الاحتضار الطويل لداعش

2022.02.14 | 05:30 دمشق

2015_7_21_20_4_42_889.jpg
+A
حجم الخط
-A

صدر عدد جديد من «النبأ» لم تعلن داعش فيه عن مقتل زعيمها في الإنزال الأميركي، قبل عشرة أيام، في الشمال السوري. في حين فضّلت الصحيفة، التي يصدرها «ديوان الإعلام المركزي» في التنظيم، أن تتابع نشر أخبار عملياتها المتخامدة في الحسكة إثر هجومها على سجن غويران قبل ذلك بأسبوعين.

لا رابط بين الحادثتين إلا أقاويل غير مؤكدة عن أن إصرار «الخليفة» على الإشراف على عملية السجن بنفسه، عن بعد، أدى إلى معرفة وسائل الاتصال به وتحديد مكانه بعد طول تخفٍّ وحذر. وبالمقابل أدت الواقعتان إلى دلالتين مختلفتين. إذ قرئت الأولى، على نطاق واسع، بوصفها عودة للتنظيم قد تعقبها سيطرته مجدداً بعد تمكنه من تهريب أعداد «كبيرة» من سجنائه، قيل إنهم من قادة الصف الأول، وقيل إنهم من خبراء التفخيخ وذوي الباع العسكري. أما قتل "أبو إبراهيم الهاشمي القرشي"، كما يفخّم التنظيم واجهته، فقد كشف عن سكن شبه بائس في أرض معادية، بصحبة تابع وحيد يجمع مهام التغطية والخدمة والحراسة.

الصورة الثانية لـ«أمير المؤمنين»، الشريد الطريد ذي الساق الواحدة، فهي مما يصيب أهم أسلحة داعش النفسية في مقتل

حرص التنظيم على الصورة الأولى منذ نهضته المتجددة عام 2013. والتي جاءت بعد تحرير عدد كبير من قادته وعناصره من السجون في العراق، فيما يسميه عادة عمليات «هدم الأسوار». وطوال سنوات لاحقة عمل جاهداً على إظهار الصورة الواثقة الصلبة عن بنيته وأمرائه وكوادره. وقد أولى ذلك اهتماماً إعلامياً كبيراً نجح، من خلاله، في اجتذاب أعداد لافتة من المهاجرين والمحليين. وتجاوزهم إلى ترسيخ هذه الصورة في مخيلة أعدائه الذين كانت قلوبهم تنخلع حين مواجهته عسكرياً، وتقاريرهم تنضح بالإعجاب اللاواعي به، أو الشعور غير المدرَك بالهزيمة أمامه، عند الكتابة عنه. وكان التنظيم سعيداً بذلك بالطبع، وهو ينتحل الحديث «نُصِرتُ بالرعب»، ويسخر لاحقاً من تقديرات خصومه المبالغ فيها حين يكشف عن الإمكانات القليلة التي انتصر بها في هذه المعركة أو تلك.

أما الصورة الثانية لـ«أمير المؤمنين»، الشريد الطريد ذي الساق الواحدة، فهي مما يصيب أهم أسلحة داعش النفسية في مقتل، فضلاً عن فقدان زعيمها الرمزي.

ومع أن الهزائم المتتالية للتنظيم، وصولاً إلى معركته الأخيرة في الباغوز في آذار 2019، وما رافقها من اعتقال بعض أبرز قادته والعثور على كمية وافرة من وثائقه؛ قد كشفت سِتره لمن شاء. غير أن قوة الوهم لا تزال فاعلة في أعدائه قبل عناصره. فالأخيرون يعرفون بالضبط ما تحت القبة من خواء واضطراب ونقص فادح في الإمكانات البشرية والمادية.

وبالعودة إلى الهجوم على سجن غويران نقرأ في عدد سابق من «النبأ» أن عدد من شاركوا في العملية هم اثنا عشر انغماسياً فقط، بالإضافة إلى «استشهاديين» اثنين قادا شاحنتين مفخختين أحدثتا دماراً في المكان، مما حرّض السجناء في الداخل على مهاجمة سجانيهم والاستيلاء على أسلحتهم والاستعصاء.

وإذا كان المصدر الأمني الذي اعتمدت عليه «النبأ» قد تحفظ على بعض المعلومات فإن اعترافات قائد سابق للعملية نفسها، بثها المركز الإعلامي لقوات سوريا الديمقراطية في الأسبوع الأخير من عام 2021، ترسم الصورة بشكل أوضح. فقد قال محمد عبد العواد إن مخطط العملية كان يقوم على خمسة وعشرين «استشهادياً» وانغماسياً، غير أن الظروف لم تسمح بتأمين أكثر من أربعة عشر. كما خُفِّض عدد السيارات المفخخة من ثلاث إلى اثنتين بسبب الضيق نفسه. وخُصِّصت سيارة البيك آب الثالثة لحمل 150 بندقية، لم يمكن تأمين أكثر منها كذلك، للتوزيع على السجناء المتمردين إذا استطاعوا الوصول إليها. فإذا تذكرنا أن عدد هؤلاء يزيد على أربعة آلاف وثلاثمئة أمكننا أن نقدّر تواضع إمكانات التنظيم قياساً إلى هدفه الكبير. وذلك بالإضافة إلى ما أورده قائد كتيبة «العاديات»، خلال اعترافاته، من تأخير كبير للتنفيذ ريثما تم تأمين هذه الإعدادات المحدودة، وترميم ما ضربته طائرات التحالف الدولي بعملياتها المستمرة وتعويض من قتلته. وصولاً إلى قصف المفخختين النهائيتين وإلقاء القبض على المجموعة.

وقد ثار الاهتمام بهذه الاعترافات إثر تنفيذ عملية السجن مؤخراً بالخطة نفسها وإن من قبل مجموعة أخرى، مما أثار أوهاماً تآمرية عريضة. وكأن داعش تملك خطة بديلة لاقتحام السجون غير المفخخات التي تضرب أسوارها والاتكال على «الهلع» الناتج عن ذلك، على حد تعبير العواد نفسه. ولو أن من قادوا العملية اعتقلوا، بدل أن يُقتلوا كما قالت «النبأ»، وشاهدنا اعترافاتهم على الشاشة؛ فالمرجح أننا لن نلمس عندهم قدرة على التخطيط تفوق ما ظهر لدى العواد من بؤس.

التقدير الذي نعرفه لإمكانات داعش يجب أن لا يزيد على ما تخلّفه هزيمة أي تنظيم ضخم، أو مرض مُعند

والحق أنه قلما تبارزت التفسيرات التآمرية بالكثافة التي حصلت في تحليل هذه «العملية المعقدة» وما صاحبها من اتهامات سياسية. وقد أسهمت في ذلك رغبة السلطات المحلية في التغطية على فشلها الذريع، مما دفعها إلى التهويل في أعداد المهاجمين وتوسيع دائرة ارتباطهم الإقليمي ودعمهم المحلي، والتكتم على المعلومات الدقيقة أو التباطؤ فيها.

وبانتظار إفراج المشرفين على السجن عن أعداد تقريبية لمن تمكنوا من الفرار، والقدرات النوعية المزعومة لهم، فإن التقدير الذي نعرفه لإمكانات داعش يجب أن لا يزيد على ما تخلّفه هزيمة أي تنظيم ضخم، أو مرض مُعند، من خلايا، خاصة في ظل ضعف السلطات القائمة في شرق الفرات وغربه، وشرخ مشروعيتها في نظر قسم كبير من السكان.

أما تأخر داعش في الإعلان عن مقتل زعيمها وتعيين خليفة له فهو دليل آخر على صعوبة التواصل بين «رجال صفها الأول» الذين يعيشون في ظروف شالّة من العزلة والتخفي والتباعد لا تختلف كثيراً عما كان يعيشه أميرهم. وهو مما يحلو لبعض الباحثين أن يطلقوا عليه وصف «اللامركزية» التي لجأ إليها التنظيم بعد معركة الباغوز، فيما يبدو أن تعريفه الدقيق والطبيعي هو التحول إلى فلول.