تعددت أشكال المعاناة التي يعيشها الشعب السوري بشكل يومي وعلى مدى اثني عشر عاماً، حتى بات من الصعوبة بمكان حصرها في قوالب معينة، لأن طبيعة التوحش المعاصر، أنتجت ضروباً من توحش الأنظمة على مواطنيها، لم تكن معروفة من قبل، فمن الخوف والرعب اليومي الجاثم على الصدور، إلى الاعتقال التعسفي والتقارير الكيدية والاختفاء القسري والتعذيب الطويل في أقبية السجون، والحواجز التي تمزق شوارع المدن وتمارس أبشع أنواع الإذلال والقهر على المدنيين العزل، ولا تستثني طفلا أو امرأة أو عجوزاً، ولا تنتهي هذه السلسة الطويلة من المعاناة بالفقر الذي بات حال السوريين أجمع باستثناء حفنة صغيرة من المنتفعين وشركاء النظام، كذلك التهجير داخل المدن السورية وخارجها والموت والقتل الذي ينتظرهم في البحر والجبال والغابات التي يعبرونها، فراراً من حياة لم تعد تشبه الحياة في شيء، وليست حياة المنافي بمنجاة عن الكثير من المعاناة وربما نلحظ اليوم تفشي الممارسات العنصرية ضدهم في الكثير من المدن، حتى بات السوري عبر القارات الثلاث التي توزع السوريون فيها، يشعر أنه مهدد في كل حين، وأن ما كان يتوهمه من سيادة حقوق الإنسان أو سيادة القانون تحميه في تلك البلاد التي فر إليها.
يفقد المهاجر بيئته الاجتماعية التي تشكل له حاضنة إنسانية وثقافية، وإلزاما اجتماعيا يحميه ويحول بينه وبين حياة اللامبالاة التي يعيشها اليوم كثير من شبابنا
حسب تقارير الهيئات الدولية فإن اللاجئين السوريين يشكلون ثلث عدد اللاجئين المتوزعين في أرجاء المعمورة، وربما يشكلون النسبة الأكبر من ضحايا الهجرة الذين ابتلعتهم البحار أو أغرقتهم قوات خفر السواحل منعا لهم من الوصول إلى شواطئ أوروبا، وفي مقدمتهم المهاجرون الذين غرقوا بين الشواطئ التركية واليونانية، ومع كل هذا تستمر قوافل المهاجرين السوريين، بالتدفق من كل حدب وصوب وبشكل يومي، مقامرين بأرواحهم وهم يسعون وراء حلم ضعيف بالوصول إلى بلد آمن.
بالرغم من جميع ما ذكر من معاناة السوريين المهاجرين إلا أنهم يحملون إلى جانب أعبائهم الكبيرة عبء مساندة من بقي من أهليهم في الداخل السوري فلا يتوقفون عن مشاطرتهم الحفنة القليلة من الأموال التي يتحصلون عليها بالعمل الشاق أو بالمعونات التي تصلهم بالحد الأدنى في أحسن الأحوال.
يفقد المهاجر بيئته الاجتماعية التي تشكل له حاضنة إنسانية وثقافية، وإلزاما اجتماعيا يحميه ويحول بينه وبين حياة اللامبالاة التي يعيشها اليوم كثير من شبابنا، وربما تكون هذه النقطة سبباً محوريا من أسباب تفكك العائلة السورية وشيوع حالات الطلاق أو ارتفاعها بشكل غير مسبوق، كما أنه خلق بيئة مناسبة لشيوع زواج القاصرات، والزواج العرفي الذي يحرم المرأة من أدنى حقوقها الزوجية، وتصبح عرضة لأصناف شتى من العنف الممارس بحقها، ولطردها من منزلها عند أية خصومة أو تنازع، وتضاف الى هذه المأساة نكبة الأطفال الذين كانوا نتيجة هذا الزواج الهش، فيتمزقون بين سطوة والدهم أو لا مبالاته، لذلك نجد أن نسبة الأمومة العازبة بين النساء السوريات في ارتفاع مضطرد، وهذا يولد بدوره سيلاً كارثياً من الأزمات التي تبدأ بسعي الأم لتوفير مصدر للرزق وإعالة هؤلاء الأطفال، وبالتالي عجزها عن تربيتهم بالشكل اللائق بهم، وتسربهم نتيجة هذا الواقع الصعب من المدارس وصعوبة توفير العناية الصحية والنفسية، الأمر الذي سيحرمهم من فسحة الحنان اللازمة ليكونوا أطفالاً أسوياء.
يشكل المهاجرون السوريون الثقب الأسود الذي يبتلع الطاقات والخبرات العلمية والمتخصصين، وهم في طليعة العقول المهاجرة التي تشكل نزيفاً لا يعوض من الطاقات البشرية، فتحرم منهم بلادهم التي فروا منها، ويضيع أكثرهم في بيئات لا تعترف بهم ولا بشهاداتهم أو خبراتهم أصلاً، ويضطر الكثيرون منهم للقبول بشروط العمل المجحفة التي تفرض عليهم، فيعملون بأجور دون الحد الأدنى المنصوص عليها في تلك البلاد، ويعملون في شروط غير إنسانية كما يتعرضون لتنمر أصحاب العمل وسرقة قسط كبير من مستحقاتهم دون أن تكون لهم جهة قانونية تحميهم.
لقد أصبح المهاجرون السوريون، داخل وخارج أوطانهم بؤساء العالم الجديد، وبات السلوك العنصري حيالهم أمراً مسكوتاً عنه، ولم تعد منظومة حقوق الإنسان ولا القوانين المحلية تحميهم
إضافة لكل ما سبق ذكره وما لم يذكر بعد، فإن صعود اليمين المتطرف في العديد من بلدان اللجوء وتنامي النزعات العنصرية، باتت توظف ورقة اللاجئين في سباقاتها الانتخابية ولعبة الحصول على أصوات الناخبين، وإلقاء اللائمة عليهم في الأزمات الاقتصادية والتضخم، بدل الاعتراف بفشل برامجهم التنموية، وفشل وعودهم الانتخابية، ولم يتوان بعضهم عن جعلهم علة في الأزمات الطبيعية الضاغطة والتي هي نتاج الطبيعة كانخفاض منسوب المياه، أو نتيجة انهيارات اقتصادية وحروب تحيط بالعالم أجمع، ومعظمها صنيعة الدول العظمى التي تعبث بمقدرات البشر عامة.
لقد أصبح المهاجرون السوريون، داخل وخارج أوطانهم بؤساء العالم الجديد، وبات السلوك العنصري حيالهم أمراً مسكوتاً عنه، ولم تعد منظومة حقوق الإنسان ولا القوانين المحلية تحميهم، ولم يقتصر الأمر عليهم وحسب، بل تعداهم للكثير من السوريين الذين يعيشون في بلاد أخرى منذ عقود طويلة، ويكفي أن يكون مكتوبا في وثيقة السفر أن مولد حاملها سوري حتى يكون عرضة لصنوف متنوعة من التضييق والمعاملة الرديئة في شتى معابر الدول ومطاراتها.
لقد صدقت فينا نبوءة الشاعر العراقي مظفر النواب "سنصبح نحن يهود التاريخ.. ونعوي في الصحراء بلا مأوى". فهل يستيقظ ضمير العالم؟ وينتقل من مرحلة إبداء القلق الإعلامي، إلى فعل إنساني يميط عنه وصمة العار هذه.