تزايدت تصريحات المسؤولين الأتراك بشأن إمكانية حصول تقارب مع النظام السوري، وشكَّلت تصريحات وزير الخارجية، مولود جاويش أوغلو، في ملتقى السفراء الأتراك في أنقرة في 11 آب 2022، دليلًا واضحًا على استعداد أنقرة لإعادة النظر في علاقتها السياسية مع سوريا؛ إذ قال: "إن تركيا تدعم المصالحة السياسية بين المعارضة السورية ونظام الأسد"، وأشار إلى أنه أجرى في تشرين الأول 2021، عندما حضر اجتماعًا لحركة عدم الانحياز في العاصمة الصربية في بلغراد، محادثة سريعة مع وزير خارجية النظام السوري، فيصل المقداد، الذي كان هناك أيضًا للمشاركة في الاجتماع نفسه. وقبل ذلك، صرح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أثناء عودته من اجتماع في سوتشي مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 6 آب، بأن أجهزة استخبارات تركية وسورية تتواصل بخصوص "التنظيمات الإرهابية". وأثناء عودته من زيارة لأوكرانيا في 19 آب، أدلى أردوغان بتصريح آخر قال فيه إن تركيا مستعدة لنقل الاتصالات مع (نظام الأسد) إلى مستوى أعلى؛ أي إلى مستوى سياسي. في الوقت نفسه، اتهم أردوغان الولايات المتحدة الأميركية بأنها "تغذي الإرهاب في سوريا"، وأنها "زودت المنظمات الإرهابية بآلاف الشحنات من الأسلحة والمعدات، واستقبلت الإرهابيين في البيت الأبيض". فيما أشاد بروسيا بوصفها شريكًا في مكافحة الإرهاب، وقال: "في كل خطوة نتخذها في سوريا، تكون قواتنا الأمنية ووكالات المخابرات ووزارة الدفاع جميعها على اتصال".
لقد عبّرت التصريحات التركية هذه عن تغيّر واضح في موقف حكومة أنقرة التي كانت منذ عام 2011، الداعم الرئيس للمعارضة السورية، وفي حالة تناقض تام مع السياستين الروسية والإيرانية التي دعمت نظام الأسد.
مقدمات التغيير في الموقف التركي
بدأت بوادر التغيير في السياسة التركية تجاه الصراع في سورية منذ التدخل العسكري الروسي في سورية في أيلول 2015، والذي أدى إلى توتر كبير في العلاقة بين أنقرة وموسكو، خصوصًا بعد إسقاط تركيا طائرة مقاتلة روسية على الحدود مع سورية في تشرين الثاني 2015. وقد دفعت تلك الحادثة العلاقات بين البلدين إلى حافة الانهيار بعد أن فرضت موسكو عقوبات اقتصادية على أنقرة، شملت وقف استيراد البضائع التركية، وتجميد مشاريع تقوم بها شركات تركية في روسيا، وفرض قيود على حركة السياحة الروسية إلى تركيا.
وقد تزامن تدهور العلاقات بين البلدين مع الأزمة الكبيرة التي مرّت بها العلاقات التركية - الأميركية؛ بسبب تحالف واشنطن مع وحدات حماية الشعب في سوريا، ودعمها إنشاء ما أصبح يُعرَف لاحقًا بقوات سوريا الديمقراطية "قسد" لمواجهة تنظيم الدولة "داعش". نتيجة لذلك، بدأت أنقرة في ربيع 2016 تُعيد النظر في سياستها مع سوريا، وقد تسارع هذا التغيير بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا في تموز 2016؛ إذ أعرب الرئيس بوتين خلالها عن تضامنه مع أردوغان الذي اتهمت أوساط قريبة منه دوائر غربية بالتورط في المحاولة الانقلابية.
في ضوء التدخل العسكري الروسي، غدت سياسة تغيير النظام في دمشق التي تبنّتها أنقرة منذ خريف 2011، غير واقعية، كما دفع التحالف الذي أنشأته واشنطن مع "قسد" إلى تغيير أولويات أنقرة في سوريا؛ فقد سعت إلى دفع التهديدات التي تواجه أمنها القومي عبر ضبط الحدود ومنع نشوء "كيان كردي" على تخومها الجنوبية. وأدى ذلك إلى تمهيد الطريق أمام تفاهمات تركية روسية كان جوهرها تخلي أنقرة عن سياسة تغيير النظام في دمشق مقابل تعاون موسكو في منع قيام "كيان كردي" على الحدود مع سوريا. منذ ذلك الوقت نفَّذت تركيا - بالتفاهم مع موسكو - ثلاث عمليات عسكرية شمالي سوريا؛ هي: عملية "درع الفرات" في آب 2016، وعملية "غصن الزيتون" في شباط 2018، وعملية "نبع السلام" في تشرين الأول 2019 (كانت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب جزءًا من التفاهمات بشأنها أيضا)، وأدت هذه العمليات إلى تقطيع أوصال أي كيان كردي محتمل على الشريط الحدودي الممتد بين القامشلي وعفرين.
بالتوازي، جرى اتفاقٌ بين تركيا وموسكو لإجلاء فصائل المعارضة عن القسم الشرقي من مدينة حلب في كانون الأول 2016، ثم جرى إطلاق مسار أستانا مطلع عام 2017، الذي أدى إلى تجميد الصراع بين النظام والمعارضة عبر إنشاء أربع مناطق لخفض التصعيد (بسط النظام سيطرته على ثلاث منها)، وصولًا إلى موافقة أنقرة على مقترح إنشاء اللجنة الدستورية لحل "الأزمة السورية"، والذي برز خلال مؤتمر سوتشي في كانون الثاني 2018، وهدف إلى تحقيق تسوية بين النظام والمعارضة، وذلك عبر تفاوض غير مشروط يقود إلى صياغة دستور جديد وإجراء انتخابات، ولكن هذه المفاوضات مستمرة دون أي احتمال للتوصل إلى اتفاق.
دوافع التغيير الأخير في الموقف التركي
منذ وصول إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى السلطة مطلع عام 2021، أخذ التغيير في السياسة الخارجية التركية منحًى أكثر شمولًا وعمقًا في إطار مقاربة ذات أبعاد سياسية وأمنية واقتصادية. فمع تعيين بريت ماكغورك، المعروف بموقفه السلبي من تركيا وعلاقاته الوثيقة مع القوى الكردية، مسؤولًا عن منطقة الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي الأميركي، تزايدت مخاوف أنقرة من تنامي الدعم الأميركي للأكراد في شمال شرقي سوريا. وكانت أنقرة متوجسة أصلًا من الخطاب الحاد الذي تبنّاه بايدن خلال حملته الانتخابية تجاه أردوغان؛ فقد دعا إلى دعم المعارضة التركية في سبيل إسقاطه "عبر العملية الانتخابية".
في الوقت نفسه، بدأت تتزايد التحديات الاقتصادية بالنسبة إلى تركيا التي لحق بها، مثل كثير من دول العالم، أضرار اقتصادية بالغة بسبب تفشي وباء فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) الذي وجّه ضربة قاصمة لقطاع السياحة التركي خلال عام 2020، وأدى إلى شلّ قطاعات واسعة من الاقتصاد نتيجة الإغلاق. وقد انعكس توتر العلاقة مع واشنطن وتنامي الصعوبات الاقتصادية سلبيًا في سعر صرف العملة التركية التي خسرت نحو 90 في المئة من قيمتها بين عامي 2016 و2022، فضلًا عن تنامي العجز في الميزان التجاري وارتفاع مستويات التضخم الذي فاقمه الصراع بين روسيا وأوكرانيا، حيث تضاعفت أسعار الطاقة في بلد يعتمد اقتصاده اعتمادًا كليًّا - تقريبًا - على استيراد الطاقة؛ فوصل التضخم إلى نسبة قياسية بلغت نحو 80 في المئة.
وقد دفعت هذه التحديات السياسية والاقتصادية والأمنية الرئيس أردوغان إلى إجراء تغييرات واسعة في سياسته الخارجية، شملت تحسين العلاقات مع السعودية، والإمارات، وإسرائيل، ومصر، وإيران، وغيرها، كأننا إزاء عودة إلى تفعيل سياسة "صفر مشاكل" التي تبنَّتها تركيا مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في تشرين الثاني 2002. وإذا كانت عوامل مختلفة دفعت أنقرة إلى تغيير كامل لمقاربتها الإقليمية، فقد كان للعلاقة مع سوريا خصوصية إضافية واضحة ممثلة بصراع مرير مع النظام السوري نتج منه وجود نحو 3.7 ملايين لاجئ سوري في تركيا.
درجت تركيا منذ بداية الأزمة السورية على استقبال اللاجئين السوريين، وقد جذبت العدد الأكبر منهم نتيجة السياسات المتسامحة للحكومة التركية تجاههم؛ إذ سمحت لهم بالعمل والتعليم وحرية التنقل، لكن هذا الوضع بدأ يتغير خلال الأعوام الأخيرة، فمع تنامي الصعوبات الاقتصادية، أخذت المعارضة التركية تستخدم موضوع اللاجئين ضد حكومة العدالة والتنمية بهدف إضعافها أمام الرأي العام، من خلال إثارة نعرات عنصرية تجاه اللاجئين السوريين خصوصًا، وتحميلهم مسؤولية الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تواجهها البلاد. وتزايد استغلال هذا الموضوع مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقررة في حزيران/ يونيو 2023. أما حزب العدالة والتنمية الذي خسر بلديّتي إسطنبول وأنقرة في الانتخابات المحلية التي جرت عام 2018، ويواجه انتخابات مصيرية العام القادم، فهو يحاول سحب ورقة اللاجئين من يد المعارضة، متعهدًا بإعادة نحو مليون لاجئ سوري إلى بلدهم؛ ما دفع إلى الواجهة من جديد موضوع إنشاء منطقة آمنة بعمق 30 كيلومترًا على طول الحدود مع سورية، يجري من خلالها إبعاد الميليشيات الكردية عن الحدود من جهة، وإعادة توطين اللاجئين السوريين الذين تعتزم أنقرة إعادتهم إلى بلدهم، من جهة أخرى.
خلال قمة مسار أستانا التي استضافتها إيران، منتصف تموز 2022، حاول الرئيس أردوغان انتزاع موافقة روسيا وإيران على عملية عسكرية تعتزم القوات التركية تنفيذها لإبعاد قوات "قسد" عن الحدود وإنشاء منطقة آمنة في شمال سورية لاستيعاب اللاجئين، لكن مسعاه لم ينجح. وبينما جاءت المعارضة الأشد على عملية عسكرية تركية تستهدف طرد قوات حماية الشعب الكردية من منطقتي منبج وتل رفعت شمال حلب من جانب طهران، وذلك لقرب هاتين المنطقتين من بلدتي نبل والزهراء الشيعيتين، جاءت المعارضة من واشنطن على عملية عسكرية تركية في مناطق شرق الفرات. حاول أردوغان مجددًا انتزاع موافقة على العملية العسكرية خلال القمة التي عقدها مع بوتين في سوتشي مطلع آب 2022، مستغلًا حاجة موسكو إليه في الصراع الدائر في أوكرانيا، لكن بوتين طرح على أردوغان بدلًا من ذلك التفاهم مع النظام السوري لحل قضيّتي الأكراد واللاجئين. مثلت تصريحات أردوغان أثناء عودته من سوتشي موافقة تركية على السير في مقترح بوتين، مع اشتداد ضغط العامل الانتخابي، وإلحاح العامل الاقتصادي الذي صار بعد أزمة أوكرانيا مرتبطًا خصوصًا بإمدادات الطاقة، التي أخذت حسابات دول شرق المتوسط تتأثر بها بصورة واضحة، بينما يشتد التنافس بينها على اقتسام حقولها المكتشفة حديثًا في المنطقة، وقد يكون هذا أحد العوامل الإضافية التي تدفع أنقرة إلى التقارب مع النظام السوري.
تحديات التقارب التركي مع النظام السوري
رغم التوجه التركي نحو الانفتاح على النظام السوري ومصلحة هذا الأخير الواضحة في التفاهم مع تركيا، بهدف تجريد المعارضة السورية من حليفها الرئيس، فإن عقبات عديدة تعترض سبيل هذا التقارب: أولًا، أن النظام السوري يحاول استغلال حاجة حزب العدالة والتنمية الانتخابية إلى حل موضوع اللاجئين والأكراد بفرض شروط يصعب على تركيا قبولها، وأهمها: وضع جدول زمني للانسحاب التركي من الأراضي السورية، والتخلي عن دعم المعارضة، وإعادة إدلب الخاضعة لسيطرة فصائل منها إلى النظام، واستعادة السيطرة على معبر باب الهوى بين تركيا وإدلب، وهي مطالب أقرب ما تكون إلى فرض شروط استسلام على تركيا التي لن تتمكن من تنفيذها ما لم يتعهد النظام بالانخراط في مفاوضات جدية مع المعارضة للوصول إلى تسوية سياسية، وهو أمر لن يقبل به النظام على الأرجح. ثانيًا، عدم وضوح الموقف الأميركي بخصوص أي تقارب بين تركيا والنظام السوري، فالولايات المتحدة ما زالت صاحبة الكلمة الفصل في مناطق شرق الفرات، وهي تبدو حتى الآن متمسكة بتحالفها مع "قسد"، وما لم تصبح جزءًا من أي تفاهم بشأن سورية، فالأرجح أن النظام والروس لن يكونوا قادرين على تنفيذ أيّ تعهدات يقطعونها للأتراك بخصوص تحييد "قسد" في مناطق شرق الفرات خصوصًا. أخيرًا، لا يبدو أن نظام الأسد سيعمل على مساعدة أردوغان انتخابيًّا عبر التعاون معه في موضوع إعادة جزء من اللاجئين، وهو الذي يعده خصمه الرئيس. على العكس تمامًا، يتطلع النظام السوري إلى خسارة أردوغان الانتخابات ووصول المعارضة التركية إلى السلطة لعقد تفاهم معها، مع أنه يخاطر في هذه الحالة باحتمال ضياع فرصة التفاهم مع أردوغان في لحظة يحتاج فيها الأخير إلى هذا التفاهم، وهو ليس أمرًا مضمونًا إذا فاز في الانتخابات واستمر في الحكم.
خاتمة
تشير التصريحات الأخيرة لمسؤولين أتراك إلى أن حكومة حزب العدالة والتنمية متجهة للانفتاح على النظام السوري، بهدف حل التوترات الكامنة في علاقاتها الإقليمية، ولأسباب مرتبطة بحاجتها إلى استباق الانتخابات بتحقيق بعض النتائج المرتبطة بقضية اللاجئين السوريين التي تقدمها بعض أحزاب المعارضة باعتبارها أحد أسباب تدهور الوضع الاقتصادي في البلاد. وتسعى حكومة أردوغان إلى إنشاء منطقة آمنة لإعادة توطين نحو مليون لاجئ سوري داخل الأراضي السورية، والتعامل مع تحدي حزب العمال الكردستاني الذي يمثل أيضًا قضية انتخابية حساسة. ويبدو أن الحكومة التركية التي تشعر بخيبة أمل مريرة من الموقف الأميركي بخصوص استمرار دعم وحدات حماية الشعب في مناطق شرق الفرات، قررت الأخذ بالمقترح الروسي الذي يقضي بالتواصل مع النظام السوري للتوصل إلى تفاهم يفضي إلى حل هاتين القضيتين، بعد أن فشلت في انتزاع موافقة روسيا على القيام بعملية عسكرية أحادية في شمالي سوريا. وتستغل روسيا حاجة أردوغان إلى تحقيق نتائج بشأن هاتين القضيتين قبل الانتخابات؛ لدفعه إلى تغيير سياساته كليًّا في سوريا بما يؤدي إلى تحييد آخر القوى الرئيسة الداعمة للمعارضة.
لكن تحديات كبيرة تواجه إمكانية حصول تقارب بين أنقرة ودمشق، أهمها ارتباطها بإيجاد حل سياسي عادل "للأزمة السورية" التي لا يمكن اختصارها بطبيعة العلاقة بين تركيا والنظام السوري، بالنظر إلى الأثمان الكبيرة التي قدمها الشعب السوري في ثورته على الظلم والاستبداد، وغياب مقاربة شاملة للحل مع تفاقم التوتر في العلاقة بين موسكو وواشنطن نتيجة الصراع في أوكرانيا واحتدام التنافس الجيوسياسي بين القوى الكبرى في النظام الدولي.
المصدر: المركز العربي