أعلنت وزارة الخارجية الكازاخستانية مع ختام الجولة 20 من "مسار أستانا" التي انعقدت في يونيو 2023 نهاية المحادثات الثلاثية، مؤكدة أن الاجتماع الأخير ضمن المسار حقق هدفه، نظراً لخروج النظام السوري من عزلته وعودته إلى الجامعة العربية.
إعلان إنهاء المسار من طرف كازاخستان بدا مفاجئا للدول الضامنة، لذا سارع المبعوث الروسي الخاص إلى سوريا ألكسندر لافرنتييف للتأكيد على عدم ارتباط المسار ببلد معين، وعزم الدول الضامنة على عقد جولة جديدة في وقت لاحق.
ويبدو أن كازاخستان أرادت من خلال الإعلان بشكل منفرد عن انتهاء استضافتها للمحادثات الثلاثية التملص من ضغوطات أميركية محتملة، إذ إن واشنطن لم تعد تنظر لمسار أستانا بإيجابية بعد أن أصبحت أولوية الدول الضامنة له تحويله لآلية تنسيق أمنية ضد تنظيم قسد المدعوم أميركياً، والمسيطر على مناطق واسعة من شمال شرقي سوريا، والراجح أن واشنطن مارست ضغوطاً خفية آنذاك على كازاخستان لإيقاف المسار رغبة منها بقطع الطريق على التنسيق لتقويض نفوذ قسد، ومن أجل تصعيد الضغط على روسيا عبر إفقادها قناة تنسيق مهمة على الساحة السورية.
وفي ظل التطورات على الساحتين الدولية والإقليمية التي أفرزتها بشكل أساسي المواجهات في قطاع غزة بين إسرائيل وفصائل المقاومة الفلسطينية، برزت الحاجة مجدداً إلى آلية التنسيق الميدانية والأمنية المتعلقة في سوريا.
بعد توقف "مسار أستانا"، وبالتوازي مع اندلاع المواجهات في غزة، استغلت إيران الظرف وعملت على تعزيز حضورها العسكري في الجغرافيا السورية، وكثفت عمليات نقل المعدات العسكرية والصواريخ، مستفيدة من فقدان قنوات التنسيق الأمنية والعسكرية بين الدول الفاعلة في الملف السوري.
حاولت إيران طيلة الأشهر الماضية توجيه مجهودها العسكري في سوريا ضد النفوذ الأميركي، ولذا باتت واشنطن تحتاج إلى المسار لكونها تركز على تطويق التصعيد الحاصل في المنطقة، ومنع توسعه خارج نطاق غزة، بالمقابل فإن عدم عرقلة القوات الأميركية المنتشرة شمال شرقي سوريا لعمليات مكافحة الإرهاب التي تنفذها تركيا من الجو ضد أهداف تتبع لحزب العمال الكردستاني، ضمِن لواشنطن أن لا تسعى أنقرة مرة أخرى لدفع المسار باتجاه الضغط على الجانب الأميركي.
من جهة أخرى، زادت الاحتكاكات بين الميليشيات المدعومة إيرانياً والقوات التركية المنتشرة في محافظة إدلب، وغضت روسيا الطرف عن التصعيد الذي بلغ ذروته في كانون الثاني الجاري عندما قصف الحرس الثوري الإيراني منطقة في شمال إدلب متاخمة للحدود التركية، مما فرض على أنقرة وطهران العمل على ضبط الإيقاع ومنع الانزلاق باتجاه توسع المواجهات وخروجها عن السيطرة.
الجانب التركي منذ البداية لم يكن متحمساً لإيقاف المسار، خاصة أن طهران ضغطت بشكل مكثف من أجل استبداله بمسار التطبيع الرباعي الذي يعترف بالنظام السوري طرفاً متساوياً مع كل من تركيا وروسيا وإيران، وبقيت الدبلوماسية التركية تركز على إقناع موسكو بالعودة إلى مباحثات أستانا، خاصة أن القوات التركية دخلت الشمال السوري وفق التفاهمات المنصوص عليها في هذا المسار، وقد ازدادت هواجس أنقرة مؤخراً من تجميد المباحثات مع نوايا طهران الواضحة لدعم تصعيد قوات النظام السوري ضد القوات التركية، وتلقيها مؤشرات على محاولة إيران تطوير التصعيد في إدلب إلى عملية عسكرية برية.
وفي ظل الحديث عن احتمالية وجود توجه للولايات المتحدة الأميركية لسحب قواتها من سوريا، ازدادت أهمية تعزيز التواصل بين الثلاثي الدولي الضامن لأستانا، لأن هذه الدول هي الأخرى لديها انتشار عسكري على الأراضي السورية، ومن الضروري أن تنسق فيما بينها استعداداً لسيناريو انسحاب أميركي مفاجئ تجنباً لحدوث صدامات.
على العموم، لم تحمل جولة أستانا رقم 21 أي جديد يذكر، سوى الدفع باتجاه عودة الهدوء مرة أخرى إلى محافظة إدلب، لكنها في الوقت ذاته أكدت على أهمية هذه الآلية لاستدامة الحد الأدنى من الهدوء، ووضع أسس لعدم تصادم الأطراف الدولية الفاعلة في سوريا.