ليس هناك أعتى من الحرب دافعا وحافزا على الصراخ والحلم والخوف واليأس، ففيها تتداخل الأضداد بعضها ببعض، لهذا نجدها قد ساهمت في تفجير مكامن المشاعر والهواجس في نفوس الناس بشكل عام والأدباء والفنانين بشكل خاص.
وها هو الشاعر السوري (عبد السلام حلوم)[1] الذي عرفته من خلال مجموعته (يسمونه عندنا)، لا يتخلى عن الإنسان الذي يناصره ويسعى إليه في صمت الجدران وسلالم البيوت وإطارات الصور، والشمعدانات التي غابت عنها الشموع، والأبواب التي تستأنس بصريرها بعدما نأى سكان البيوت عن مقابضها، مستمرا في همّه القديم، ويغوص عميقا في ذاته مستنهضا الذكريات، عبر أنسنة الأشياء في مجموعته (الأسود ليس لونا)[2]، الأشياء؛ هذه الحوامل التي لا حول لها ولا قوة، والتي تصير ذواتاً ناطقة وفاعلة في ظل ازدحام الخراب في البلاد وفي الطين البشري الذي صار جافا، لعلها تتحول إلى طاقات كفيلة بتجسيد القيم الإنسانية مرة أخرى.
"الفراغ وحيد أيضا، تأتيه كما البشر نوبات كآبة
فيكره جلده الفضفاض كمعطف الشحاذين
يعاود جلوَ ملعقة أدمنت حافة صحن وحيد
يتسلى بمعرفة الوجوه في الصور المقلوبة على قفاها فوق الطاولة
مع أنه يعرف أن لا أحد"
يفتتح سلام مجموعته بنص يحمل عنوان (الضباب)، وكأنما أراد أن يقول بذلك؛ إن الغوص في أعماق هذه المجموعة مغامرة لا يحق لمن لا يمتلك الجرأة والشجاعة أن يتقدم في صفحاتها أكثر، فالضباب الذي يجتاح المكان بهدوء، يغادرها بالهدوء ذاته، ولكنه حين يغادر يترك وراءه كثيرا من الهواجس، وكذلك هو الإنسان البسيط، الذي يأتي غريبا إلى الحياة ويغادرها غريبا، ليدفن ذات يوم في الأرض مثل الكمأ الذي لا يعرف أحد سرّ بزوغه في الأرض..
"لا تناقشوا بعضكم من أين جاء؟
فهو لا جهة له، مثلما لا وطن له.. لا لا ..
أنا ببساطة ضماد وثير أحط على جراح هذه الأرض".
كل شيء لدى حلوم من دم وماء، الفراغ والحقيبة والشباك، فكلها تتقاسم مع الإنسان شيئا من سيرته أو تجربته في هذه الحياة، وأحيانا تستلف من الإنسان الكثير من صفاته وشؤونه، غير أن الأشياء في نصوصه أكثر إقناعا بخواصها التي تجذبه ليتماهى فيها، فها هو يتقمص الشبّاك وحالته، وموقعه الذي يطل على كل شيء، فهو الإنسان المهاجر عن وطنه، ولا شيء أقدر من الشبّاك على جعله في مكان يستطيع من خلاله التقاط ما يشاء من مشاهد مرئية حينا، أو ليستدعي من خلاله في وحدته ذكرياته الأليمة، وأحيانا يشعر حلوم بأنه تلك الشجرة التي تعاند العواصف في اختبارات الحياة، أو جرحا عميقا ينزّ دائما ولا يلتئم.
"هذا جرح الحرب،
لا تهاجر به، فلا تندمل جراحات كهذه تحت شمس غريبة
لا تتباه به كنيشان وتشحذ على كتفيه صدر المحفل
إن مثل هذي الجراح، عفيف يتكهَّف
يتغوّر، يمتد...".
تشكل المفردة الواحدة عتبات النصوص لدى سلام مثل، (الضباب، المفتاح، بلد، الجرح، الشجرة، المطر، حقيبة، السكين، الفراغ، أحلام، قطار..إلخ)، وتحضر العناوين الطويلة في بعض النصوص، ومنها النص الذي شكل عنوانه عتبة المجموعة، غير أنه في عناوينه الطويلة نسبيا، يسعى للبحث عن المفردة الضيقة بشكلها، والواسعة بتأويلاتها، فعندما يختار عنوانا مثل /الأسود ليس لونا/ فإن استخدام أداة النفي /ليس/ ستكون كفيلة في استنهاض الفضول لدى المتلقي لمعرفة ماهية هذا السواد إن لم يكن لونا، هذه الأداة التي تقتحم الجملة الاسمية لتكون دليلا أبديا للبحث عن دلالاتها في الأزمنة كلها، في الماضي والحاضر والمستقبل، وكأنما أراد حلوم بذلك أن لا ينتهي هاجس البحث عن هذا السواد وأسبابه لدى الإنسان..
"المسوه، وتابعوا ويلاته
هكذا بالأصابع الراجفة نفسها،
فهذه الأرملة لم تكن نحيفة قبل أن تلبس ثوب الحداد للمرة الثالثة".
بالعودة إلى العناوين، نجد حالة من التناوب بين النكرة والمعرفة في الحضور، وكأنما أراد الشاعر من ذلك أن يكشف المضمر من التفاصيل، أو أن يخفي الظاهر منها، فنجده يتخلى عن أداة التعريف في عناوين مثل، (قطار، حقيبة، بلد، أحلام، حرب، ديب..إلخ)، وعندما نقف عند هذه العناوين نجدها تتماهى ومقاصدها في صيغة النكرة، فالقطار والسفر بدون هدي، وما يرافق السفر من تداعيات يجعل النكرة أشد دلالة وأبلغ حجّة، ويتحقق ذلك في الحقيبة التي تلازم المسافر أيضا. ويتجلى ذلك في عنوانه (حرب)، والتي تزرع الشتات والضياع أمام الخطوات والنفوس، وكذلك نصه (أحلام)، فالحلم ضد الحقيقة، ويناسبها هذا الغوص في عوالم النكرة أكثر. أما العناوين التي يستعين فيها حلوم بأل التعريف فهي (الضباب، السكين، البالم، الفراغ، الجرح، الفزع..إلخ) ففي مثل هذه العناوين المعرفة أكثر بلاغة في رصد أحوال الشاعر/ الناس، إذ إن هذه الحالات كفيلة برسم علامتها بثقة ووضوح في نفوس من ينادمها في مسارات النجاة.
"تبا لهذي الحرب،
خرّبت علي لا وعي كان يسقي ضلوعي كنهر أبدي وألم
أنا محصوله من القصائد متى أشاء".
حلوم كعادته، لا يتكلف، ويسعى لأن يكون كلامه أكثر وضوحا، وأعمق دلالة وتأثيرا، لذلك ينطلق من لغة بسيطة تتوازى في بساطتها مع الكلام اليومي الدارج، إلا أنها تحمل وراء هذه البساطة حلما بعيد أو ألما كبيرا، أو حقيقة جارحة، فها هو لا يتنكر لفضل القارب المطاطي "البلم" الذي لعب دورا كبيرا في موجات البحث عن الخلاص، ويجعل منه منطلقا لسرد تفاصيل الوجع، كمن يرتّل آيات الموت بهدوء وسكينة على شخص يحتضر على فراش الموت، فيجعل من البلم راويا بارعا يحكي عن رحلات الموت والنجاة، لينتهي في قصيدته بإعلان مظلومية هذا القارب، وليجعل النص محكمة يعلن فيها براءة البلم من كل الحوادث التي نطقت جثثا وغرقى بدرامية باذخة..
"كان الشاطئ يقلّب حجارته المسننة على قفاها
يعرف أني أريد أن أتابع الدواليب الطافية
طريقنا إلى الحكايات الغامضة
إني لم أعتب على واصل لم يلتفت إلي
ولا على جاحدين لرفاقي سترات الفلين
ما إن ينجوا حتى يلقوا بها في المكبات كديكة نافقة".
لا تغيب مشاهد الحرب ومغامرات البحث عن النجاة عن نصوص الشاعر، وهو ابن سوريا التي مازالت تعيش سيرتها المثقلة بالدم والخراب، فنجده يستعين بالقطار، فهذه الآلة التي تتشارك بطولها مع الحرب الطويلة في بلده أقدر على أن تكون ملاذه في قول ما يشاء، فالقطار يسير على خط محدد وتختصر رحلاته عليه بالذهاب والإياب، ولا يستطيع أن يحيد عن مساره المحدد أبدا، غير أنه يتوقف في محطات كثيرة، تلك المحطات التي تتماثل مع ذكريات ضحايا الحرب. لكل ذلك كان هذا القطار ذاكرة تنطق بأحداث الحرب وأخواتها على تلك الجغرافية المنكوبة.
"لن يقرأ أحد مذكراتي
لذلك أكتبها بالدخان على غيمة عابرة
ويحسبني الخلق شكلا أجوف للحديد
لا قلب لي يتقطّع
وأنا قضيت عمري أنقل جبهات الحرب جنودا وأسلحة
وأعود حاملا الهاربين منها".
أخيرا أستطيع أن أقول:
ربما تشكل الحروب والكوارث مضمارا مناسبا لامتحان الإنسان الذي كان وما زال محورا للقيم والمبادئ في هذه الحياة، غير أن الواقع يقول غير ذلك، في ظل ما نشاهده من انتهاكات بحق هذا الكائن المحور ترتكب من قبل الكائن ذاته بحق أقرانه، ليعم السواد في كل مكان ونفس، لتعجز معها المفردات أمام مقصلة الخوف عن التعبير، فلا يجد المظلوم ولا الشاعر بظلمه سوى الكناية والمجاز سبيلا لرصد الواقع.