حظيت فزعة أهالي دير الزور الأخيرة لأهالي مدينة الحسكة بترحيب شعبي واسع، وأشادت بها صفحات السوريين على وسائل التواصل الاجتماعي، وكان لافتا للانتباه التركيز على أنها مؤشر إلى بقاء الشعور الوطني حيا في النفوس بعد سنوات طويلة من النزاع الذي جرت فيه بحار من الدماء، وتفككت فيه الجغرافيا السورية إلى جزر معزولة ترزح تحت احتلالات متعددة.
غير أن هذا المديح حجب رؤية سبب الفزعة، وهو أزمة المياه العميقة التي تمر بها سوريا، والتي تحولت في العامين الماضيين إلى ما يشبه الكارثة المائية التي أطلت برأسها من "رحاب الجزيرة أرض الخضرا والمية"، على ما كنت تردده إشارة البرنامج التلفزيوني الخاص بمحافظة الحسكة على شاشة القناة الأولى في التلفزيون السوري، في مؤشر إلى استفحال أزمة العطش على امتداد البلاد.
غالبا ما تلقى على كتف النظام كل المشكلات السورية الحالية، على اعتبار أن "جسمه لبيس"، وهو كذلك حقا، غير أن أزمة المياه أزمة تتداخل فيها عوامل متعددة، ربما كان النظام أقل المؤثرين فيها سوءا.
واجه صانع القرار الاقتصادي مسألة الانفجار السكاني باللامبالاة من جهة، وبالتهور في استنزاف الموارد الطبيعية من جهة ثانية
على الرغم من الانتقادات التي توجه عادة لنظرية مالتوس على اعتبار أنها نظرية موغلة في تشاؤمها وانحيازها للطبقات العليا، فإن النظرية تصدق على الموارد المائية التي لا تتزايد بمتتالية حسابية كالغذاء، ولكنها تتناقص أو تبقى على حالها في الآن الذي يزداد فيه عدد السكان. وفي الحالة السورية، تضاعف عدد السكان في العقود الماضية، فسياسة التشجيع على الإنجاب مكرسة في الدستور السوري، لأن التكاثر السكاني من أساسيات الأنظمة الشمولية، ولاسيما القومية التي تعنيها زيادة الناطقين باللغة الأم، وفي الحالة العربية كان ثمة عامل آخر هو عامل الصراع مع إسرائيل، إذ استقر في العقل القومي أن التفوق التقني الإسرائيلي لا بد أن يواجه بكثرة بشرية، ثبت مع كل أسف أنها جاءت من دون تخطيط.
واجه صانع القرار الاقتصادي مسألة الانفجار السكاني باللامبالاة من جهة، وبالتهور في استنزاف الموارد الطبيعية من جهة ثانية. ولم تكن تلك اللامبالاة إلا ثمرة لبديهيتين تتحكمان برؤية صانع القرار وتثويان في لا وعيه، الأولى بديهة دينية مفادها أن الموارد الطبيعية عطاء رباني لا ينضب، ولاسيما أن النص الديني يكرر هذا المعنى كثيرا، والأخرى تاريخية تقول إن منطقة الهلال الخصيب هي منطقة حضارات زراعية نشأت على ضفاف الأنهار، وهذه حقيقة جغرافية لا تتغير.
مستندا إلى هذين العاملين المتحكمين بلا وعيه، توسع صانع القرار في الزراعة لإطعام الأفواه القادمة إلى الحياة، وخصوصا أن فترة الحصار التي شهدتها سوريا في منتصف الثمانينيات دفعت البلاد لاعتماد سياسة الاكتفاء الذاتي، وهي سياسة ارتكزت على محصولين أساسيين: القمح والقطن، وهما محصولان شرهان للماء، أدى التوسع في زراعتهما في الحسكة إلى جفاف نهر الخابور بعد حفر آلاف الآبار على سرير النهر. هذا مثال على سوء إدارة الموارد الطبيعية نتيجة لمحددات تتحكم بالعقل الإداري السوري وتوجهه، وهي محددات لا علاقة للنظام بها على نحو مباشر، ولكنها جزء من المنظومة الفكرية العامة.
وتلحق بهذين العاملين الديني والتاريخي عوامل أخرى، لا يمكن تبرئة النظام منها، فالإهمال والترهل الإداري والفساد عوامل أدت إلى ندرة الموارد المالية المخصصة لإصلاح شبكات المياه وتجديدها دوريا، وتشير التقارير إلى أن نسبة الفقد في شبكات المياه نسبة عالية، وهو فقد لا بد أنه تفاقم في العقد الماضي نتيجة لعدم تبديل الشبكات التالفة ولما تعرضت له في أثناء قصف قوات النظام المناطق الثائرة بالأسلحة الثقيلة.
وإلى جانب هذه العوامل لدينا عامل خارج على إرادتنا، وهو أن مياه الأنهار السورية عابرة، فهي تنبع خارج الحدود السياسية للجمهورية العربية السورية، ولنأخذ هنا نهر الفرات مثالا على تداخل العوامل المؤثرة في السياسة المائية.
عطش الحسكة الذي رأيناه في الأسابيع الماضية هو رأس جبل الجليد الذي غطت عليه أخبار الفزعة والترحيب الذي صاحبها، وهي كارثة بدأنا نلمس عواقبها في انتشار الكوليرا في كل الجغرافيا السورية،
لا شك في أن المشاريع المائية التي أقامتها تركيا على نهر الفرات أضرت بحصة كل من سوريا والعراق من مياه نهر الفرات، ولكن الإنصاف يقتضي أن نذكر أيضا أن التبدلات المناخية بدأت تلاحظ في تركيا نفسها، وهي بلد لا يشكو من عجز مائي، فتناقص الهطولات الثلجية على هضبة الأناضول التي تشكل الخزان الجوفي لنهري الفرات ودجلة دفع تركيا إلى تقليص التدفقات المائية إلى سوريا والعراق. وزاد الأمر سوءا في العقد الماضي التجاذبات السياسية التي حولت المياه إلى أداة ضغط سياسية لدى كل الأطراف الداخلة في الصراع السوري. ومن الأمثلة شديدة الوضوح على تحول المياه إلى أداة في الحرب السورية أن مدينة الباب تتغذى بمياه نهر الفرات التي تصلها عبر خط جانبي مأخوذ من الخط الرئيس الواصل بين محطة الضخ في الخفسة ومدينة حلب، ولكن النظام الذي سيطر على الخط بعد التفاهمات الأميركية الروسية التي تلت هزيمة داعش قطع المياه عن مدينة الباب التي تخضع لسيطرة قوات الجيش الوطني المدعوم من تركيا. أما مدينة منبج التي يصلها خط مائي من محطة الخفسة نفسها، فتخضع لاتفاق آخر تستمر بموجبه قوات سوريا الديمقراطية بتغذية محطة الخفسة بالكهرباء القادمة من سد تشرين، في مقابل سماح قوات النظام باستمرار تدفق المياه إلى مدينة منبج.
عطش الحسكة الذي رأيناه في الأسابيع الماضية هو رأس جبل الجليد الذي غطت عليه أخبار الفزعة والترحيب الذي صاحبها، وهي كارثة بدأنا نلمس عواقبها في انتشار الكوليرا في كل الجغرافيا السورية، ولاسيما منطقة الشمال حيث تجمع الملايين من المهجرين من المناطق السورية المختلفة، إذ أسهم شح المياه وشبكات الصرف الصحي العشوائي في تلويث مياه الشرب التي تعتمد على الآبار التي يتناقص مستوى المياه فيها عاما بعد آخر، وجفاف مياه الآبار التي تغذي مدينة الباب آخر حلقة في سلسلة المؤشرات على الكارثة المائية التي سنواجهها بعد سنوات، والتي قد يستحيل معها العيش في بلد كان يوما سلة غذاء روما على نحو ما تذكر نصوص المؤرخين.
ليس هذا الكلام من باب المبالغة، ولا من باب التهويل أو التخويف، لأن الحلول ممكنة دائما، ولكنه صيحة إلى جانب صيحات آخرين، فلا يملك صاحب القلم إلا أن يصيح محذرا من الكارثة التي يكاد يراها ماثلة أمام عينيه.