مجرد ذكر اسم (الحلاّج) يثير في الذهن شهوة البحث والسؤال عن التصوف والتضحية بالروح مقابل الدفاع عن الحقّ. لقد حرض الحلاج شعراً ونثراً وحياةً، المختصين من محققي كتب التراث، فتمت طباعة أعماله عدة مرات سواء أكانت مفردة أم على شكل أعمال كاملة. سوف نقف هنا عند واحد من هذه التحقيقات لأعماله الكاملة الصادرة عن دار (الذاكرة) السورية.
الحلاج هو القائل:
"أنا من أهوى ومن أهوى أنا
نحن روحان حللنا بدنا
نحن مذ كنّا على عهد الهوى
يُضربُ الأمثالُ للنَّاس بنا
فإذا أبصرتَني أبصرتَهُ
وإذا أبصرتَهُ أبصرتنا".
هذا النَّشيد الذي تحوَّل مع تراكم السنوات والتجارب إلى نشيدٍ لكلِّ صوفيٍّ، قائلهُ تحوَّل هو الآخر إلى رمزٍ خالدٍ من رموز الصوفيّة... إنَّه "الحلاَّج" مالئُ نفوس الباحثين بنارِ الحيرة والشَّكّ والإيمان. نظراً لما انطوت عليه حياته من مواقف ودروس وتناقضات زاد منها تناقضاتُ المحقّقين والمفسرين الذين تناوبوا على إظهار إبداعاته من حيّز الوثائق والمتاحف إلى حيز المنشورات والمطبوعات، منذ المستشرق المشهور "ماسينيون" حتَّى العمل الذي بين أيدينا "تراث الحلاَّج –أخباره، ديوانه، طواسينهُ" والصَّادر بجهود اثنين، مشهودٌ لكل منهما علاقتهُ الوطيدة بتراث العرب، لغة وشعراً ونقداً. الأوّل هو العراقي د. عبد اللطيف الراوي، والثاني هو السّوريُّ د. عبد الإله النَّبهان. الذي يقول إنه: "لإعداد الديوان [يريد ديوان الحلاج] استحضرتُ أهمَّ طبعاته، وأقدمها طبعة العلاّمة لويس ماسينيون" ص 7.
كما استحضر د. النبهان من أجل ذلك طبعة العراقي د. كامل مصطفى الشَّيبي، كذلك طبعه مكتبة الجندي في مصر. وقد قارن د. النبهان نص ديوان الحلاج الوارد في طبعة الشيبي بالنّص الوارد في طبعة ماسينيون. مع اجتزائه من تعليقات الشيبي ما يخدم النّص. أمَّا عمل د. الرّاحل عبد اللطيف الراوي فكان أن استخرج نصَّ "الطَّواسين" للحلاج، من طبعتين للطّواسين الأولى طبعة ماسينيون والثانية طبعة بولس نويا.
وقد سبق للمحققين أن قاما بنشر جزءٍ يتعلَّق بأخبار الحلاج كتَبَهُ ابن باكويه الصوفي المتوفى سنة /428 هـ/ وذلك في مجلة مجمع اللّغة العربية في دمشق في المجلَّد /66/ الجزء الرابع عام 1991. وها هما قد أعادا نشر هذا الجزء في صدر الكتاب الجامع لآثار الحلاج شعره وطواسينه .
وسنستعرض طرفاً من أخبار الحلاَّج هنا معتمدين على هذا الجزء الذي يبدأ بالصفحة /27/ من الكتاب وينتهي بالصفحة /41 / منه. وقد أتبعه المحقّقان بكثير من الحواشي التي تدلُّ بما لا يدع مجالاً للشّكّ على أن المحقّقين قد بذلا الجهدَ العلميَّ المصحوب بأمانةٍ وصدقٍ في تحقيق نصّ تراثيّ فريدٍ.
النص المحقَّق حول أخبار الحلاج ينبئنا أنَّ الحلاج، الحسين بن منصور، ولد في البيضاء –والبيضاء مدينة مشهورةٌ بفارس، كما ينقل المحققان عن معجم البلدان– ونشأ في تُسْتَر، وهي أعظم مدينة بخوزستان كما ذكر ياقوت الحموي. ثمَّ توجَّهَ إلى بغداد. وكانت البصرة أول مكان يقصده بعد تستر. وهناك اتصل – أي في العراق – بالجنيد، الذي لم يجبه مرَّة على مسألة طرحها عليه الحلاج بعد عودة له من أوّل سفر إلى مكة. فرجع حلاجنا إلى مكان نشأته تستر مصطحباً من هناك زوجته أمَّ الحسين بنت أبي يعقوب الأقطع. وهي امرأة يقع ذِكرُها في سيرة الحلاج من دون أن يعثر المحققان لها على ترجمة مستقلةٍ.
لماذا سُمِّيَ الحسين بن منصور بالحلاج؟ ذلك أنه "كان يتكلَّم على أسرار الناس وما في قلوبهم ويخبر عنها، فسمِّيَ بذلك حلاج الأسرار، فصار الحلاج لقبهُ" ص 28.
وقد عدنا إلى كتابٍ آخر نستأنس به عن سبب تسمية الحلاج بهذه التَّسمية، فاخترنا كتاب د. عبد الرحمن بدوي المعنون باسم "شخصيات قلقة في الإسلام". فعثرنا على نصّ للوي ماسينيون ترجمة د. بدوي بعنوان "المنحنى الشَّخصي لحياة الحلاج". ذكرنا ماسينيون. أن الحلاج ولد في سنة /244 هـ/ = /857 م/ تقريباً وتوفي سنة /309 هـ/ = /912 م/ "وأبوه –ولعلَّهُ كان يشتغل بصناعة الحلْج– قد ارتحل للعمل في منطقة النَّسيج الممتّدة من تستر حتّى واسط" ص 103 من كتاب د. عبد الرحمن بدوي المذكور.
ولعلَّ الَّذين يفسرون سبب التَّسمية بأنَّ أبا الحلاج كان يشتغل بصناعة الحلج، يفعلون ذلك من موقع المفسّر اللّغوي لكلمة حلاج وفي المعجم: "حَلَجَ" القطن من باب ضربَ ونصَرَ فهو "حلاج" –مختار الصحاح مادة حلج– لكن كما هو واضح من تفسير ماسينيون، يتمّ الرجوع إلى مهنة الأب لتفسير سبب التَّسمية، والآن يمكن أن نجد القول ممكناً من باب آخر لسبب التَّسمية. فإذا اعتمدنا مهنة حَلج القطن، واعتمدنا سبب التَّسمية كما هو وارد في أخبار الحلاج لابن باكويه، استطعنا القول، إن الحسين بن منصور كان يُعامل أعماق الناس ويستقرئ أغوارهم وأسرارهم كأنه أمام جبالٍ من القطن ينزل فيها بأداة الفرز والتَّفصيل الدَّقيق كما يفعل حلاج القطن.
والحلاج ليس غريباً عن استغوار أعماق الناس، فهو في نظر القوم ساحرٌ، أو مجنونٌ تطايرت الأقاويل حوله، حتَّى حبسهُ السلطان كما في أخبار الحلاج. ولم يخرج من حبسه إلاَّ إلى نهايته الفاجعة. وهي كما في أخبار الحلاج، باختصار، أنه أخرج في صبيحة ليلةٍ من الحبس، فقام وصلّى ثمَّ مدَّ يديه إلى القبلة وأخذ في المناجاة ومما قاله في هذا الموقف الخالد: "نحنُ شواهدكَ نلوذُ بسنا هزّتك لتُبدي ما شئتَ من شأنك ومشيئتك، فأنتَ الذي في السماء إله وفي الأرض إلهٌ...". "إني أحتضر وأُقتل وأُصلَبُ وأُحرَقُ، وأُحْمَلُ على السافيات الذّاريات..."، ثم أنشأ يقول:
"أنعى إليك نفوساً طاح شاهدها
فيما ورا الحيثِ أو في شاهد القدم
أنعى إليك قلوباً طالما هطلت
سحائب الوحي فيها أبحر الحكم
أنعى إليك لسان الحقّ مذ زمنٍ
أودى وتذكاره في الوهم كالعدم...".
ويحمل الحلاج وتُقطع يداه ورجلاه بعد أن يُضرب خمسمئة سوط، ثمَّ يُصلب. ويقول هنا:
"إلهي أصبحت في دار الرغائب أنظر إلى العجائب إلهي إنك تتودد إلى من يؤذيكَ، فكيف لا تتودد إلى من يؤذى فيك؟".
وهكذا، في هذه اللحظات يوقن الحلاج أنّ ما هو فيه أهونُ مراقي التَّصوف، فهنا بلغ ذروة معاناته للحقّ، وهنا انكشف له المشهد الذي ظلَّ مستعصياً على غيره. ويترك هكذا مصلوباً حتى الغد، حيث يُنزل في الغد لتُضرب عنهُ، فيصيح بأعلى صوته: "حسبُ الواجد إفرادُ الواحد له" ويقرأ آية: [يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها، والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحقّ] (الشورى 42/ 18). وهذا آخر كلامه. ثم ضربت رقبته، ولُفَّ في باريّةٍ (وهي الحصير من القصب المفتوح) وصُبّ عليه النّفط وأحرق، ثم حمل رماداً إلى رأس المنارة لتسفيه الرياح" ص 32.
وتتعارض التأويلات في شخصية هذا المصلوب الشَّهيد، من مؤمن به حتَّى النهاية، إلى متّهم له بالكفر والتَّجديف على الملأ الأعلى... وكلّ هذه الآراء في النهاية ما هي إلا الدَّليل على أهمية المختلف فيه وحوله.
ماذا عن ديوان الحلاج؟
أشرنا إلى عمل د. عبد الإله النبهان في تحقيق الديوان الممتد من ص 67 حتى ص 162. وفي شعر الحلاج يبدو لنا الشاعر معبّأ برموز عالمٍ غامضٍ لا يقلُّ غموضاً عن غموض طواسينه الملغزة. وكأن الحلاج لم يقتنع بأن يحمل شعره شيئاً من الغموض، النابع من خصوصية تجربة المتصوّف وكيفية علاقاته بالعالم والغيب واللّغة، نقول لم يقتنع بهذا القليل من الغموض، فراح يبدع "طواسينهُ" التي سيجد قارئها صعوبة في التَّواصل معها. وهذا طبيعيّ، لأنها ليست مكتوبة بهدف التَّعليم ولا الوعظ والإرشاد، إنها التَّعبير اللّغوي المعقّد عن تجربة ليست بتلك السهولة التي قد تُظهرها الأخبار وللتَّدليل على ما نقصده بغموض شعر الحلاج، نأتي بهذا المثال، يقول:
"فأين ذاتكَ عنِّي حيثُ كنتُ أرى
فقد تبيّن ذاتي حيث لا أيني
وأين وجهكَ؟ مقصوداً بناظرتي
في باطن القلب أم في ناظر العينِ
بيني وبينكَ إنّيٌّ ينازعني
فارفع لطفكَ إنِّيِّتي من البَيْنِ"
(ص 121)
وينقل المحقق عن الشَّيبي موضحاً معاني هذا المثال: "حيث لا لأيني بمعنى حيث خفي أيني. أي في حال الفناء أيضاً، وتجاوز الشعور بالشَّيئيَّة الماديّة.
الإنّيّ: هنا في الإنّيّة "وهي تحقّق الوجود العينيّ من حيث رتبة الذَّاتيّة اتّصالاً وكذا بأنا التي منها الأنانية وهي الحقيقة التي يضاف إليها كلّ شيء من العبد كقولهِ: نفسي وروحي وقلبي ويدي" ص 121.
والحلاج القائل: "من لم يقف على إشاراتنا لم ترشده عباراتُنا" كان مدركاً لصعوبة إشاراته، ومدركاً لضرورة أنْ نجهد أنفسنا ونروّضها لتبلغ درجةَ الوقوف على إشاراته وفضّ مغاليقها وامتلاك أسرارها. عندئذ يُصبحُ من السهولة بمكانٍ أن نقف كذلك على العبارات، لأنَّ الطريق إلى العبارة يبدأ من العبور على الإشارة. فهل هذا متاحٌ للجميع؟
وقد ذكر ماسينيون (راجع ص 192 من شخصيات قلقة في الإسلام) عن السهرورديّ، أنَّ الحلاج عندما قال: بيني وبينَكَ إنّيٌّ يزاحمني... إلخ، فإنه كان "قد سأل بهذا البيت أن يرفع هذه البقيَّة قد أعطي حقّ "تصرّف الأغيار في دمه".