icon
التغطية الحية

اقرأ كتابين شهرياً | رواية "وصايا الغبار" - الحلقة 2

2024.03.03 | 06:51 دمشق

قببب
 تلفزيون سوريا
+A
حجم الخط
-A

"اقرأ كتابين شهرياً" بادرة ثقافية أطلقتها رابطة الكتاب السوريين في مطلع عام 2024، بهدف إتاحة فرصة الاطلاع على الأعمال الأدبية وتعريف القارئ بمؤلفيها ونتاجاتهم في ميادين: الرواية، القصة، الشعر... ومختلف الفنون الأدبية.

ولتحقيق ذلك، سيعمل موقع تلفزيون سوريا بالتزامن مع صفحة رابطة الكتاب السوريين، وبصورة شبه يومية، على نشر فصول متسلسلة من كلاسيكيات الأدب السوري، وتقديمها للقارئ بدون الحاجة إلى شراء كتبها أو تحميلها. الكتاب الواحد لن تستغرق قراءته أكثر من 15 يوماً؛ والمطلوب من القارئ تخصيص ربع ساعة فقط من يومه لقراءة الجزء المنشور من الكتاب. وفي نهاية كل عام سننهي سويّة قراءة 24 كتاباً مميزاً.


  • رواية "وصايا الغبار" للكاتب مازن عرفة - الحلقة الثانية

"أبو رعد" - السيد لؤي

مطر غزير يهطل على المدينة، وغيوم سوداء مكتنزة بحبات المطر تجثم عليها، وكأنها لا تتزحزح من مكانها، مطر يغسل الشوارع والحدائق وأسطح المنازل والنوافذ والشرفات، يغسل الحزن من القلوب المختنقة وراء النوافذ المغلقة، ويدفعها إلى الشعور بالحنين والاشتياق للغامض والمبهم وراء حدود المطلق، فتبكي لتتخفف من ركام الأزمنة المُغبرة وحصار الأمكنة الترابية. صوت المطر يقرع النافذة بموسيقى الاشتياق إلى الحنين، وورد هي الحنين، فأشعر بالثقة لوجودها قربي، وأكتب بسكينة ومتعة طوال الليل. نامت ورد بعد انتشائها المجنون وتركتني أعمل، إلا أنه من وقت لآخر كانت تصحو للحظات، ترفع رأسها قليلاً كقطة تنشد لمسة حنان، تنظر إلي، وتبتسم بنداء سري للانسياب إليها، أبادلها نظرة حب عميقة، معللاً إياها بتسلل قريب إلى دفئها، وأرجع إلى أوراقي، فتعاود النوم من جديد، وأتابع الكتابة حتى الصباح.

أعمل الآن بتصميم على كتابي الجديد عن العوالم الداخلية للإنسان، فقد قررت التركيز عليه والمضي به إلى الأمام، بعد أن طال التفكير بموضوعه. ينبغي أن اكتشف معنى وحدود هذه العوالم، الغنية بتنوعها، وعمقها، وقدرتها على سبر أسرار الذات، ومعرفة القوى الكامنة فيها وإمكانيات تفجيرها. وعليَّ أن أؤكد نظريتي أن ليست كلها تقود إلى العوالم الماورائية، على عكس ما يرغب صديقي الشاعر المجادل، وهو يحاول إقناعي أنها ستتطور في النهاية حتماً إليها. فقد كان عليَّ كشخص عقلاني أن أحاذر الوقوع في الأوهام، وأن أعيش في الواقع بشكل دائم، بين الناس الأحياء الذين يتحركون حولي.

عند الصباح قررت الذهاب إلى العمل، لا أشعر بالتعب أو النعاس بالرغم من ليلتي الحافلة بالنشاط بين السرير الدافئ والأوراق البيضاء التي أخذت تمتلئ، بالعكس داهمني إحساس بحيوية غريبة لم أختبرها من قبل. خرجتُ أنا وورد من البيت، دون أن أدري من أين أتت بملابسها، ثم مضت واختفت في حلكة رمادية زرقاء تحت المطر، دون أن تبوح لي إلى أين ستمضي، وأين ستقضي وقتها، وعدتني وقد تجرأت على منحي قبلة مجنونة في الشارع "عندما تعود إلى البيت ستجدني في سريرك".

أسير في الشارع وقد تملكني شعور بالرضى والانتشاء من ذكرى ليلة البارحة، جسد ورد اللافح ووضع المخطط الأولي الكتاب، يعززه الانتشاء الجميل بأجواء المطر، إلا أن ذلك كان يتناوب في داخلي مع مشاعر القلق والاضطراب، إذ لا أستطيع أن أفهم كيف مضت تلك الليلة مع ورد، لا زلت غير مصدق، هل كان ذلك حلماً، أم هلوسة، أم حقيقة! ولكني أذكر أنه في لحظة خروجي من الغرفة لمحت فنجانيّ قهوة وكوبيّ شاي ببقايا شرائح الليمون، كانا لا يزالان على الطاولة الصغيرة قرب السرير.

***

أصل إلى مكتبي مبتلاً بماء المطر، أراجع برنامج العمل اليومي، وأقلب الصحف اليومية لمتابعة تغطية النشاطات الثقافية في المركز الذي أعمل فيه مشرفاً، يرافقني فنجان قهوة كبير في محاولة محو آثار سهر الليلة السابقة. يبدأ نهاري مع فيروز، دائماً أستمع إليها ساعة صباحية، تمنحني بشفافيتها معنى إنسانياً عميقاً ليوم جديد، وأضع بعد ذلك شريطاً لموسيقى شوبان في آلة التسجيل، ترافقني معظم النهار بصوت منخفض حالم، فتملئ أجواء المكتب بانسياب ألحان البيانو، وتعطيني القدرة على إنهاء الدوام الرسمي، الذي أصبحت أشعر به ثقيلاً بعد مرور أكثر من سنتين من العمل الإداري الروتيني الممل في هذا المركز. ومن وقت إلى آخر أسترق النظر إلى الحديقة المُعتنى بها بشكل جيد عبر الجدار الزجاجي، حيث تنتظم الشجيرات والورود بين الممرات التي تقود إلى بحرات اصطناعية بنوافير، تسبح فيها بطات بيضاء مدللة. الأخضر بلونه الكثيف المشرق في الحديقة يعيد للنفس بعضاً من سكينتها، والماء المتساقط من هذه النوافير بأشكاله الجميلة المتناثرة ينعشها، وأنا بحاجة إلى ذلك يومياً، ولكن المطر يعطي الحديقة يوم هطوله ألقاً جميلاً مفتقداً في الأيام العادية، فيتحول استراق النظر إلى تأمل طويل يذهب إلى ما بعد الأخضر، وأصل إلى العيون العسلية.

يُقال لي دائماً أنه من حسن حظي أنني استطعت العمل في هذا المركز الرسمي المرفه، الواقع في أحد الأحياء الراقية من المدينة، التي تتكاثر فيها السفارات وأماكن سكن المسؤولين والدبلوماسيين وكبار التجار، فالحدائق الملكية الجميلة والشوارع النظيفة المزروعة ورداً هي سمة مميزة أينما تحركت، بعكس الحي الشعبي الذي أسكن فيه، حيث لا مكان يهرب إليه القلب ليرتاح من الركام المغبر المكدس في كل الزوايا، ومن الزعيق الصادر من وراء النوافذ. ولكن هنا لا هديل حمام ولا زقزقة عصافير، تصلني من وراء النافذة، وعوضاً عن ذلك لا تتوقف صفارات سيارات شرطة المرور، وهي تقطع الطرق باستمرار لتسهل مرور مواكب المسؤولين والضيوف الرسميين.

السكرتيرة الثلاثينية النحيلة تجلس في مكتبها الصغير الجانبي، أسمع صوتها وقد بدأت عملها الخاص الصباحي على الهاتف، الذي يستمر رنينه تقريباً طوال النهار، بالاطمئنان على أولادها، والاتصال بصديقاتها اللواتي أمضت معهن سهرة الأمس، تتخللها أحاديث طويلة مع عشيقها الأخير، تتبادل معه الحكايات والأشواق التي لا تنتهي، وإمكانيات اللقاء عند تغيب زوجها المسائي الطويل في العمل أو في أسفاره الكثيرة خارج المدينة. ذات مرة قال لي مدير المركز "اقبلها كما هي، ولا تكلفها بالأعمال التي لا ترغب بها، إنها مفروضة علينا من أصدقاء يهمنا استمرار العلاقات الودية معهم، ولكن كن حذراً في الحديث أمامها".

يدخل المستخدم ويخرج إلى المكتب بشكل مستمر، ويسأل دائماً بطريقة لجوجة "أستاذ، هل تريد شيئاً؟". أطلب كأساً جديداً من الشاي كلما فرغ القديم، الشاي هنا دون رفاهية، لا شرائح ليمون ولا أوراق نعنع خضراء. ورد عرفت البارحة ما أحبه سريعاً، وشربت معي شاياً بشرائح ليمون وأوراق نعناع أخضر، حيث احتفظ منها بشكل دائم في الثلاجة، كيف عرفت ذلك؟ هل دخلت إلى عقلي أم خرجت منه!

يتابع مساعدي عمله اليومي في تجهيز قاعة المحاضرات، الوضع في مركزنا لا يحتمل أية أخطاء تسيء إلى "سمعتنا الوطنية" مع كل الاحتفالات الرسمية التي تحدث فيه، وتبث غالباً بشكل مباشر عبر التلفزيون الرسمي، وتغطى بوكالات الأنباء العالمية، أما النشاطات الثقافية فتحظى بشكل مسبق بموافقات رسمية ومتابعات من قبل أجهزة "حفظ الاستقرار الوطني"، وتُسجل كلها بالصوت والصورة في أرشيف منظم تلبية لمتطلبات الجهات المعنية.

***

صباح يوم يبدأ، مثل كل الأيام، قبل أن أضيع في زحمة الاتصالات الهاتفية وزيارات المراجعين، وما يتخلل ذلك من تسكع صحفيين وكتاب وأشباه مثقفين في مكتبي، يحضرون في أثناء ضغط الأعمال لشرب الشاي والقهوة وقضاء بعض من أوقات فراغهم، فأجاملهم بكلمات ودية بين اتصال هاتفي وآخر. صباح مثل كل الصباحات، مع استثناء صغير في هذا اليوم، فمساءً ستقام حفلة موسيقى كلاسيكية في المركز. وإلى هنا فالخبر عادي، ولكن الشيء الاستثنائي فيه أن العازف الضيف قدم من بلد أجنبي ليس لبلدنا معه "علاقات طيبة "على المستوى السياسي في هذه الفترة بالذات، في إطار التجاذبات الودية والتناقضات المتوترة، بتناوباتهما المستمرة. وكان من الطبيعي أن تشارك سفارة بلاده برعاية هذا النشاط الثقافي الموسيقي، مما تطلب من أجهزة "حفظ الاستقرار الوطني" استنفاراً غير عادي.

كانت مثل هذه الحفلات الموسيقية شيئا عادياً في مسار الفعاليات الثقافية في المدينة، وأصلاً من كان يهتم بالموسيقى الكلاسيكية في هذه الأيام هم نخبة صغيرة من بقايا المجتمع المخملي بأصوله البورجوازية القديمة، التي وصلت إلى شبه الاندثار مع اجتياح الحداثة الثورية لطموحاتها الارستقراطية القديمة، وهي تحاول بحضورها مثل هذه المناسبات أن تثبت أنها ما زالت تعيش، وإن كان ذلك على هامش الحياة والمجتمع، ولذلك لم يكن هناك أي اهتمام رسمي مباشر بها. لكن في هذه المرة كان الوضع مختلفاً تماماً، فهذه سفارة أجنبية تشارك في رعاية الحفل، والخطير أن العلاقات شبه متوترة مع الدولة التي تمثلها في هذه الفترة.

ومنذ بداية الدوام الرسمي في هذا الصباح حضر إلى مكتبي رجل ضخم في الأربعينيات من عمره، لمحته منذ أن كان يتقدم بخطوات سريعة في الممر مع ارتسام مظهر جدي على الوجه وثقة عالية بالنفس من طريقة اقتحامه الغرفة، يتبعه شاب نحيل يبدو أنه مساعده المرافق له، والذي لا يستطيع أن يجاريه بسرعة خطواته واتساعها. كان مظهرهما متناقضاً، إذ بدا الرجل الضخم عملاقاً بوجود الآخر النحيل إلى جانبه. حياني القادم بصوت عال وأجش "مرحباً يا رفيق، معكم "أبو رعد" من جهاز حفظ الاستقرار".

كان من المتعارف عليه عندهم أن جميع العاملين في الدولة هم من المؤتمنين على أسرارها الوطنية والمرضيين عنهم، ولاسيما في المجالات الثقافية التي تعد حساسة جداً في "الدفاع عن مكتسبات الثورة"، وإلا لما سُمح لهم بالعمل فيها. فهم جميعاً بالتالي إما رفاق أو أشباه رفاق، يتم الاستفسار عنهم بإجراءات أمنية معقدة قبل قبولهم في العمل، وإن كان هذا لا يمنع تسلل بعض غريبي الأطوار أمثالي إلى المؤسسات الرسمية، تحت غطاء شهاداتهم التخصصية العليا. كانت اللهجة الآمرة للرفيق "أبو رعد" توحي بالثقة الشديدة بالنفس، وكأنه يريد إعطاء انطباع أنه قد تم اختياره لخبرته الكبيرة والطويلة في مجال عمله، وبما يتناسب مع مهمة شديدة الأهمية في هذا اليوم. ودون أن يجلس بادرني مسرعاً وبلهجة شبه آمرة بطلب معلومات عن أمسية الليلة في المركز، وبالرغم من محاولته أن يكون ودوداً إلا أن طبيعة لهجته القاسية وصوته الأجش ووجهه شبه المشوه فرضت جواً من عدم الإلفة، إضافة إلى أنني مسبقاً لا أرتاح للتعامل مع الجلفين، الذين لا يتناسب اختيارهم للتعامل مع مجال حساس جداً كالمجال الثقافي. فقدمت له بطاقة الدعوة للحفلة المتضمنة برنامج الأمسية، لكنني فوجئت برميها على مكتبي بنوع من اللامبالاة قائلاً "أخبرني مباشرة بالأشياء العملية".

فكرت بالأشياء العملية التي يطلبها "أبو رعد"، فهي ليست من اختصاصي كإداري، وقد أصبحت من كثرة التعامل مع هؤلاء العناصر أعرف ما يتم تكليفهم به وما هي الأشياء العملية المطلوبة منهم. فعليهم في مثل هذه الحالة أن يراقبوا بشكل خاص المواطنين المحليين الذين يحضرون إلى الأمسية، وبشكل خاص تتبع من يتحدث منهم مع السفير أو مع أحد أعضاء السفارة، وما يحدث بينهما من مصافحات ومعانقات وابتسامات ووشوشات وإيماءات وملامسات مرافق والتفاتات تبدو عفوية، فلكل شيء إيحاءاته الأمنية، ومن الممكن أن تأخذ تفسيرات ذات أهمية على المستوى الأمني، وتكشف ما "وراء الأكمة". ولذلك استغربت الإلحاح على طلب المعلومات العملية عن الأمسية وبطريقة لجوجة، إذ يبدو أن الرجل قد كُلف بالمهمة الخطيرة على عجل وفي اللحظات الأخيرة، وحضر إلى مكتبي دون أن يكون لديه فكرة عما هو مكلف به. فأجبت حتى أنهي المقابلة بسرعة "حفلة موسيقية تُعزف فيها مقطوعات لمؤلفين مشهورين".

يفاجئني بسؤاله "من هم هؤلاء المؤلفون؟".

فكرت قليلاً بماذا علي أن أجيبه، وتساءلت عن السبب الذي يدفعه للاهتمام بمؤلفين موسيقيين كلاسيكيين! فأجبت "شوبان، وموزارت، وتشايكوفسكي".

ولكن الدهشة تزداد لدي بسؤال جديد غير متوقع "وهل هؤلاء الأشخاص مضمونوا الولاء لبلدنا وقضيتنا ولنهجنا الثوري؟".

يبدو أن وقع أسمائهم الغريبة عليه قد حرك حسه الأمني، وربما فكر مباشرة بأن يكون لهم علاقات أو صلات بدول معادية لنا. وحتى لا أدخل في متاهة شرح أن هؤلاء موسيقيون وليسوا محاضرين، وأنهم عاشوا في القرن الثامن عشر، حيث لم تكن دولتنا الثورية موجودة ولا الدول الإمبريالية المعادية لها، فقد اختصرت الحديث وقلت "بالتأكيد فهم مؤمنون بقضايانا العادلة، ويؤيدون حقنا في استرجاع حقوقنا المغتصبة من العدو الغاشم الذي ضرب عرض الحائط بكافة المواثيق الدولية، ودائماً كان يُسمح بدخولهم إلى البلد ويتجولون فيه بحرية كاملة، وقد شاهدوا آثار العدوان الهمجي في المناطق المحررة، وبالمناسبة فقد ألفوا في بلادهم جمعيات صداقة للدفاع عن مبادئنا الثورية العظيمة".

انتهى الحديث، فأنا مصدر ثقة للمعلومات وتقييمها ما دمت موجوداً في مثل هذا الموقع.

"شكراً رفيق، تحياتي".

خرج "أبو رعد" هو ومرافقه النحيل مسرعاً كما دخل، وبنفس الثقة بالنفس دون أن يلتفت إلى الوراء. انتهت المقابلة المهمة التي ستقرر كيفية التعامل مع الأمسية الموسيقية، وذهب الرفيق "أبو رعد" لوضع خطة ذكية لمراقبتها والسيطرة عليها، وربما سيحاول التعامل بلطف مع شوبان وموزارت وتشايكوفسكي، ويطلب منهم كتابة تقرير "ثقافي" عن الأوضاع في بلدانهم، ومن ثم رفعه إلى الجهات المعنية لدينا، لكي تستطيع اتخاذ القرارات المناسبة على ضوئه في الأزمات السياسية المستمرة في المنطقة.

***

طلب كأساً جديداً من الشاي، صوت فيروز الصباحي ومنظر المطر عبر النافذة تستدعي ذكريات طفولتي في بلدتي الصغيرة القريبة من المدينة. كنت أستيقظ على فيروز في الصباحات الباردة، وأذهب لأشتري خبزاً ساخناً من الفرن، تنساب أغنياتها من نوافذ المنازل، ومن البقاليات الصغيرة التي فتحت أبوابها باكراً، ومن سيارات الأجرة العابرة. ولكن "أبو رعد"، النسخة المعاصرة المهذبة لعناصر جهاز "حفظ الاستقرار"، أعادني إلى البلدة ليذكرني "بأبو أحمد" الذي كان يعمل مع هذا الجهاز في بلدتنا بنهاية الستينات، عندما كنت صبياً صغيراً وقد بدأت أكتشف العالم حولي. كانت مجموعته المؤلفة من خمسة رجال تقف برأس الشارع الرئيسي قريباً من الفرن بسيارتهم اللاندروفر، حيث يجلس السائق دائماً جلسة مواربة على مقعده وراء المقود وقد ترك الباب مفتوحاً وتدلت قدماه منه، في حين توزع الأربعة الباقون وقوفاً بجانبها، مستندين بظهورهم إليها أو متكئين على مقدمتها الطويلة، ويراقبون كل ما يتحرك في الشارع، حتى ولو كانت النملة، أما "أبو أحمد" فلا يفارق جهاز اللاسلكي الكبير يده. كانوا يثيرون الخوف بمجرد رؤيتهم، ليس بسبب الحكايات التي أكسبتهم سمعة مخيفة من مثل "اقتحام المنازل ليلاً" و"من يأخذونه لا يرجع"، وإنما أساساً من مظهرهم الذي يصدم. كانوا كلهم ضخام الجسد بكروش قاسية ممتلئة، تتدلى من فوق أحزمة البنطال، وبوجوه شبه مشوهة ترتسم عليها بقايا ندب من جروح قديمة، أو ربما قد ولدوا هكذا، وتزينها دائماً شوارب ضخمة مشعثة لا تتناسب مع رؤوسهم الحليقة، ولا أتذكر أنني رأيتهم مرة بذقون حليقة. يلبسون دائماً ملابس قديمة فضفاضة، ربما كي تسمح لهم بحرية الحركة، في حين تبرز قبضة المسدس من البنطال فوق المؤخرة، وهي الإشارة التي تجعل رجل الجهاز معروفاً فيبتعد الناس عنه توجساً.

لا أعرف من أين تأتيني مثل هذه الصورة عن مجموعة "أبو أحمد" بجانب الفرن، الذي كنت أقف بالدور أمامه طويلاً، ربما تشوهت مع مرور الزمن! ولكن الذي لا أنساه أنه كان لي الشرف ذات مرة أن أصافح "أبو أحمد" وأنا واقف في الدور الطويل. جاء "أبو أحمد" وقتها وقد ابتعد الجميع عن طريقه، وأخذ أرغفة خبز نشرها على جدار مقابل لكي تنشف قليلاً، لا أتذكر إن دفع ثمنها أم لا. ولكن بما أن دوري كان أمامه فقد بدا وكأنه فوجئ بوجود صبي صغير عليه أن يأخذ دوره، وأخذ دوري طبعاً ولكنه حاول أن يعوض ذلك بلطف مفاجئ، فسألني "أنت ابن المرحوم" أبو محمد "الذي كان يقاتل في الجبهة في الخمسينيات؟".

وصافحني بيده، وهذا ما لم أنسه في حياتي، فقد أمسكت بيدي الصغيرة الناعمة يد ضخمة خشنة قاسية وثقيلة، كادت أن تهرسها، واستمر الألم لدقائق بعد أن تركها من حرارة المصافحة الحميمية الودية. هل كانت تلك لحظة إنسانية من شخص تحفظ ذاكرة البلدة عنه أنه شارك في اعتقال شيوعيين وناصريين وبعثيين قدامى وقوميين سوريين منها في أوج الصراعات السياسية في الستينيات، مما لم يجعله محبوباً حتى في عائلته؟!

"أبو أحمد" عمل سائقاً على إحدى سيارات الأجرة بين البلدة والمدينة بعد صرفه من الخدمة إثر تغير في الأوضاع السياسية، ولكنه ظل أرعنَ وجلفاً طوال الوقت، تعرف بوجوده في الشارع دون أن تراه من صراخه الأجش بصوت عال، وبقي يأتي إلى المخبز ويأخذ حصته من الأرغفة دون دور. وبسبب من تهوره في القيادة فقد توفي ثلاثة أشخاص بعد أن انقلبت سيارته نتيجة سرعته الزائدة عند أحد المنعطفات، وخرج حياً بعد أن تحطمت ساقه. لم يتأسف الكثير من الناس عليه، وانزوى بعدئذ في منزله الذي يملأه صراخاً دائماً بصوته الأجش، ولم يعد يخرج منه بعكازه إلا لماماً.

كان صوت فيروز مستمراً وأنا انظر إلى الحديقة عبر النافذة، وقد اغتسلت تماماً بالمطر الذي كان يهطل منذ البارحة، ففي مثل هذه اللحظات الهادئة تتداعى الذكريات الجميلة المليئة بالمواقف الإنسانية. لكن زيارة "أبو رعد" المفاجئة قلبت الذكرى، فأتت صورة "أبو أحمد" القديمة، وهي صورة لا زالت مستمرة، ولكن ليس بفجاجته التي وصلت إلى الذروة. فأمثاله من العناصر ما زالوا يأتون إلى النشاطات الثقافية التي يقيمها المركز، يحضرون وكأنهم قادمون من ميدان معركة بلباسهم الميداني، لينهونها داخل المركز. يبحثون عن معلومات سريعة عن موضوع المحاضرة، ويحاولون معرفة من سيحضرها من المسؤولين عن طريق صغار الموظفين، ويعفون أنفسهم من متابعتها للتخلص من مآزق الضياع في متاهات العولمة والأسلمة وما بعد الحداثة والشيزوفرينيا والتفكيكية والشركات العابرة للقارات، التي لا تمس أمن الوطن ولا تهدده. وترتفع التقارير إلى الجهات المعنية أن الوضع في المحاضرات مستقر ومنضبط، فلم يتحدث فيها أحد عن العشائر والقبائل والطوائف والعائلات والأحزاب الحاكمة والمجموعات المعارضة في المجتمعات العربية، وأن الأمور بخير.

***

ات مرة عند بدئي للعمل الجديد في المركز أقيمت حفلة موسيقى كلاسيكية، عادية مثل كل الحفلات، ودون رعاية من سفارة أو جهة أجنبية. كنت قادماً من السفر منذ مدة غير بعيدة، ولا زلت أشعر بالانفصام بين هنا وهناك، بين النظام والفوضى، محاولاً التأقلم مع الفوضى الطبيعية هنا. ومنذ بداية عملي، حاول اثنان من العناصر المتابعة للنشاطات في المركز إقامة علاقة ود معي، ربما لتـأمين المعلومات لهم في الصباح عن النشاطات دون تكليف أنفسهم عناء حضورها في المساء، حيث تستمر إلى ساعة متأخرة. ولكن الأمور لم تنجح بيننا، إذ لم أكن أزودهم سوى ببطاقات الدعوة الرسمية، فأنا لا علاقة لي بالأمور العملية الخاصة بهم، ولم أكن حتى أعرفها في ذلك الوقت. ولكن فوجئت بقدومهم مساءً بعد بدء الحفلة بأكثر من عشر دقائق حيث أُغلِقت الأبواب بالكامل، ولم تُفتح لهم حسب التعليمات الناظمة للعمل، حتى لا يحدث تشويش على الفنانين الموسيقيين في أثناء عزفهم. كان على المسرح عازف غيتار كلاسيكي، بالكاد يُسمع صوت عزفه على الأوتار، وعادةً لا تستخدم هنا الميكروفونات لتقوية الصوت، وذلك لمعايشة أجواء العصور التي تم فيها تأليف الموسيقى القديمة. أما الحضور فقد كانوا يصغون بصمت عميق ليلتقطوا تلاعب أنامله الرقيقة على الأوتار والانفعالات المرافقة على وجهه. تسلل البواب بهدوء إلى الصالة حيث أتابع الحفلة، وهمس بأذني "اثنان من عناصر حفظ الاستقرار في الباب يريدون الدخول لمراقبة الحفلة".

أجبته بهمس ساخطاً "حتى أنت من غير المسموح دخولك إلى الصالة بعد بدء الحفلة، تعرف التعليمات".

"ولكن يا أستاذنا، هؤلاء من الجهاز ولا استطيع التعامل معهم هكذا!". أصرَ هامساً بأذني.

"قل لهم هذه هي التعليمات، ممنوع دخول أحد بعد بدء حفلات الموسيقى الكلاسيكية، كان عليهم الحضور مع الجمهور قبل إغلاق الأبواب، وكفى".

"ولكن يا أستاذنا هذه المرة معهم فروج مشوي ساخن مع كل المقبلات لكي تتعشوا معاً".

فروج مشوي! استغربت ذلك، وساخن! بالتأكيد يجب أن يتم أكله حالاً، إذ إنه سيبرد حتى انتهاء الحفلة، وأين سنأكله مع المقبلات، في عتمة الصالة، أم في الصفوف الأولى، أم قرب العازف! ربما يظنون أنها حفلة طرب راقصة في أحد الملاهي، وربما وجدوها فرصة لتقوية أواصر الود والمحبة عن طريق عشاء فاخر في جلسة شعبية خلال الأمسية، سنأكل وقوفاً ونعطي فخذاَ شهياً للعازف الضيف، كان يجب أن أسأل البواب إن أحضروا معهم أيضاً زجاجة الويسكي، وإن كان لديهم استعداد لاصطحاب الراقصة معهم في نهاية الحفلة!... اعتقدت أنهم عادوا أدراجهم بعد أن لم اسمح لهم بالدخول.

انتهت الحفلة في ساعة متأخرة، وخرج الجميع منها، أَطفئتُ الأضواء، وأَغلقتُ الأبواب الأوتوماتيكية في المركز، وعند الباب الرئيسي فوجئت أن العنصرين ما زالا ينتظران، لا أعرف من أجل ماذا! لإعطائي درساً في التعامل معهما، أم لأكل الفروج الذي أصبح بارداً! وحتى لا أصطدم بهما وخوفاً من الاحتمالين خرجت من باب جانبي، وذهبت إلى البيت مسرعاً، إذ كانت على وشك أن تمطر، دون أن يهمني معرفة إلى متى انتظروا.

في صباح اليوم التالي كانت السماء ملبدة بالغيوم ومكفهرة بالكامل، وهي تنذر بعاصفة شديدة، شعرت بقلق داخلي، فأسرعت إلى مكتبي في المركز، جلست لأطلب فنجان القهوة، ولكن السكرتيرة تفاجئني بأن المدير يتصل على الهاتف بإلحاح منذ مدة ولعدة مرات، وطلب منها إبلاغي بضرورة الحضور بسرعة إلى مكتبه فور وصولي. سألتُ السكرتيرة "هل هناك شيء ما خطير؟!"، رفعت كتفيها ورسمت علامة استغراب على وجهها دلالة على عدم معرفتها بالسبب دون أن تنطق بكلمة، ولكن ما إن أسرعت بالذهاب حتى كأنني لمحت ابتسامة خبيثة على فمها، أخفتها بسرعة عندما لاحظت استدارة رأسي باتجاهها. هل هناك شيء خطير! ربما لا، فعلى الأغلب خُيل لي أنها تبتسم.

أذهب إلى مكتب مدير المركز، أقرع الباب بعد أن أخبرته سكرتيرته الحسناء بقدومي، أدخل، اتجه إلى طاولة المدير العريضة مباشرة، أفاجئ برجل عملاق جداً يجلس خلفها باسترخاء، مستنداً بأريحية على الكرسي ذي المسند العالي، ألتفت شمالاً فأجد المدير جالساً على طرف الأريكة حتى يكاد أن يسقط عنها، وقد تضاءل حجمه أمام العملاق وأصبح صغيراً جداً. قلت في نفسي، إذا كان المدير "المدعوم جداً" يجلس هكذا، فمعنى هذا أن العملاق الجالس وراء المكتب هو رجل مهم ونافذ جداً. ذكرني شكل العملاق بـ "أبو أحمد" الذي عرفته في طفولتي، لكن بما أن العملاق أضخم كثيراً من "أبو أحمد" بلدتي ويجلس بهذه الطريقة وفي موقع المدير، فهو رئيس مجموعته، أو بالأحرى رئيس مجموعات فيها الكثير من "أبو أحمد".

يبادرني المدير دون أن يدعوني للجلوس "أنت حضرت منذ زمن قريب إلى الوطن وتعمل مباشرة في أهم مركز ثقافي في المدينة.....".

شعرت أن المدير يختار كلماته بعناية شديدة، يوجهها لي وهو ينظر إلى العملاق بين جملة وأخرى، وكأنه يأخذ موافقته ورضاه عما يقوله. يستمر المدير "أنت تعرف الظروف الصعبة والدقيقة التي يمر بها وطننا في ظل أوضاع إقليمية ودولية معقدة وحساسة، وأنت تعرف سياسة الغطرسة والتعنت والعدوان الإجرامي التي يمارسها الأعداء ضدنا، ويريدون بها سلب حقوقنا والنيل من صمودنا، منتهكين المواثيق والشرائع الدولية".

شعرت بالتعب، لا أدري من الوقوف أم من الخطاب الثوري المتفجر، فمثل هذا الخطاب يحتاج إلى جموع "غفورة" من الجماهير المناضلة، حتى تمتصه بالتصفيق والهتافات، لكنني متخلف فكرياً وعقلياً وإيديولوجياً في مثل هذه القضايا الوطنية، فجلست دون أن يدعوني أحد إلى ذلك. فهمت الآن كيف أن المدير مدعوم جداً، ما دام لديه مثل هذه المؤهلات الخطابية ذات المستويات العالية. يتابع المدير الحديث ناظراً إلى العملاق أكثر مما ينظر إليَّ "ولذلك يجب أن نفوت على الأعداء أية فرصة للتسلل إلينا وزعزعة الصفوف الداخلية.....".

تسألت في نفسي ما علاقتي أنا بسياسة الغطرسة والتعنت وزعزعة الصفوف الداخلية، أنا رجعت إلى البلد كي أبحث عن عيون عسلية، ولا أظن أن هذا البحث سيزعزع الصفوف الداخلية!

يستمر المدير "أنت جديد هنا، ولك دورك المهم في دعم النضال الثوري والتماسك الوطني، أنت تشرف على نشاطات ثقافية حساسة، قد يتسلل الأعداء وطوابيره منها إلى صفوفنا بالأفكار المخربة، وأنت مثقف وتعرف ما معنى غسل عقول المواطنين الشرفاء، إنما عملك البارحة في الأمسية الموسيقية لم يكن مشرفاً وغير متعاون مع الأجهزة المختصة. أرجو أن لا يتكرر ذلك، سنعتبره سوء فهم هذه المرة، ولا تزعزع ثقتنا وثقة القيادة فيك. شكراً، تستطيع العودة إلى عملك".

نهض العملاق ـ أقصد "أبو أحمد" العملاق ـ فجأة، فقفز المدير القزم واقفاً وابتعد إلى الوراء، مدَّ "أبو أحمد" العملاق يده لي مصافحاً من وراء الطاولة، أمسكت يدي الصغيرة الناعمة التي اعتادت الكتابة يداً خشنة قاسية وثقيلة، وشدت عليها، كادت أن تهرسها، يتكلم أخيراً بصوت جهوري بعد أن كان صامتاً طوال الدرس الوطني لي "نحن نقدر التزامك بالتعليمات الإدارية، ونتمنى أن تتعاون معنا دائماً". وهز يدي عدة مرات تعبيراً عن الاتفاق والعلاقات الطيبة الجديدة التي سنبدؤها من هذا اليوم، وعندما سحبتها بقي الألم يرافقني دقائق من حرارة المصافحة. وبالرغم من محاولته الودودة، فقد كان قاسياً في كل شيء، ليست فقط يده، وإنما أيضاً صوته، وتعبيرات وجهه، وهامته العالية، وطريقة حديثه. تراجعت وانسحبت مرتبكاً، حتى إنني كدت أتعثر بالسجادة الفاخرة التي تزين مكتب المدير، السجادة التي جاءته هدية من أحد أصدقائه التجار عندما استلم منصبه، هذا ما قيل لي! ربما هذه أقاويل تلاحق المسؤولين الصغار. وتذكرت هنا بالضبط عبارة زعزعة الصفوف الداخلية، فتراجعت عن التفكير بالسجادة الفاخرة.

خرجت من المكتب، بقيت السكرتيرة مهتمة بعملها دون أن ترفع رأسها نحوي، ربما هي مفروضة عليه أيضاً من أصدقاء يهمه استمرار العلاقات الودية معهم، وإلا لما كانت تتصرف بهذا الاستعلاء. لكن في أثناء خروجي لمحت أيضاً على فمها ابتسامة خبيثة، أخفتها عندما لاحظت استدارة رأسي إليها، أو ربما خُيل لي ذلك. رجعت مسرعاً إلى مكتبي، أغلقت على نفسي الباب، لأضع خطط التعاون الدائم، الاستراتيجية والتنفيذية، حتى لا تهتز ثقة الإدارة والقيادة بي. وأخذت أفكر طويلاً وأبحث أين لم أكن متعاوناً البارحة بالضبط، مما كاد أن يؤدي إلى زعزعة الصفوف الداخلية، وربما فتح ثغرة في الجبهة الداخلية يتسلل منها الأعداء! لم أعرف أين بالضبط. وعلى الأغلب أظن أن عدم التعاون قد ظهر حينما تسببت بضياع نكهة الفروج وهو ساخن، إذ ربما ستتكلف الميزانية العامة أموالاً طائلة من أجل إعادة تسخينه..... ولكن الحادثة مرت بخير. وللأسف لم يعد أحد يدعوني إلى فروج مشوي أو ما شابه حتى أكون متعاوناً، بل لأظهر حماسي الشديد للتعاون، ولكن الجيد أنه لم يكتشف أحد من المسؤولين أنني كنت أفضل البحث عن عيون عسلية في هذه الحفلات، بدلاً من تناول فروج مشوي ساخن مع المقبلات من أجل عدم زعزعة الصفوف الداخلية، ونجوت في هذه المرة.

زيارة الرفيق "أبو رعد" ذكرتني بـ "أبو أحمد" الذي عرفته بلدتنا في طفولتي، يبدو أنني كبرت، وذهبت إلى الخارج، ورجعت، ولا زلت أصادف أمثال "أبو أحمد"، بل ووجدته في مركز عملي، وإن كان ذلك بشكل أكثر تهذيباً، ولكنه كان قد تضخم بطريقة غير معقولة، ربما تعبيراً عن تضخم سلطاته ونفوذه، وعلى كل الأحوال فهم جميعاً يجعلونك تخاف في النهاية، وإذا ما كان لك الشرف وصافحت أحدهم مصافحة ودية فإن يدك تكاد أن تنهرس، وتبقى متألمة لدقائق من حرارة المصافحة. صديقي عمار الذي رأيته آخر مرة قبل السفر، كان يفهم ويحلل الأوضاع بشكل جيد، وربما لأجل هذا اختفى، وعلى كلٍ كانت إحدى اكتشافاته المهمة أن داخل كل منا يوجد "أبو أحمد"، وظيفته ضبط ومراقبة تصرفاتنا وأفكارنا، وبما فيها بشكل خاص أحلام اليقظة، لكي تنسجم حياتنا بالكامل مع مسيرة الثورة والوطن. وبصعوبة تخلصت من "أبو أحمد" في داخلي، والصعوبة في ذلك ليس فقط لشدة بأسه وتشبثه للبقاء في داخلي، بل لتعاونه أيضاً مع أستاذ الديانة، رمز القمع الديني في بلدتنا، الذي حاول أيضا أن يعشش في داخلي. كنت بحاجة للخروج من البلد حتى أستطيع الخلاص منهما معاً، ونجحت عندما خرجت، ولكن أحتل مكانهما قادم جديد إلى داخلي، وأخذ يحاول ضبط تصرفاتي وطريقة أفكاري وأحلام يقظتي بالطريقة نفسها، تسلل المنقذ الأمريكي العالمي، الذي قرر أن ينقذنا من ذواتنا، بالسلاح الأمريكي أو الحلم الأمريكي لا يهم، ولذلك لم يكن من السهل مقاومته ولفظه إلى الخارج، ولا يهم إن كنت في أي بلد، فوجوده يخترق البلدان كما العوالم الداخلية.

***

ستيقظ من تداعي الذكريات وأحلام اليقظة التي أصبحت ترافقني بشكل دائم، حتى ولو كنت أتحدث مع أحدهم، وكأنني أهرب بواسطتها من مواجهة الواقع الذي يحاصرني دائماً بعبثيته..... مرت على زيارة الرفيق "أبو رعد" حوالي ساعة من الزمن، أرد على بعض الاتصالات، أشرب الشاي وأتأمل عبر الزجاج الجداري المطر المتساقط على الحديقة. انقطع المطر فجأة، ولكن الشمس لم تشرق، فقد حل مكانها ضباب مُلغز كثيف، بحيث اختفت معالم الأشياء وحدود الأمكنة في نسيجه القطني المسحور، أصبحت أشجار الحديقة أشباحاً متأرجحة متراقصة مسافرة في المبهم، لا يمكن معرفة ماذا تخفي وراءها، وكأن شيئاً غريباً غير متوقع يمكن أن ينبثق من خلفها في أية لحظة. ومع أنني أحب أجواء الضباب بسبب المجهول المختبئ خلفه، إلا أن ضباب اليوم يبعث على القلق الشديد، وترقب ظهور شيء مفاجئ، بحيث أن مجرد التفكير بذلك يجعلني أتوتر بشدة.

لم تمض أكثر من ساعة على ذهاب "أبو رعد" حتى فوجئت بانبثاق رجل أمامي في الثلاثينيات من عمره، ممشوق القامة، وسيم الوجه، حليق الذقن والشارب، أنيق المظهر، ببذلة وربطة عنق فاخرة، يتبعه رجل في الأربعينيات أشقر الشعر، لا يقل أناقة عن الأول، لكن دون ربطة عنق. تقدم من طاولتي، وصافحني محيياً بود وممسكاً بيدي طويلاً، وكأن هذه الحركة مبادرة تعبير عن الرغبة في إيجاد حميمية خاصة بيننا من اللقاء الأول، وكانت النتيجة أن فرضَ وجوده عليَّ مباشرة منذ اللحظة الأولى للقائه بطريقة لطيفة، وإن كانت لا تخلوا من المداهنة.

سألني بتهذيب شديد: هل نستطيع الجلوس وحدنا والتحدث لبعض الوقت، نحن من "جهاز الإشراف الحضاري ـ قسم المعلومات". ثم عرفني على مرافقه "السيد لؤي، مساعدي والمسؤول عن نشاطات المراكز الثقافية في المدينة".

صافحني المرافق مبتسماً بنظرة ثعلب ماكر، اقتحمتني بعنف دون أن أستطيع ردها.

طلبت قهوة وجلسنا معاً على الأرائك مقابل طاولتي، وأنا أتساءل في نفسي عن هذا الجهاز المعلوماتي الجديد الذي لم أسمع به، "الإشراف الحضاري ـ قسم المعلومات"! بالتأكيد هم قادمون أيضاً من أجل الأمسية الموسيقية، فمثل هذه الحفلة الخطيرة لا ينبغي أن تفوت مراقبتها على أي جهاز في البلد. لكن فكرت بأن هذا جهاز غريب تماماً، فعناصره لا تمتلك قبضات قاسية شديدة تؤلم اليد عند التحية، هل هؤلاء الذين يضربون بأيدي مخملية، فيكون تأثيرها أقوى من القبضات الحديدية!

جاء المستخدم بالقهوة، فنهض السيد لؤي وأخذ فنجان قهوة وقدمه بانحناء واحترام شديد للشاب ذي ربطة العنق "تفضل معلم".

يبدو أن "المعلم" ذو رتبة عالية مع أنه ليس عملاقاً، وأن كل ما يجري أمامي الآن يختلف عما حدث مع المعلم "أبو أحمد" العملاق ومع "أبو رعد". دهشت عندما أخذ "المعلم" يحدثني عن الحديقة الجميلة التي يطل عليها مكتبي بدلاً من أن يطلب معلومات عن الأمسية الموسيقية، قال لي دون أن ينظر إليَّ "مكتبك يطل على حديقة جميلة، ولكن هذا الضباب يخبئ خلفه المجهول، لا تعرف ماذا يخفي وراءه، وكأن شيئاً غريباً غير متوقع من الممكن أن ينبثق خلف هذه الأشجار الأشباح!".

شيء ما غير متوقع، هذا ما كنت أفكر به قبل قليل! هل قرأ أفكاري، أم هو نوع من التخاطر بيننا، أم أن المنظر الواحد يعطي إيحاءات متشابهة؟ يتابع "المعلم" الحديث وهو ما يزال ينظر إلى الحديقة "أمام منزلي حديقة صغيرة، عندما يزهر الياسمين بزهوره البيضاء فيها مع قدوم الربيع يصبح كل الشارع محملاً بشذاه العبق".

وفي أثناء ذلك يتابع السيد لؤي كل حركة أو إيماءة تصدر من "معلمه" ليؤكد موافقته وثناءه على كل ما يقوله، دون أن تغادره الابتسامة والنظرة الماكرة كلما التفت إلي. لم أكن أعرف أن هناك في الأجهزة من لديهم هذا الحب للطبيعة وبمثل هذه الشاعرية الرقيقة، ربما هذا "المعلم"حالة استثنائية، وعمله بعيد عن ضرورات ومتطلبات استخدام العنف.

فاجأني "المعلم "وهو ينتقل من الحديث عن الحديقة موجهاً كلامه ونظراته إلي مباشرة "كيف أحوالك هنا بعد أن رجعت من سلومانيا؟"، أجبت "بخير"، فأردف "الذين بقوا هناك بعد إنهاء دراستهم ولم يلتزموا بالعودة أساؤوا للوطن، بركضهم وراء المال والجنس وإغراءات الحياة الغربية..... وللأسف من كُلف من الأجهزة والرفاق بمتابعة دراسة هؤلاء الطلاب وتصرفاتهم اللاوطنية هناك هو نفسه من أساء للوطن قبلهم، عندما اهتم بتصريف العملة الخضراء لحسابه بنسبة سرقة عالية، والتجارة بالسيارات المستعملة مُستغلاً بساطة القادمين الجدد للدراسة، والافتخار بتعداد الفتيات اللواتي استطاع فض بكارتهن، أكثر مما اهتم بأوضاعهم النفسية وانحرافاتهم، بحيث انتقلت العدوى منه إلى هؤلاء الطلاب! أما أنت فكنت وطنياً بعودتك، وبالأصل أنت لم تنغمس في تلك الممارسات".

كدت أفغر بفمي لدهشتي عما يعرفه عن أوضاع الدارسين في الخارج، ربما هذا "المعلم" قد درس معهم وعاش حياتهم حتى تجمعت لديه مثل هذه المعلومات الدقيقة، أو لديه جهاز منظم هناك يزوده بكل تحركاتهم. لكنني أردت أن أشرح له أن المسألة ليست وطنية أبداً بشأن عودتي إلى البلد، حتى لا يبني آمالاً كبيرة على تعاوني معه. القضية تتلخص ببساطة في أنني كنت هناك مهتماً بالعيون وإيحاءاتها إلى جانب دراستي التخصصية، ومن خلال تعاملي مع الفتيات في سلومانيا وجدت أن لديهن عيوناً رمادية فقط، رمادية باردة لم تثر اهتمامي ولم تحرك مشاعري، إذ لم يكن يهمني تعدادها بقدر ما كان يهمني معرفة أعماقها وسبر أغوارها وقدرتها على إثارة الأحلام لدي، وعندما فقدت الأمل منها في النهاية رجعت إلى هنا، هكذا وببساطة، لأبحث عن عيون عسلية حقيقية دافئة، جاءتني في ذات حلم، وقالت لي أنها تنتظرني.

إلا أنه لم يترك لي المجال لأجيب بشيء، إذ إنه استمر بالحديث وهو يتنقل بطريقة ذكية بين المواضيع، ونظره لا يفارق الحديقة من جديد "أحب موسيقى شوبان، يعدونه في بلده بمثابة بطل قومي، وكان هناك نية لنقل رفاته إليها من فرنسا ولم أدر ما حدث بعد ذلك، أما موزارت النمساوي فقد أصبح معروفاً لدينا على المستوى الشعبي، بعد أن أخذت فيروز لحناً لأغنية لها من السيمفونية الأربعين له، وتشايكوفسكي لا أحب موسيقاه الروسية الصعبة، بعكس مواطنه ريمسكي كورساكوف بعمله الممتاز عن ألف ليلة وليلة".

وكمن أصابتني صاعقة، هل هذا رجل من الأجهزة، أم متخصص بالثقافة الموسيقية! "الإشراف الحضاري ـ قسم المعلومات"، إذا كان لديهم مثل هذه المعلومات عن موسيقى الأمسية، فهم يعرفون ما يريدون بالضبط منها.

لم يعد "المعلم" يتحدث عن الموسيقى ـ أقصد عن الحفلة الموسيقية ـ إذ انتقل للحديث عن موضوع آخر "العالم يتغير بتحولات عنيفة، المعرفة الصحيحة والتحليل المعلوماتي الدقيق هما الآن أساس نجاح أي جهاز يهدف إلى الحفاظ على أمن الوطن من خلال استباق الأحداث وتوقعها، العولمة تجتاح الآن جميع المجتمعات تحت مظاهر الأمركة، وعلينا أن نحافظ على هويتنا الوطنية دون الانجرار في الوقت نفسه إلى الأسلمة".

تصيبني الدهشة من جديد، من أين "للمعلم" مثل هذه المعلومات، وهو لا يحضر المحاضرات السقيمة في مركزنا! على الأغلب هو من يطلب كافة تسجيلاتها، ويستمع إليها. ربما بدأت أفهم الآن سر هؤلاء الشبان النحيلين الذين كنت أظنهم يعملون لصالح أحد مراكز الأبحاث، التي تنتهي كلها بكلمة "استراتيجي"، إنهم تابعون بالتأكيد "لجهاز الإشراف الحضاري ـ قسم المعلومات". تقارب أعمارهم الثلاثينيات، وقد لفت انتباهي التزامهم بحضور كافة النشاطات في المركز، دائماً بملابس مرتبة، وسيمو الوجه، حليقو الذقن والشارب، وإذا كان لدى أحدهم شارباً فهو خفيف. كانوا يختلفون عن طلاب الجامعة، على قلتهم، الذين يمكن التعرف عليهم مباشرة من مظهرهم، مشعثو الشعر واللحى، يحملون صحفاً وكتباً، ويثيرون الصراخ والفوضى أينما تحركوا. كما إنهم يختلفون عن الحضور التقليديين الذين اعتادوا متابعة النشاطات في المركز بدلاً من الذهاب إلى المقاهي، وهؤلاء يمكن معرفتهم بسرعة أيضاً، إذ إنهم سرعان ما يغطون في النوم مع بدء المحاضرة. أما هؤلاء الشبان النحيلون، الذين يحملون دفاتر مفكرات في أيديهم، فهم يحيونني دائماً بتهذيب شديد مع ابتسامة وانحناءة خفيفة من الرأس، إذ يعرفون عملي هنا، ولكنهم لا يتحدثون إلي ولا يطلبون أية معلومات. ومع زيارة مثل هذا "المعلم" بدأت أفهم سر تصرفاتهم اللبقة والتزامهم بالحضور، حيث هم أول الواصلين وآخر المغادرين من الحضور. يتابعون المحاضرات بانتباه دون المشاركة بالنقاش، وموجودون في أي تجمع في بهو المركز لما يزيد عن شخصين، يستمعون إلى التعليقات بعد انتهاء المحاضرة، وقد ينزوون جانباً ليدونوا ملاحظاتهم على دفاترهم. لا أتذكر أنهم غادروا محاضرة أو انسحبوا منها، حتى ولو كانت عن التفكيكية أوالشيزوفرينيا أو احتمال وجود عوالم أخرى في كواكب أخرى غير كوكبنا، وكأنهم يفهمون كل ما يقال فيها.

يعيدني صوت "المعلم" إلى الواقع "أتحدث معك كمثقف وطني.....".

علت وجهي طيف ابتسامة شبه ساخرة مع كلمة "وطني"، فها هو يكررها للمرة الثانية، ولكن يبدو أن السيد لؤي بنظرته الماكرة قد التقط بسرعة الابتسامة بالرغم من غياب أية إيماءة واضحة لها، كان كمن يقرأ الأفكار. من الجيد أن "المعلم" قد توقف هنا بحدود معرفته لي، فمصطلحات "وطني" و"حقنا المشروع الذي تكفله المواثيق الدولية" و"الأوضاع الصعبة والخطيرة التي تمر بها المنطقة" التي أسمعها منذ أن وعيت على الحياة، لا تدخل في قاموسي الفكري، وكنت أفضل أن يبقى الحديث محصوراً بشذى عطر الياسمين في الحديقة أمام منزله. ولكن المعلم لم ينته من معلوماته عني! فقد خُيل لي أنه قد توقف، استمر بالحديث "اطلعت على كتابك، أكاديمي من الطراز الأول، ولكنك تخفي آراءك السياسية خلف السطور بمهارة، كما تصلني تقارير عن محاضراتك الأخيرة، وخاصة موضوعك الجديد عن العوالم الداخلية للإنسان، وتأكيداتك بعدم امتداداتها إلى العوالم الماورائية".

شعرت فجأة بأنني أصبحت شبه عارٍ وقد تصبب العرق من جبيني، وقبل أن أبادر إلى قول أي شيء نظر إلى ساعته ونهض فجأة، يبدو أن الوقت المحدد لزيارتي قد انتهى، قال "ربما لن أراك قريباً، ولكن السيد لؤي سيتابع النشاطات في المركز".

ممشوق القامة أنيق الثياب ينهض بثقة ويعرف ماذا يريد هذا "المعلم"، إذن هو واحدٌ من أولئك الشبان المسؤولين الذين يحضرون افتتاح معارض الفنون التشكيلية ومعارض الكتب، يوزعون التعليمات على عناصرهم، ثم يتجولون في المعرض وقد تأبط ذراعهم مفكرون وصحفيون وناشرون وإداريون في مناصب عليا، ويتبادلون الأحاديث والطرائف، ويحتفون ببعضهم باستعراضية ظاهرة، الشبان المسؤولين لإظهار قدرتهم على خرق صفوف المثقفين والإداريين بذكاء ولطف غير معروف عنهم مسبقاً، والمثقفون والإداريون لإظهار حظوتهم لديهم وإبعاد الشكوك عن ارتباطاتهم المالية بمراكز الفساد.

نهض "المعلم" وقد أربكني حضوره وقدرته على توجيه الحديث وقراره إنهاء الزيارة، فيما كنت أنا سلبياً طوال الوقت، لم يكن أمامي من مجال سوى أن أسأل، وأتذكر، وأجيب بنعم. وحتى أستعيد بعض الثقة بنفسي سألته متلعثماً وهو يودعني "والأمسية ألا تريدون أية معلومات عنها".

فوجئت بنفسي وأنا أقدم خدماتي لأول مرة ودون أن يطلب أحد مني ذلك، أجابني ودون أن يلتفت إلي "نحن نتدبر أمورنا، ولكن أرجو أن تتعاون مع السيد لؤي".

ودعني السيد لؤي منحنياً بتهذيب دون أن تفارق الابتسامة والنظرة الماكرة وجهه عندما ينظر إلي، "سنلتقي" قال لي.

ويبدو أن المفاجآت لم تنته، "المعلم" كان يبتعد بخطوات هادئة وقصيرة، ولكنه كان مستمراً بالحديث "انتبه ورد تكاد تفضح كل شيء عنك، انتبه أين تقضي وقتها في غيابك عن البيت".

ورد؟! هل وصلت الأمور إلى هنا.

أنظر إلى النافذة، عاودت السماء تمطر غزيراً.