التناصّ يقتضي الرجوع إلى نصوص سابقة سواء أكانت معاصرة أو قديمة، وأخذ ما يتناسب مع النصوص الجديدة، وهذا الأمر يتطلّب مخزوناً معرفيّاً لحفظ ما سبق من نصوص. وهذا ما أشار إليه ابن خلدون في مقدّمته حين قال: "اِعلم أنّ لعمل الشعر وإحكام صنعته شروطاً أوّلها الحفظ من جنسه، أي من جنس الشعر؛ حتّى تنشأ في النفس ملكة يُنسَج على منوالها.. ومن كان خالياً من المحفوظ فنظمه قاصر رديء، ولا يعطيه الرونق والحلاوة إلّا كثرة المحفوظ"(1).
وإن كان حديث ابن خلدون عن صناعة الشعر فإنّنا نستطيع تعميمه على جميع الفنون الأدبيّة من شعر ونثر، وهذا ما تميّز به الشاعر والكاتب العربيّ الجزائريّ المعاصر محمّد جربوعة.
يُعدّ القرآن الكريم والحديث الشريف من أهمّ روافد التجربة الشعريّة لدى الشعراء المعاصرين باعتبار التراث الدينيّ من مقوّمات الشخصيّة العربيّة الإسلاميّة، والقارئ لمحمّد جربوعة يظهر له حرص الشاعر وإتقانه في توظيف الخطاب القرآنيّ والحديث النبويّ في قصائده بما يتلاءم مع السياق، ما يمنح قوةً لغوية ودلالية لنصّه الشعري من جهة، ورونقاً وجمالاً لقصائده من جهة أخرى.
كيد النساء
أكثر جربوعة من التناصّ القرآنيّ في قصائده، وهو لا يسوقه في النصّ متكلّفاً يحشو به النصّ حشواً، أو يدخله في ثناياه فيصير النصّ كأنّه خطبة وعظٍ وإرشاد، ففي قصيدته "كيدكنّ لعظيم" التي يظهر التناصّ القرآنيّ واضحاً في عنوانها مع قوله تعالى: {إنّ كيدكنّ عظيم} يوسف 28. والقصيدة تروي قصّة امرأة تدخل صفحة شاعر على موقعه الإلكترونيّ أو الفيس بوك، فتقوم بمناورات حذرة ومحكمة التدبير لتتمكن من التواصل مع الشاعر، ولتبدأ مناورتها بمجرّد إعجاب أو إشارة أو تعليق ثمّ تكتب له:
"أنا من هواة الحرف/ أغرق حين أقرأ شعركم/ في نصف شبر من قصيدْ..".
ثمّ تناور قائلة: "إن كان عندك بعض وقت/ سوف أسأل.. إن سمحت.. دقيقتين../ ولن أزيدْ/ وعليك تنبيهي إذا أحسست أنّي قد تجاوزت الحدودْ/".
إلى أن تنتهي إلى غرضها الذي خطّطت له ببراءة ماكرة فتقول:
"إن سمحت/ أريد رقمك.../ وليكن طلبي الوحيدْ/ فلربّما أحتاجه يوماً لفهم قصيدة/ أو للسؤال عن الذي استعصى على فهمي ..... / ومنكم نستفيدْ".
وفي خطابه للمرأة المفتونة بشعره، يقول الشاعر ناصحاً:
"لن تفهمي تقويم عام الشعر/ إن لم تخلعي نعليكِ/ في باب الجمل..".
وهنا أيضاً نلحظ التناصّ مع قوله تعالى: {فاخلع نعليك إنّك بالوادي المقدّس طوى} طه 12.
والغائص في قصائد جربوعة يدرك مدى تأثّره بقصّة سيّدنا يوسف عليه السلام؛ إذ يقول في إحدى قصائده:
وضعَتْ على فمها رقيق أصابع وتظاهرت بدموعها في خدّها
همست له أفلا تراني فتنـــــــــة فأسرّها في نفسه لم يبدهــــــا
فقد تمثّل الشاعر في البيتين السابقين قصّة النبي يوسف في قوله تعالى: {قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل، فأسرّها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم} يوسف 77.
وكذلك في قوله:
طبع التمكّن في النسا غلّابُ ويقال عن صدق النسا كذّابُ
فإذا بكين لديك أبشر إنّمـــــا يدهنّ لحمك ثمّ يأتي النــــابُ
ولهنّ في فنّ الغواية قصّــة وأقلّها القمصان والأبـــــوابُ
ففي هذه الأبيات إشارة واضحة إلى قصّة النبي يوسف مع امرأة العزيز (في تراثنا الديني نتداول اسمها "زليخة") حين تعرّضت له وحاولت أن تفتنه وتغويه.
ويتابع جربوعة في حديثه عن كيد النساء متأثّراً بالنصّ القرآنيّ فيقول:
يجرين خلفك في الغواية مدّة إن همْتَ (والشعراء يتْ...) في وادِ
فالتناصّ هنا مع قوله تعالى: {والشعراء يتّبعهم الغاوون ألم تر أنّهم في كلّ واد يهيمون} الشعراء 224ـ225.
وفي هذا إشارة إلى ما قطعه "الساعر" (الشاعر السائح) من صحارٍ وما عاناه من السفر لأجل محبوبته التي يتحدّث عنها فيواصل حواره مستقياً عباراته من آيات القرآن الكريم ليسبغ على شعره معانيَ محكمة وصلبة، وليضفي عليه أبعاداً جماليّة توحي بالتأثّر والتأثير، وهذا التفاعل مع نصوص القرآن الكريم إنّما هو بعث لدلالات عاطفيّة.
وفي موضع آخر يقول جربوعة:
سبحان من يحيي الرميم بقول كنْ ويهزّ قلب الصخرة الصمّاءِ
ففي البيت السابق استند الشاعر إلى قوله تعالى: {وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم} يس 78.
وصايا السلم والحرب
قصيدة "أحد عشر كوكباً والشمس والقمر" هي من أروع القصائد التي دافع بها الشاعر عن الدين الإسلامي وضمّنها المعاني والقيم الإسلاميّة النبيلة، وتمثّل القصيدة مرافعة بوجه الإسلاموفوبيا، كما حوت ردوداً على الاتّهامات الموجهة إلى الإسلام، والتناصّ يبدأ من عنوان القصيدة ثمّ يبدأ الشاعر بمرافعته الشعريّة مدعّماً أفكاره بالأدلّة القرآنيّة والأحاديث النبويّة الشريفة. فتحدّث في القصيدة عن وصايا الحرب والسلام التي أمر بها الإسلام فيقول:
"في الحرب تسبقنا وصايا الله/ كونوا للذين تقاتلون بحربكم أهلا/ لا تقتلوا امرأة في الحرب/ أو شيخاً ضعيف الكفّ أو طفلا/ لا تقطعوا شجراً/ وفي أوقات راحتكم كما بين المعارك فاغرسوا النخلَ/".
ففي الوصايا السابقة تأثّر واضح بالأحاديث النبويّة التي تتحدّث عن آداب الحرب، كقول رسول الله صلًى الله عليه وسلّم: "إن قامت على أحدكم القيامة وفي يده فسيلة فليغرسها" البخاريّ 479.
ثمّ يتابع جربوعة في سرد وصايا السلم والحرب في الإسلام فيقول:
"لا تقطعوا في أيّ بئر حبلها/ فلربّما في القعر طفل يوسفيّ الحسن/ منتظر على أعصابه الحبلَ/". في إشارة لقصّة سيّدنا يوسف وإلقائه في البئر.
كما أشار الشاعر في القصيدة إلى كثير من معاني الرحمة في الإسلام التي تدعّمها الأحاديث النبويّة المعروفة؛ فتحدّث عن حنين الجمل لرسول الله، وكذلك لحنين الجذع، وعن المرأة التي سقت كلباً فدخلت به الجنّة، كما أشار إلى بعض من رخص الصلاة في قوله:
"قالوا يُخفّف في الصلاة تجوّزاً/ لبكاء طفل أمّه في الصفّ".
من خلال ما تقدّم نجد أّنّ الشاعر والكاتب محمّد جربوعة يمتلك مخزوناً كبيراً يؤهّله للكتابة من نصوص أخرى غائبة، والغرض من ذلك هو ترسيخ الفكرة وتوكيد المعنى، وكان التناصّ وخصوصاً الدينيّ ملاحظاً في شعره، وهذا ما عكس ثقافة الشاعر الواسعة واطّلاعه على الموروث الدينيّ وقدرته على توظيف ذلك الموروث بالشكل المناسب والوقت المناسب.
محمّد جربوعة
شاعر وكاتب وإعلاميّ جزائريّ معاصر، من مواليد 1967 بقرية الثنايا التابعة لولاية سطيف شرقي الجزائر، حفظ القرآن الكريم بثلاث قراءات (ورش ـ حفص ـ قالون) حاصل على بكالوريوس في الزراعة، ومكث في سوريا لأكثر من سبعة عشر عاماً. شغل عدّة مناصب، وعمل مستشاراً إعلاميّاً ومذيعاً ومعدّ برامج في صوت الوطن العربيّ الكبير في ليبيا ومدير تحرير مجلّة سومر و باحثاً في مركز التوثيق القوميّ في سوريا، كما شغل العديد من المناصب الأخرى في سوريا وغيرها.
يُعدّ من أكثر الإعلاميّين والكُتّاب العرب إنتاجاً؛ حيث جاوزت إصداراته الستّين مؤلّفاً في الشعر والنثر والرواية والسياسة والفكر.