تعد قضية الانتحال في الشعر الجاهلي واحدة من أهم القضايا التي شغلت النقد العربي قديما وحديثا، والتي ولّدت الكثير من الخلافات والنزاعات الفكرية، لعل أكثرها حضورا في الذاكرة الثقافية ما أثاره كتاب طه حسين عن الشعر الجاهلي من خصومة فكرية في عشرينيات القرن المنصرم. والانتحال، تعريفا، أن يقول شخص ما قصيدة وينسبها إلى شاعر جاهلي، طمعا في تحقيق الحظوة المالية والمكانة الاجتماعية، ولاسيما في بدايات العصر العباسي الذي يعد البداية الرسمية لتدوين الموروث الجاهلي.
في العصور اللاحقة امتلأت كتب الأدب بالقصائد والأشعار التي نسبت إلى أناس عاشوا في الجاهلية أو في مراحل الإسلام الأولى كالعهد النبوي والعصرين الراشدي والأموي، فقد كان المظنون أن هذه العصور تمثل النقاء اللغوي الذي لا يدانيه أي نقاء آخر، ولذلك كثرت القصائد التي نسبت لشخصيات عاشت في تلك الفترة الزاهية، مثال ذلك القصيدة التي مطلعها "أصابك عشقٌ أم رُميت بأسهم"، والتي تنسب ليزيد بن معاوية.
لا داعي للقول إن غالبية (كي لا نعمم) هذه القصائد منحولة، فبناء الجمل والتراكيب والكلمات كلها قرائن تشير إلى أن هذه القصائد لا يمكن أن تصدر عن شاعر عاش في مرحلة لها خصائص أسلوبية معينة من ناحية التعبير اللغوي، ومن ناحية المفردات المستعملة، ناهيك عن الذوق الفني والمشاعر المصاحبة التي يستطيع متلقي الشعر اكتشاف انتسابها إلى عصور لاحقة.
العصر الإعلامي الذي نعيش فيه وبسبب انعدام القراءة والمطالعة حوَّل المتلقي إلى متلق ضحل من ناحية الثقافة، فهو يقبل ما يرد في شبكة الإنترنت
كان الاعتقاد السائد لدى النقاد أن الانتحال يقل كلما ارتقت المجتمعات في تبني ثقافة الكتابة، فانتشار الكتابة ييسر عملية التدوين المباشر من جهة، ويسهل أيضا الوصول إلى المعلومة من جهة ثانية. بناء على هذا الرأي كان من المفترض غياب مسألة الانتحال كليا في العصر الإلكتروني الذي نعيش فيه، والذي أتاحت فيه التقنية المعاصرة للمتلقي أن يتحقق من صحة المعلومات بالاطلاع عليها من مصادرها الأصلية، وسؤال أهل الاختصاص عن هذه المسألة أو تلك.
غير أن ما حدث هو العكس تماما، فالعصر الإعلامي الذي نعيش فيه وبسبب انعدام القراءة والمطالعة حوَّل المتلقي إلى متلق ضحل من ناحية الثقافة، فهو يقبل ما يرد في شبكة الإنترنت، وما ينتشر في وسائل التواصل الاجتماعي على أنها معلومات موثوقة لا يجهد نفسه في تتبع مصادرها. ولئن كانت الأحداث السياسية قد نمّت لدى المتلقي حساسية شديدة نحو تقبل ما يرد من أخبار سياسية، ودفعته إلى الوقوف منها موقف الشك والسؤال على أقل تقدير – وهي حسنة يجب الاعتراف بها- فإن المحصول المتواضع للمتلقي من الناحية الثقافية لا يسمح له بالبحث عن الكثير من المقولات التي تنتشر في وسائل التواصل الاجتماعي، فثقافة المقولات هي ثقافة الضحالة والابتسار والمرور السريع، ولهذا رأينا تناسلا شديدا لأقوال الإمام علي بن أبي طالب ودستوفيسكي وعلي عزت بيجوفيتش وغيرهم. وسيلاحظ القارئ المتتبع أن الكثير من هذه الأقوال لم تصدر عن هؤلاء، بل كتبها أناس مغمورون ووضعوها على ألسنة تلك الشخصيات لأسباب يطول شرحها، وتكفي نظرة واحدة من متخصص في الأدب القديم على كثير من الأقوال التي تنسب للإمام علي بن أبي طالب ليدرك أنها قيلت في عصور متأخرة كما أسلفنا من قبل. وقل الشيء ذاته عن قصائد كثيرة يرددها الناس كما جاءت في كتب الأدب التي أشرنا إليها، وهي قصائد يعرف المتخصصون أنها كتبت في عصور لاحقة.
الجديد في مسألة الانتحال أنها غير مقصورة على ثقافتنا العربية وحدها، فالانتحال ونسبة المقولات والأفكار إلى غير أصحابها تكاد تكون ظاهرة عالمية، يعززها كما أسلفنا الضحالة الثقافية التي بدأنا نلاحظ آثارها في الإعراض عن المحتويات الثقافية والفكرية الجادة، والاتجاه نحو ثقافة التسلية والترفيه. واحدة من القصص التي انتشرت مؤخرا في وسائل التواصل الاجتماعي على امتداد العالم بطلتها عالمة الأنثروبولوجيا الأميركية الشهيرة مارغريت ميد.
تقول القصة أو الحكاية: إن عالمة الأنثروبولوجيا الأميركية سألت طلابها عن أولى علامات الحضارة، وتوزعت إجابات الطلاب على امتداد التاريخ البشري منذ بداية الزراعة ثم اختراع الكتابة حتى الثورة الصناعية، ولكن الأستاذة عقبت على إجابات طلابها بأن أولى علامات الحضارة هي الشفاء من كسر عظم الفخذ، ففي مملكة الطبيعة، تضيف مارغريت ميد، لا يمكن أن يعيش حيوان كسرت عظم فخذه، لأنه لا يستطيع الهرب، ولا الذهاب إلى النهر لشرب الماء، ولا يمكنه الصيد لإطعام نفسه، ولهذا فالحيوان الذي يكسر عظم الفخذ لديه مصيره الهلاك. إن الشفاء من كسر عظم الفخذ يعني أن أحدا ما ساعد المصاب على الشفاء، ووقف بجانبه وحماه من عدوان الحيوانات، ناهيك طبعا عن جبر الكسر نفسه.
قصة ذات مغزى أخلاقي نبيل، تهدف فيما يبدو إلى إشاعة روح التعاون والوفاق، وتضع الإيثار في مقدمة القيم الإنسانية. ولكن مارغريت ميد لم تقلها.
الحديث عن شفاء عظم الفخذ حديث غامض، فعلى الرغم من أن علماء الأنثروبولوجيا البيولوجية لديهم اهتمام حاد بالكسور حين يتناولون البقايا البشرية القديمة، فإن أبحاثهم حول تلك الكسور والإصابات تكشف صورة أكثر تعقيدا عن الطبيعة البشرية، فقد أبرزت تلك الأبحاث وجود علامات على شفاء العظام في كل المملكة الحيوانية. فعلى خلاف الدراسات التي ترى أن شفاء العظام نادر في الرئيسيات البالغة، فإن شفاء العظام ليس مستحيلا لدى صغار الرئيسيات. والأكثر إثارة ما أظهرته كثير من الأبحاث الجديدة من علامات على وجود سلوك طبي لدى الكثير من الحيوان، وهو سلوك يعزى عادة للكائن البشري.
ليس في كتب مارغريت ميد ما يؤكد تلك القصة التي نشرها أحد الجراحين في ثمانينات القرن الماضي، ونسبها إلى عالمة الأنثروبولوجيا الشهيرة. والواقع أن ميد حين سئلت: متى تحولت الثقافة إلى حضارة؟ كان جوابها مختلفا عما ورد في هذه القصة المتخيلة، فقد ذكرت أن النظر إلى الماضي يتيح لنا القول بأن مجتمعا ما تحول إلى حضارة عندما أصبح لدى هذا المجتمع مدن كبيرة، وحين ازداد فيه التخصص في العمل، وكذلك حين احتفظ ببعض أشكال التوثيق، فهذه هي علامات الحضارة.
يبدو أن الإنسان هو نفسه في مختلف العصور والأمكنة، فالعربي الذي عاش في العصر العباسي، والذي كان يقول الشعر على ألسنة الشعراء الجاهليين لا يختلف كثيرا عن الأمريكي الذي يخترع قصة وينسبها لعالمة أنثروبولوجيا. في كلتا الحالتين يستغل مروج القصيدة أو الحكاية رأس المال الرمزي للشاعر أو العالم الذي ينسب إليه الشعر أو القصة، فيحقق ما يطمح إليه: المال والمكانة الاجتماعية في العصر القديم، وانتشار قصته في عصرنا الحالي.