظام، كان ومازال أكبر خطر على الأمن القومي العربي.
مثلما انكسر المشروع الإسلامي والطرح القومي، انكسر أيضا وهم الركون إلى قيم الحرية والديمقراطية، والحديث عن حقوق الإنسان
ومع أن "المشروع الإسلامي" لقي كثيرا من الصدى داخل الشارع السوري الثائر، وخصوصا مع دخول التنظيمات ذات الصبغة الإسلامية، فإن هذا المشروع يلفظ اليوم أنفاسه الأخيرة أيضا. فالمقاتلون الأجانب الذين جاؤوا للقتال إلى جانب الثورة، سرعان ما تحولوا إلى أعداء لها، وانغمسوا في تكفير أصحابها، والمزاودة عليهم، وقتلهم، وفي الطرف الآخر جاءت ميليشيات طائفية ثأرا لشخص قتل قبل ألف وأربعمئة سنة تقريبا. أما الدول التي قامت على إيديولوجيا إسلامية خالصة كالباكستان، فقد وقفت مع النظام في الأمم المتحدة، وصوتت ضد القرارات التي تدينه. لقد انهار ما يسمى المشروع الإسلامي، بعد أن ثبت أنه خرافة مستمدة من تاريخ قديم غطت عليه التوجهات القومية للدول ومصالحها في المقام الأول.
ومثلما انكسر المشروع الإسلامي والطرح القومي، انكسر أيضا وهم الركون إلى قيم الحرية والديمقراطية، والحديث عن حقوق الإنسان. ففي اللحظة التي كان فيها السوريون بأمس الحاجة إلى حماية من الطيران الذي يقصف بيوتهم، ويقتل أطفالهم ويشوه أجسادهم، كانت الدول تغض الطرف عن المجزرة الرهيبة المستمرة، وكانت المنظمات العاملة في الشأن الإنساني تقدم دورات في حل الصراع والسلم الأهلي، وفي أحسن الأحوال تتبرع بمعدات تساعد على إخراج الناس من تحت أنقاض الأبنية التي يطولها القصف القادم من الطيران الروسي وميليشيات النظام الطائفية. هكذا، سقط الرهان على القيم الإنسانية التي أصبحت مجالا للتندر بين السوريين.
وسط هذا الانهيار التام، يبرز السؤال المركزي أمام السوريين اليوم في صيغته الكلاسيكية: ما العمل؟ لقد انتهت "سوريا الأسد" إلى غير رجعة. هذا أمر لا يشك فيه إلا "شبيح أسدي" يرى العالم من منظار "أسدي"، و"سوري مكلوم" دمر فيه النظام على مدى خمسين عاما القدرة على رؤية الأمور أبعد من سياقاتها المرحلية، بسبب ما زرعه عنف النظام من خوف في نفوس أجيال من السوريين. يبقى المشروع الأساسي اليوم هو في كيفية استعادة سوريا، أو على الأصح إنقاذها من الموت المحتم الذي يحيط بها، وبناء نظام جديد يبدو أنه بحاجة إلى قفزة خارج فضاء الإيديولوجيات والرؤى الميتة.