icon
التغطية الحية

"الترامواي" العثماني الذي ساق الحداثة إلى دمشق

2022.12.24 | 21:36 دمشق

دمشق
+A
حجم الخط
-A

"من مآسي مشرقنا أن الحداثة الاجتماعية والفكرية التي تبدو في يومنا هذا بعيدة المنال بدأت تسري قبل أجيال في عروق أبنائه وبفضل روّاد مبدعين كان في وسعهم أن يحوّلوا هذه البقعة من العالم إلى منارة حقيقية للتقدّم والحضارة، هذا ما يرويه لنا سامي مبيّض في عمله الرائع عن دمشق عبر أمثلة مقنعة توقظ فينا الحنين، بالطبع، وتوقظ كذلك شيئاً من الأمل". الكاتب والأديب اللبناني أمين معلوف

في كتابه الأخير الصادر عن دار "رياض الريس" والذي حمل عنوان "سكّة الترامواي.. طريق الحداثة مرّ بدمشق"، يرى الكاتب والمؤرخ السوري سامي مبيّض أن الحداثة في سوريا بدأت فعلياً مع "التنظيمات العثمانية التي أسست طبقة وسطى في المجتمع وأصبح أبناؤها أداة التغيير والتطوير في بلادهم".

ويتنقّل الكاتب عبر "ترامواي" كتابه الذي جاء في 415 صفحة، بين مختلف البقاع السورية، راصداً تحولاتها وانتقالها المجتمعي نحو زمن الحداثة، ومسلطاً الضوء على ما سمّاها "معركة التغيير" التي خاضها المجتمع السوري عموماً والمجتمع الدمشقي على وجه الخصوص خلال القرنين الـ19 والـ20.

دمشق.. السؤال والجواب

يمضي مبيّض في استكشاف محطات كتابه تباعاً للإجابة على تساؤلات محطته الأولى: "هل كانت دمشق مستعدة للتغيير؟ وهل قبلت به عن قناعة؟ هل كانت فعلاً مدينة كلاسيكية محافظة وغارقة في إرثها التاريخي، أم مدينة متجددة ومنفتحة على كل جديد؟ أخيراً، هل كانت دمشق مُتعصّبة أم أنها كانت متسامحة مع شبابها وصباياها في الربع الأخير من القرن الـ19 والنصف الأول من القرن الـ20؟".

ذُهل الدمشقيون عند رؤيتهم الترامواي للمرة الأولى يشقّ طريقه ببطء داخل شوارع مدينتهم القديمة فكان مشهداً مبهراً بالنسبة إليهم وأقرب إلى الخيال إلى درجة أن بعض العجائز ظنّوا أن جنّياً كان يقود تلك العربة

ووفق المؤلف، فإن "معركة التغيير" التي شهدتها دمشق "شُنّت عمودياً وأفقياً على ثلاث جبهات بين ثلاثة مكونات اجتماعية: الشباب المتعلّم وآباؤهم المحافظون، الرجل والمرأة، ورجال الدين"، على حد وصفه.

ويرى أن تلك المكونات خاضت غمار "معركتها" في ميادين عدة: "في الأزقة والحارات وداخل المنازل والمساجد، وفي جامعة دمشق، وعلى خشبات المسارح، وفي ملاعب كرة القدم وداخل الأحزاب والأندية والصحف...".

ويشير مبيّض في صفحات الكتاب الأولى إلى أهل دمشق الذين "ذهلوا عند رؤيتهم الترامواي للمرة الأولى يشقّ طريقه ببطء داخل شوارع مدينتهم القديمة، فكان مشهداً مبهراً بالنسبة إليهم وأقرب إلى الخيال، إلى درجة أن بعض العجائز ظنّوا أن جنّياً كان يقود تلك العربة الكبيرة المصنوعة من الحديد، لا سائقاً من بني البشر".

ذلك الترامواي، لعب دوراً كبيراً في ربط العاصمة وأحيائها بالأرياف المجاورة، وزاد من معارف المجتمع الدمشقي وتقدّمه في مختلف الأصعدة نتيجة اطلاعه على ثقافة الغرب وافكاره وعاداته.

وبالتزامن مع بدء الإنارة الكهربائية وانتشارها تدريجياً في مدينة دمشق اعتباراً من العام 1907، انتشرت المستشفيات بالتوازي مع النهضة الطبية التي شهدتها العاصمة دمشق حينذاك.

حقبة الملك فيصل.. التحوّل من العمران إلى الدمار

بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى وزوال حكمها في سوريا (1918)، يتناول الكتاب الحديث بشكل مفصّل عن مرحلة ما يسمّى بـ "الحكومة العربية" التي تمثلت بتسلّم الملك فيصل بن الحسين السلطة في سوريا.

ويشير الكاتب إلى أن فيصل كان متأثراً بالنمط الغربي وبنظام العمران المتّبع في كل من العاصمة الفرنسية باريس والبريطانية لندن. إلا أن الملك الجديد "لم يحاول نقل تلك التجارب العمرانية إلى عاصمته الجديدة (دمشق) نظراً إلى قصر فترة حكمه وقلة موارد دولته، بل فضل أن تكون بصمته في السياسة والإدارة وتنظيم أمور الدولة على حساب أي تطوير عمراني"، بحسب مبيّض.

بعد الإطاحة بحكم الملك فيصل على سوريا عام 1920 ومجيء الانتداب الفرنسي، بدأت المرحلة الثانية من مراحل تطوير دمشق ومحاولة نقلها إلى مدينة عصرية شبيهة بمدن أوروبا، وفق المؤلف الذي لفت إلى توقف العمران الفني وتعرضه للدمار خلال ما أطلق عليها "الثورة السورية الكبرى" 1920 وما تلاها، بسبب "قصف الفرنسيين دمشق بالمدافع وتدمير أجزاء من سوق الحميدية وإحراق بعض قرى غوطة دمشق وتغيير ملامح المدينة".

المسرح.. العامل الأبرز في حداثة دمشق

ويرى الكاتب أن المسرح كان أحد أبرز عوامل التطور والانفتاح في العاصمة دمشق بالرغم من تعرضه لمواجهة عنيفة من معارضين له داخل المجتمع السوري، "ولولا رائد المسرح أبو خليل القباني مؤسّس (الميوزيكال) في العالم العربي، لما كان هناك مسرح في سوريا".

ويصف الكاتب إصرار أبي خليل القباني على العمل في التمثيل والغناء والتأليف المسرحي بالرغم من المعارضة و"ضارباً عرض الحائط بكل ما سيقال عنه في مجتمعه المحافظ، متجاهلاً أي إحراج قد يسبّبه لأبيه وعُرف يومها باسم (القباني) علماً بأن أفراد الأسرة من قبله كان يُعرفون باسمهم الأصلي (آل أقبيق)".

ويستعرض مبيض أعمال القباني المسرحية، بالقول إنها كانت "مبهرة للعين، ومستوفية لكل عناصر المسرح العالمي؛ الستائر كانت مزينة بخط عربي، وفي الصالة كانت تقدّم المرطبات ويجري تغيير الديكور بين المشاهد، وفي أوج شهرته كان للقباني ثلاثة مسارح تعمل في آن واحد في دمشق".

بالإضافة إلى حجم المعلومات الغنية والممتعة في التوصيف والسرد، اشتمل الكتاب على مجموعة نادرة من الصور لشخصيات سياسية ودينية وثقافية وفنية ورياضية... من الرجال والنساء السوريين الذين شكلوا الركائز الأولى للنهضة ولـ "معركة دمشق" في التغيير، في مختلف المجالات.

سيرة..

سامي مروان مبيّض، كاتب ومؤرخ سوري من مواليد العاصمة البريطانية لندن عام 1978، وهو ابن عائلة دمشقية عريقة. له مجموعة من المؤلفات عن تاريخ مدينة دمشق، وعَمِل في ميادين التدريس والصّحافة، كما وضع كتُباً وأبحاثاً باللغتين العربية والإنكليزية عن موضوعات كانت شبه منسية أو مُغيبة في تاريخ دمشق الحديث والمعاصر.

أصدر مبيض كتابه الأول "سياسة دمشق وحكم الأعيان في زمن الانتداب الفرنسي" في دمشق سنة 1998، تلاه كتاب "دمشق بين الديمقراطية والديكتاتورية 1948-1958" الصادر في الولايات المتحدة الأميركية سنة 2000. وكشف في هذا الكتاب الذي استند فيه إلى الأرشيف الأميركي الذي فُتح سنة 1999، عن علاقة حسني الزعيم، مهندس الانقلاب العسكري الأول في سوريا، بوكالة الاستخبارات الأميركية.

بعد خمس سنوات أصدر كتاب "فولاذ وحرير: رجال ونساء صنعوا سوريا الحديثة في الفترة ما بين 1900-2000"، وهو عبارة عن معجم لتراجم 300 شخصية سورية، منها السياسية والأدبية والفنية والدبلوماسية والعسكرية.

في عام 2012، وضع مبيّض كتاباً رابعاً عن تاريخ العلاقات السورية الأميركية من عهد الرئيس وودرو ويلسون حتى زمن الرئيس دوايت أيزنهاور، نُشر في لندن تحت عنوان "سورية والولايات المتحدة".

ويعتبر "سكة الترامواي.. طريق الحداثة مرّ بدمشق" الكتاب السادس الذي يصدره المبيّض بالتعاون مع "دار رياض الريّس"، بعد كتاب "تاريخ دمشق المنسي" (2015)، تلاه "شرق الجامع الأموي"، ثم "غرب كنيس دمشق"، و"عبد الناصر والتأميم"، ثم "نكبة نصارى الشام" (2020).