بعد صمت طال وأجج الشعور لدى الفرنسيين بأن الأمر ليس بذي أهمية لدى رئيس الجمهورية وبأن حلّه بشكل منطقي وعقلاني ليس من أولوياته، أعلن قصر الإليزيه بأن الرئيس سيتوجه إلى الشعب الفرنسي بخطاب يستعرض فيه رؤيته لحل الأزمة المستمرة منذ شهر تقريباً. وللإعداد لهذا الخطاب، دعا الإليزيه لاجتماع واسع ضم ممثلي الأحزاب الموجودة في البرلمان، مع رؤساء النقابات كافة، إلى جانب ممثلي المجالس المحلية والإقليمية المنتخبة، ورئيسَي مجلس النواب ومجلس الشيوخ، وممثلين عن أصحاب الأعمال، كما مجموعة أخرى مكونة من اثني عشر وزيراً يمسكون بملفات مرتبطة بالقضايا المطروحة من قبل المحتجين، وعلى رأسهم رئيس الوزراء الذي كان كثير التواجد خلال الأزمة، ولكن تواجده لم يكفِ لتخفيض غضب المحتجين الذين استمروا بالمطالبة بتفاعل رئيس الجمهورية المباشر.
الاجتماع مخصّص للتحضير لهذه المداخلة المنتظرة وقد تمت الإشارة إلى ذلك بتصريح رسمي واضح، مما يُشير إلى أهمية هذه المشاورات
المؤسسات الديمقراطية الفرنسية سارعت وبشكل فعّال إلى الاستجابة فعلياً مع ما ترجمته التحركات الأخيرة من غضب شعبي جزئي، بعيداً عن مقولات الشعبويين
في صياغة الوعود والاعتذارات والتراجعات والحلول التي سيتضمنها الخطاب. وبدأت وسائل الإعلام باستعراض التوقعات لما يمكن أن ينجم عن هذا التدخل الرئاسي المتأخر من علاوات على المعاشات المنخفضة إلى التخفيف من الضرائب مسبقة الاقتطاع وصولاً إلى تخفيض ضريبة القيمة المضافة على بعض أنواع السلع الأساسية والخدمات الضرورية.
إذاً، فالمؤسسات الديمقراطية الفرنسية سارعت وبشكل فعّال إلى الاستجابة فعلياً مع ما ترجمته التحركات الأخيرة من غضب شعبي جزئي، بعيداً عن مقولات الشعبويين الذين وجدوا في هذا الحراك ترجمة لعبارة خطيرة يمكن أن يُغطي مظهرها الجميل معنى خطير وهي القائلة بـ "أنا الشعب". كما عمل القضاء، وبالتوازي، على الإسراع في دراسة ملفات أكثر من ألف موقوف خلال أحداث الشغب التي لوّثت بعض التجمعات. وقد قام بذلك بأسلوب شفاف أطلق من خلاله سراح المئات مع "تنبيه إلى ضرورة احترام القانون" أو مع أحكام مع وقف التنفيذ، واقتصرت أحكام السجن الفعلية على من قام فعلاً بسرقة أو تحطيم الممتلكات الخاصة. ومن جهة أخرى، فتحت شرطة الشرطة تحقيقات متنوعة حول ما اعتبره بعض المتظاهرين "انتهاكا" من قبل رجال الشرطة. ومن جهته، قام الوزير السابق جاك توبون، ولقبه الرسمي هو "المدافع عن الحقوق"، وهو على رأس هيئة حكومية أسسها الرئيس السابق فرانسوا هولاند للنظر في شكاوي الموطنين تجاه مؤسسات الدولة، بفتح تحقيق يطال رجال مكافحة الشغب الذين ظهروا في شريط مصور وهم يجبرون بعض التلاميذ على الركوع.
مهما كانت حمولة الخطاب الرئاسي، فبمجرد أن رأس الدولة شعر بضرورة التعامل مع المطالب الاحتجاجية بأسلوب تفاعلي بعيداً عن الكلمات الجوفاء والوعود غير القابلة للتحقق، فسيكون وقعها إيجابيا حتما. فعدد كبير من هذه المطالب يحتاج إلى تمويل كبير تعجز موازنة الدولة عن الإفراج عنه في سرعة قياسية. وشرح هذا الأمر بكلمات بسيطة بعيداً عن لغة المدارس العليا والنخب الاقتصادية سيلقى حتما آذانا مُصغية من قبل أغلبية المعنيين. وسيبقى بعض المتطرفين اليساريين أو اليمينيين ـ غير المعنيين فعلا بصلب هذه المطالب ـ على مواقفهم الرافضة وهذا لن ينفع معه أي أسلوب في الأداء أو أية وعود مهما حملت من الإيجاب.
في حين تجد المؤسسات الديمقراطية الفرنسية طريقها للخروج من الأزمة، شعرت الأنظمة الديكتاتورية الحاكمة
من سوريا سمعنا تضامناً "إنسانياً" مع "المطالبين بالحرية" ضد "القوات الفرنسية"، كما نشرت وسائل إعلام روسية أكاذيب مضحكة تلقفتها وسائل إعلام لبنانية
في بعض الدول العربية، كما انقلابيّي الثورات المضادة، بأن الاحتجاجات التي شهدتها فرنسا طوال شهر لأصحاب السترات الصفراء تُعدُّ فرصة مناسبة للانقضاض على كل أمل في التغيير أو في الإصلاح من لدن شعوبها. فانبرت وسائل إعلامها الرسمية، وهي أمنية التبعية بامتياز، كما الخاصة، وهي متداخلة التبعية بين الغول الأمني والوحش المافياوي والتافه المتملّق، إلى اختلاق الأكاذيب التي وجدت صداها في وسائل التواصل الاجتماعية التابعة لأزلامها من "مواطنين" مُحبين للعسف وموالين للقمع. فمن مصر قرأنا بأن تنظيم الإخوان له باع في زعزعة الاستقرار الفرنسي، ومن سوريا سمعنا تضامناً "إنسانياً" مع "المطالبين بالحرية" ضد "القوات الفرنسية"، كما نشرت وسائل إعلام روسية أكاذيب مضحكة تلقفتها وسائل إعلام لبنانية.
وبعيداً عن نظرية المؤامرة، فقد بدا واضحاً من خلال متابعة وسائل التواصل الاجتماعي، وجود "جيش إلكتروني" مهمته اختلاق الأكاذيب وتضخيم الأمور بخصوص المشهد الفرنسي، مما دعا الحكومة الفرنسية، كما أعلن وزير خارجيتها الأحد الماضي، إلى فتح تحقيق حول مئات الحسابات الوهمية في التويتر التي ساهمت في نشر الصور المفبركة والأخبار الكاذبة طوال الفترة الأخيرة، وجُلّها روسي المصدر، مذكّرة بالدور الروسي أيضا في نشر الأكاذيب أثناء الحملات الانتخابية لرئاسة الجمهورية سنة 2017. كما أشارت الصحيفة البريطانية الأولى "التايمز" إلى مئات الحسابات التي بزغت بسرعة ومؤخرا وأساس نشاطها تأجيج المخاوف وتضخيم الأحداث المرتبطة باحتجاجات السترات الصفراء.
ومن نافل القول بأن هذه الحسابات الوهمية هي مصدر أساسي لوسائل الاعلام العربية في الحكومات المستبدة والتي تجد في روسيا فلاديمير بوتين، ليس الحليف العسكري والأمني فحسب، بل مُلهم المنطق الشمولي في التعامل مع احتجاجات شعبه، فهو يقتل معارضيه بالسم حينا أو بالاغتيال على حائط الكرملين، وغيره بالبراميل المتفجرة، وآخرون بالمنشار الكهربائي. وبالتالي، وفي ضوء "الهرتقات" الروسية، يبقى القلق مشروعاً على الديمقراطية الفرنسية من التطرف بأنواعه والشعبوية بتعقيداتها، على الرغم من قوة المؤسسات وقدرتها على تجاوز الأزمات.