ما كان متوقعاً حصل. وصول مسار "التطبيع" مع النظام السوري إلى حائط مسدود. لم تتأخر الدول العربية التي استعجلت فتح مسار التطبيع أو إعادة العلاقات لتكتشف أن خيبتها من دمشق ستتكرر مجدداً. عملياً، جمّد مسار التطبيع، تأجل تعيين سفير سعودي في دمشق، وربما ألغي. فيما الأردن لا يزال يعلن عن إحباط المزيد من عمليات تهريب المخدرات وغزو الأسواق العربية بالكبتاغون، وهو أسلوب يختبر النظام اعتماده في مساعيه الدائمة للابتزاز. جاء مسار التطبيع في ظل اعتماد سياسة سعودية تركز على تصفير المشاكل، والتحضير لقمة عربية يريد ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لها أن تكون مكتملة. فأقدم على تلك الخطوة.
ما سبق التطبيع، كان تقديم مبادرة من عشر نقاط، أصبحت بنودها معروفة، لكن النظام لم يلتزم بأي بند منها، ما جرى على صعيد توقيف أو إعطاء إحداثيات تتصل بتجار المخدرات وكبار المهربين كانت عملية شكلية لا أكثر، أما ما بعدها فعادت الأمور إلى سوابقها. تزامن الانفتاح العربي على دمشق، بالتزامن مع مفاوضات أميركية سورية في سلطنة عمان للبحث عن إتمام صفقة إطلاق سراح رهائن أميركيين في سوريا، فيما طالبت دمشق بفتح مسار لرفع العقوبات. لم ينجح المسار، فعاد النظام السوري إلى ممارسة ابتزازه، وهو ما دفع العرب إلى الإحجام عن ترتيب العلاقات.
الدول العربية التي تحاول في كل مرة تقديم عرض لبشار الأسد وإغراءات للتعديل في سياسته، فيما هو يمتهن لعبة جحا والذئب، وفي كل مرة يظن العرب أن هناك إمكانية للتفاهم معه، بينما لا يوقنون أن هذا الشخص والنظام ميؤوس منه
منذ العام 2000 يجهد بشار الأسد لتوجيه الطعنات إلى الدول العربية، علماً أن قرار تثبيته على رأس النظام كان قد تولاه الملك عبد الله بن عبد العزيز مع الأميركيين، وحصل ذلك في الزيارة الشهيرة إلى مطار دمشق واللقاء معه. في كل مرة كان يبادر العرب باتجاه النظام السوري، وبشار الأسد تحديداً، وفي كل مرة لا يكتفي بالكذب فقط، إنما يذهب بعيداً في الإمعان بطعنهم وغدرهم. بخلاف ما كان عليه حافظ الأسد القادر على الحفاظ على التوازن في علاقته الإيرانية والعربية، وكان الأسد الأب يقتصد في ممارسة الاستفزاز. انحاز بشار الأسد بشكل كامل لإيران، وأصبح أسيراً لها، حيث يمتاز الأسد الابن بالاستفزاز كما بممارسة العنف. الدول العربية التي تحاول في كل مرة تقديم عرض لبشار الأسد وإغراءات للتعديل في سياسته، فيما هو يمتهن لعبة جحا والذئب، وفي كل مرة يظن العرب أن هناك إمكانية للتفاهم معه، بينما لا يوقنون أن هذا الشخص والنظام ميؤوس منه.
بالعودة إلى أبرز ما قاله الأسد في القمة العربية هو جملته الشهيرة التي تتعلّق بالتنقل بين الأحضان في مقابل الحفاظ على الانتماء، إذ قال "إن عروبة سوريا هي عروبة الانتماء لا عروبة الأحضان، لأنه بوسع المرء أن يتنقل من حضن إلى آخر ولكنه يحافظ على انتمائه". فبذلك ردّ الأسد على كل الذين تحدثوا عن عودة سوريا إلى الحضن العربي، وبرر تحالفه مع إيران محملاً العرب مسؤولية هذا التحالف ودفعه إلى تعميقه، مع تأكيده بأنه لا يريد انفكاكه. وهذا ما استكمله في الحديث عن ترك الأمور الداخلية للدول لشعوبها، ما يعني إسقاطاً ورفضاً كاملاً لمبدأ خطوة مقابل خطوة أو البحث في حلّ سياسي.
غالباً ما يقع الرجل في تناقض مع أفعاله، والتي يتذكرها العالم أجمع في شعار "الأسد أو نحرق البلد" و"لا إله إلا بشار"، والتي طبّقت عملياً في أفظع عمليات التهجير العرقي والمذهبي التي شهدته سوريا
أما الجملة الثانية وذات الخطر الأبعد، فتتجلى في ما قاله حول ضرورة ترسيخ ثقافة مواجهة الليبرالية الحديثة، التي تستهدف الانتماءات الفطرية للإنسان وتجرده من أخلاقه وهويته. ومما قاله الأسد: "هي فرصة لترسيخ ثقافتنا في مواجهة الذوبان القادم مع الليبرالية الحديثة التي تستهدف الانتماءات الفطرية للإنسان وتجرده من أخلاقه وهويته، ولتعريف هويتنا العربية ببعدها الحضاري، وهي تتهم زوراً بالعرقية والشوفينية، بهدف جعلها في حالة صراع مع المكونات الطبيعية القومية والعرقية والدينية، فتموت وتموت معها مجتمعاتنا بصراعها مع ذاتها لا مع غيرها". أخطر ما ينطوي عليه الكلام، هو مناقضة الحديث القائل: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً". ما أراد الأسد قوله بوضوح هو الوقوف في وجه الطبيعة، تحدّي مسار التاريخ والذي يعتبر نفسه أنه نجح بكسره، بعدما كسرَ شعبه وأعلن انتصاره. وهو لم يغفل ذلك عندما ارتكز على ما أسماه الانتماءات الفطرية للإنسان. وهذا كلام لم يكتف الأسد بتبنيه في مواجهة الشعب السوري، إنما بمواجهة العالم بأسره ومسار التاريخ، الذي لا بد من خنقه في حال كان اتجاهه نحو تكريس الحرية للفرد والمجتمع.
غالباً ما يقع الرجل في تناقض مع أفعاله، والتي يتذكرها العالم أجمع في شعار "الأسد أو نحرق البلد" و"لا إله إلا بشار"، والتي طبّقت عملياً في أفظع عمليات التهجير العرقي والمذهبي التي شهدته سوريا. وهو الذي قال في محطات سابقة ما يزال يتردد صداه على مسامع العالم، وتجاوز حدود القول إلى الفعل، عندما أعلن عن استعادة سوريا "لتوازنها الطبيعي". وهو التوازن المستمد من عمليات التهجير القسرية لملايين السوريين من انتماء طائفي معين. وهو الذي بفضل حربه رُسمت حدود مذهبية أو عرقية أو قومية في سوريا. لا حاجة للدخول في محاججات كثيرة حول انعدام الجدوى من التطبيع مع الأسد، بل الرجل يقوم بنفسه بالمهمة، فيردّ بأفعاله وأقواله على ادعاءاته.