كانت سابقةً غير مألوفة، أن اتهم حسن نصر الله أمين عام حزب الله اللبناني، في واحدة من إطلالاته الأخيرة، المعارضة العلمانية السورية بأنها عميلة لإسرائيل، وكأنه بهذا حاول تمييزها عن المعارضة الإسلامية التي اكتفى باتهامها أنها عميلة لأميركا.
لا يخفى على أحد، ومن بينهم نصر الله طبعاً، الفارق بين الحالتين. فالأولى حالة مرذولة تعدم مرتكبها في الوجدان الشعبي العربي عموماً، أما الثانية فتبدو وكأنها وجهة نظر في التحالفات. حقيقةً كان لافتاً دخوله في هكذا تفصيل، وهو الذي طالما أشار لمن ثاروا ضد سلطة الأسد، جملةً دون تمييز، بأنهم إرهابيون وداعشيون، ولم يدخل يوماً في خطوط التمايز بين تكوينات المعارضة السورية! سوف أعود بعد قليل، إلى ما أعتقده سبب التصريح.
في الأيام الأولى للثورة، جمعني لقاء بشخص في مدينتي حمص. كنت أعلم مسبقاً أنه بميولٍ سياسية إسلامية. وعلى عادة الناس في تلك الأيام، لم يكن هناك حديث سوى ما جرى في درعا بدايةً، وفي باقي أرجاء سوريا تالياً. رأى الرجل بما يحدث في سوريا فتنةً، وعليه فإن الإسلام يأمر بالتزام البيوت في أوقات الفتن، مستشهداً بالكثير من الآيات والأحاديث النبوية، التي تتناول هذا الأمر، وآخرها كان الحديث الذي ينتهي بأمر الرسول للمؤمنين بأن: "كونوا أحلاس بيوتكم"، بمعنى اعتزال أي فعل والتزام البيوت.
في 18 نيسان/أبريل 2011، ولم يكن قد مضى على موعظته تلك أكثر من أسبوعين، سأقابل الرجل في تشييع الشهداء الذي سبق اعتصام الساعة الشهير في حمص. مع التبدلات السريعة في مواقف الناس خلال تلك الفترة، قلت لنفسي حسناً، ربما ما كان الرجل لا يستطيع المجاهرة برأيه خوفاً من المخبرين، أو أنه أعاد التفكير وظهر له أن الدعوة لالتزام البيت في زمن الثورة على نظام الجريمة والاستبداد هو منقصة في الأخلاق.
سأعرف بعد مرور زمن ليس بالقليل أنه يميل إلى جماعة الإخوان المسلمين تحديداً، إن لم يكن منتمياً لها، وأن الجماعة كانت قبل انطلاق الثورة في حوار غير مباشر (عبر حركة حماس) مع نظام الأسد لتسوية أوضاعها في سوريا، وهذا لا يدين الجماعة بطبيعة الحال الذي كنّا عليه في تلك الفترة. ولذا فإن قرار مشاركتهم العلنية في الثورة قد تأخر قليلاً.
يأخذ الكثير من العلمانيين على مجموعات من أقرانهم دخولهم في تحالف مع الإسلاميين، عند تشكيل الواجهات السياسية للثورة في البدايات، وهو مأخذ نوقش كثيراً، وما زال يستحق النقاش حتى اليوم.
ولكن، هل كانوا وحدهم من تأخر عن الالتحاق العلني بالثورة منذ يومها الأول؟ بالطبع لا. فملايين السوريين كانوا في حالة تردد. بل أكثر من ذلك، هناك من كان يراقب ويدرس إلى أين ستميل الكفّة ليقرر بعدها أين سيضع قدميه، وجميعكم يعلم عن أناسٍ انحازوا للثورة على تلك القاعدة الانتهازية، ممن ندموا بعد سنوات، فمنهم من عاد إلى (حضن) النظام، ومنهم من مازال لديه بعض الخجل فلم يفعلها بعد.
يأخذ الكثير من العلمانيين على مجموعات من أقرانهم دخولهم في تحالف مع الإسلاميين، عند تشكيل الواجهات السياسية للثورة في البدايات، وهو مأخذ نوقش كثيراً، وما زال يستحق النقاش حتى اليوم بعد أن انتهينا إلى ما نحن عليه. ومع ذلك فإن أية ثورة وطنية لا يمكن لأحد أن يتفرد بتمثيلها، ومن الصحي اعتماد تحالف يقوم على المشتركات الوطنية، ولو بحدودها الدنيا. والجميع يعلم كيف كانت جماعة الإخوان تقدّم نفسها كجهة وطنية سورية، منذ ما قبل إعلان دمشق بحسب المراجعات والوثائق التي أصدرتها.
للأسف ما حدث في سياق الثورة أن أفراد الجماعة وقادتها، عندما قويت شوكتهم مع مرور الوقت، اعتبروا أنهم وحدهم يمثلون السوريين جميعاً، باعتبار أن الصبغة الغالبة للمجتمع السوري هي أنه مجتمع مسلم سنّي. عند تلك النقطة كانت إحدى أكبر الكوارث في مسيرة الثورة، (قد يقول البعض بل أكبرها هي لحظة التحالف معهم). فأفسدوا وأهلكوا حرث ونسل الثورة، وعندما كانت تُوجَّه لهم مثل تلك الملاحظات من الحلفاء، كانت تأخذهم "العزَّة بالإثم"، لينقلبوا على كل من تورّط بالتحالف معهم.
قبل فترة قريبة، شاهدتُ مقابلة تلفزيونية لشخصية سورية بارزة محسوبة على الجماعة، بدا الرجل خلال فقرات من اللقاء، وكأنه يروّج لتغيير في الموقف الإيراني من الأسد سيظهر قريباً للعلن، سارداً معلومات، أفاد بأنها موثّقة، أن مسؤولين إيرانيين وصفوا الأسد بأقذع الأوصاف خلال لقاء مع جهة رسمية عربية، ولن يكون من المستغرب أن يتخلّوا عنه في وقتٍ ما، باعتبار أنه خانهم.
أعتقد أننا سنشهد إعادة انتشار، حسب التعبير العسكري، أو إعادة تموضع سياسي، مبنيّ وقائم في ذات الحقل الانتهازي البراغماتي، يهدف، إن نجح، لتقاسم شكلي للسلطة مع نظام الأسد، ضمن تسوية إقليمية تضرب عرض الحائط بكل تضحيات السوريين.
وللمصادفة الغريبة، ظهرت قبل أيام صورة لشخصية فاعلة من الجماعة (قيل أنه مستقيل!) بلقاء جمعه مع (سماحة السيد، حسب وصفه) عمار الحكيم الرئيس السابق للمجلس الأعلى الإسلامي ومنظمة بدر، والرئيس الحالي لتيار الحكمة الوطني. وصورة أخرى مع قاسم الأعرجي وهو من فيلق بدر أيضاً، وواحد من أهم قادة الحشد الشعبي العراقي، وكان الأعرجي طالب بإقامة تمثال لصديقه الشخصي قاسم سليماني في بغداد بعد مقتله. لمن لا يعلم منظمة بدر (فيلق بدر) هو تشكيل عسكري عراقي حارب بقيادة الحرس الثوري الإيراني ضد الجيش العراقي إبان الحرب العراقية الإيرانية، ودخل إلى العراق في الأيام الأولى للاحتلال الأميركي، وهو حالياً جزء أساسي مما يسمى الحشد الشعبي، الشهير بارتكاباته الإجرامية في سوريا.
الآن، بالعودة إلى تلك الإشارات، كلام نصر الله التمييزي المُستحدَث وغير المسبوق، الذي بدا أنه إيراني، عن المعارضة السورية، ثم الترويج لعداء إيراني مستجدّ للأسد سيظهر في قادمات الأيام، وصولاً إلى صور اللقاءات الأخيرة مع شخصيات عراقية موالية لإيران، فإننا لا بد سنلحظ أن في الأجواء رائحة لا تسرّ. وإن كانت تلك الإشارات الثلاث لا تكفي لبناء تحليل مُحكم، لكنها بالتأكيد ليست بلا دلالة، بل إنها كافية للقول بأن ما يبدو حتى الآن من المشهد، قد لا يكون سوى رأس جبل الجليد، لما يجري تحت الطاولة، وهذا إطلاقاً لا يدخل في باب الحسّ المؤامراتي، بل يشي بملامح لوحة علينا الانتظار لتتكامل قطعها شيئاً فشيئاً.
ولن يكون مجانباً للصواب القول، إنه مع فقدان أمل تلك التيارات بالوصول إلى السلطة عبر إزاحة الأسد، فلا بأس لدى الجماعة، المعروفة بالتقيّة والبراغماتية، من تقاسم السلطة معه، برعاية إقليمية من بعض العواصم التي لا تجد غضاضة من تحالف الإسلاميين مع نظام الأسد، وقد بدأت الكثير من تلك العواصم التطبيع مع الأسد، أو محاولة التطبيع معه.
إن كان انحياز الأشخاص وبعض التيارات للثورة في البدايات أملاً بأنها منتصرة، وسط آمال الربيع العربي، كان انتهازياً محمولاً على رؤية أن النظام ساقط لا محالة. فإن هناك انشقاقات عن خط الثورة (إن افترضنا بناءً على شعارات ونوايا البدايات، أنه ما زال للثورة خطاً واحداً) سوف تتبدى في قادمات الأيام، وأعتقد أننا سنشهد إعادة انتشار، حسب التعبير العسكري، أو إعادة تموضع سياسي، مبنيّ وقائم في ذات الحقل الانتهازي البراغماتي، يهدف، إن نجح، لتقاسم شكلي للسلطة مع نظام الأسد، ضمن تسوية إقليمية تضرب عرض الحائط بكل تضحيات السوريين.
انتشرت في السنوات الأولى لثورة السوريين مقولة شعبية تفيدُ بحمد الله على "نعمة تأخُّر النصر"، مما ساهم في رجوع الناس إلى دينهم القويم، وإلّا لكان النصر السريع سيجعل من سوريا بلداً يُقاد بقيمٍ غربية بعيدة عن الإسلام. استقوى الإسلاميون بالنتائج الواقعية لتلك المقولة وترسيماتها على الأرض، رغم أن واقع الخلاف هو في حقل السياسة وليس الدين، فتغوّلوا حتى على حلفائهم. السؤال الذي يتبادر للذهن اليوم، ماذا سيقول من آمنوا بتلك المقولة فيما لو تحقق ما تُشتمّ رائحة مقدّماته، فأمسى النظام الإيراني، بما له من تاريخ إجرامي في سوريا، بفضل نعمة تأخير النصر، حليفاً لتلك القوى؟