التفاوض من أجل التفاوض

2024.08.21 | 07:46 دمشق

آخر تحديث: 21.08.2024 | 07:46 دمشق

24242424242424242424
+A
حجم الخط
-A

إن المفاوضات هي عملية تفاعل بين طرفين أو أكثر بهدف التوصل إلى اتفاق معين. وعادةً ما يسعى الوسطاء لتقريب وجهات النظر بهدف الوصول إلى حلول مقبولة للجميع أو لتحقيق الحد الأدنى المطلوب للتوصل إلى الاتفاق.

وقبل عملية التفاوض، هناك مكونات تسلم الواحدة الأخرى؛ الأولى هي عملية التحضير للمفاوضات عبر تحديد الأهداف، ومن ثم التواصل وتبادل الآراء، وبعدها يبدأ التفاوض للوصول إلى المرحلة الأخيرة وهي عملية إغلاق الاتفاق وتوثيقه.

ولكن في بعض الحالات نجد أن طرفًا ما يقوم بالمفاوضات من أجل المفاوضات نفسها، وليس من أجل التوصل إلى اتفاق، بحيث تصبح عملية التفاوض ذاتها هي الهدف. وبينما تعد هذه حالة غريبة، إلا أنها موجودة. وفيما يتعلق بواقع التفاوض الحالي بشأن وقف العدوان الإسرائيلي على غزة، نجد أن نتنياهو غير مهتم بالوصول إلى اتفاق، بل يقوم بالمفاوضات لتحقيق عدة أهداف، ليس من بينها وقف الحرب كهدف أساسي.

يستعمل نتنياهو المفاوضات كأداة للحرب لا أداة للتهدئة ووقف الحرب. ويمكن أن نتوقف هنا عند بعض أهداف نتنياهو الفرعية من المفاوضات. أول هذه الأهداف هو كسب الوقت للوصول إلى مرحلة ما بعد الانتخابات الأميركية، وتجاوز هذه المرحلة التي لا يعلم من سيفوز فيها، الديمقراطيون أم الجمهوريون الذين يتمنى فوز مرشحهم دونالد ترامب ليكمل معه مشروع صفقة القرن الذي بدأه قبل مجيء بايدن.

وبالتالي، يعمل نتنياهو هنا على تهدئة ضغوط الإدارة الديمقراطية عليه من خلال المشاركة في عملية التفاوض.

إن محاولة التذاكي التي يقوم بها نتنياهو لها مخاطر كبيرة، حيث هناك إمكانية لضياع الفرص وموت عدد من الأسرى، وتدهور العلاقات مع الأطراف، وخاصة الوسطاء.

يعمل نتنياهو أيضًا على إرضاء الرأي العام الداخلي المطالب بتحقيق صفقة تبادل وإعادة الأسرى الإسرائيليين الموجودين لدى المقاومة في غزة إلى ذويهم. ومن خلال إدامة التفاوض، يبقي الأمل لدى ذويهم، مما يقلل من ضغطهم واحتجاجاتهم ضده، ويضعف قدرتهم على تأجيج الشارع ضده.

من زاوية أخرى، يريد نتنياهو إظهار أنه الطرف القوي القادر على تحقيق مزيد من التنازلات من المقاومة في ظل استمرار المفاوضات بالتوازي مع العمل العسكري على الأرض. وبذلك، يوظف مرونة المقاومة في عملية التفاوض في روايته، مما يجعله يستمر في عملية التفاوض بالتزامن مع العمليات الميدانية لتحقيق مزيد من التنازلات من المقاومة.

وفي هذا السياق، يهدف نتنياهو إلى انتهاك العديد من الخطوط الحمراء، مثل اغتيال القادة السياسيين وارتكاب المجازر ضد المدنيين، بهدف جر المقاومة إلى موقف يجعلها تنسحب من المفاوضات، وبالتالي يحملها المسؤولية عن فشل المفاوضات التي كان يسعى هو إلى إفشالها. ومع ذلك، لم تعطه المقاومة هذا الموقف حتى الآن، بالرغم من إدراكها لأهدافه وغاياته.

ومن خلال إطالة أمد التفاوض، يهدف نتنياهو إلى زيادة المعاناة الإنسانية لسكان قطاع غزة لإيصالهم إلى نقطة كسر مع المقاومة. لكن حتى الآن، لم ينجح نتنياهو في تحقيق ذلك بالرغم من الواقع الإنساني الكارثي.

إن محاولة التذاكي التي يقوم بها نتنياهو لها مخاطر كبيرة، حيث هناك إمكانية لضياع الفرص وموت عدد من الأسرى، وتدهور العلاقات مع الأطراف، وخاصة الوسطاء. كما أن هناك احتمال فوز الديمقراطيين في ظل تقدم أسهم هاريس، بالإضافة إلى خطورة توسع مجال الحرب وزيادة الضغط والعزلة على الاحتلال، وهذه أمور قد تخرج عن السيطرة. كما أن إطالة أمد المفاوضات سيزيد من مدة حالة الطوارئ وسيؤدي إلى زيادة التكاليف، وهو ما بدأت تظهر إرهاصاته في قيام المؤشرات الاقتصادية بتقليص تصنيف دولة الاحتلال.

الطرف الدولي الأقوى وهو الولايات المتحدة، التي تقدم نفسها كوسيط في هذه المفاوضات، هو الطرف الذي أحبط عبر الفيتو عدة مرات التوصل إلى وقف إطلاق النار.

ختامًا، لم تنجح استراتيجية التفاوض من أجل التفاوض تاريخيًا؛ إذ كانت تؤدي إلى إدامة الصراع وتوسعته، كما حدث في مفاوضات مؤتمر باريس للسلام عام 1919، أو انتهت بهزيمة المحتل كما حدث في فيتنام. وحاليًا، يضيف نتنياهو مزيدا من الشروط إلى ورقة التفاوض. وكما ذكرنا في العنوان، فإن نتنياهو وحكومته تمارسان هذه السياسة وتستمران في سياسة إحداث وقائع وحقائق على الأرض غير آبهتين بالضغوط ولا بالأبعاد الأخلاقية. وبهذه السياسة، يتعامل نتنياهو باستهتار وعدم احترام مع جميع الأطراف الدولية الداعية لوقف الحرب، خاصة أن سياسته في التفاوض من أجل التفاوض باتت مكشوفة للجميع.

للأسف، أيضًا، الطرف الدولي الأقوى وهو الولايات المتحدة، التي تقدم نفسها كوسيط في هذه المفاوضات، هو الطرف الذي أحبط عبر الفيتو عدة مرات التوصل إلى وقف إطلاق النار. وهو أيضًا منسجم مع فكرة وجود مفاوضات من دون حل، حيث يهمه أن تكون هناك مفاوضات ليظهر أنه حريص على الاستقرار والسلم والهدوء. لذلك، رأيناه يذهب إلى قرار في مجلس الأمن لإعادة رسم موقفه بسبب الضرر الداخلي الذي تعرض له. وحاليًا، بعد تسع زيارات من بلينكن لتل أبيب، لم ينجح في واحدة منها في تطبيق ضغوط حقيقية على نتنياهو. وربما يكون أحد التفسيرات أن الولايات المتحدة لا تريد الضغط الكافي، بل تريد فقط الحفاظ على سياق يخدم صورتها.