icon
التغطية الحية

اقرأ كتابين شهرياً | رواية "وصايا الغبار" - الحلقة 1

2024.03.02 | 11:37 دمشق

كتاب
 تلفزيون سوريا
+A
حجم الخط
-A

"اقرأ كتابين شهرياً" بادرة ثقافية أطلقتها رابطة الكتاب السوريين في مطلع عام 2024، بهدف إتاحة فرصة الاطلاع على الأعمال الأدبية وتعريف القارئ بمؤلفيها ونتاجاتهم في ميادين: الرواية، القصة، الشعر... ومختلف الفنون الأدبية.

ولتحقيق ذلك، سيعمل موقع تلفزيون سوريا بالتزامن مع صفحة رابطة الكتاب السوريين، وبصورة شبه يومية، على نشر فصول متسلسلة من كلاسيكيات الأدب السوري، وتقديمها للقارئ بدون الحاجة إلى شراء كتبها أو تحميلها. الكتاب الواحد لن تستغرق قراءته أكثر من 15 يوماً؛ والمطلوب من القارئ تخصيص ربع ساعة فقط من يومه لقراءة الجزء المنشور من الكتاب. وفي نهاية كل عام سننهي سويّة قراءة 24 كتاباً مميزاً.

  • رواية "وصايا الغبار" للكاتب مازن عرفة - الحلقة الأولى

تعريف بالمؤلف: كاتب وباحث سوريّ من مواليد عام 1955، مقيم في ألمانيا. حاصل على إجازة في الآداب، قسم اللغة الفرنسيّة من جامعة دمشق، ودكتوراه في العلوم الإنسانيّة، قسم المكتبات من جامعة ماري كوري (لوبلين، بولندا).

بالإضافة إلى روايته "وصايا الغبار" (2011)، صدرت له "الغرانيق" (2017)، و"سرير على الجبهة" (2019)، بالإضافة إلى روايتي "الغابة السوداء" و"داريا الحكاية" عام (2023). وللكاتب أيضاً مجموعة من المؤلَّفات، من بينها: "سحر الكتاب وفتنة الصورة" و"تراجيديا الثقافة العربيّة".


"أستيقظ في الصباح الباكر، والعتمة في الغرفة تبددها زرقة نهار شتائي تتسلل من النافذة، صوت حبات المطر التي تقرع زجاجها يشعل لحناً صباحياً عذباً، يختلط بهديل الحمام البري الذي بنى أعشاشه تحت أسقف المنازل القديمة. بالكاد ألمح في حلكة الزرقة الصباحية شجرة السرو الباسقة عالياً أمام النافذة، حيث التجأت العصافير إلى أعشاشها المخفية بين أغصانها الكثيفة. أصحو رويداً، أتأرجح بين اليقظة والمنام، وأشعر بدفء غريب يلفح جسدي العاري وأنا مستلق على الفراش تحت غطاء سميك. مازلت أحلم حلماً جميلاً يمنحني دفء جسد فتاة تغفو على صدري، وأنفاسها المنتظمة تلفح وجهي.
أتمسك بالحلم حتى لا يذوب بالنسيان، فأحاول أن أغرق في النوم، وعندما يداعبني الصحو من جديد، مع موسيقى حبات المطر المتساقطة وهديل الحمام وزقزقة العصافير، ألجأ إلى حلم اليقظة ليستمر المنام. يتجاوب دفء الفراش مع دفء الحلم، وتبقى الفتاة غافية على صدري بأنفاسها المنتظمة.
لو يستمر هذا الحلم في الواقع ليبدد كآبتي التي تلازمني منذ أن رجعت من السفر، وقد ازداد عطشي إلى أنفاس تلفحني وليالي عشق ومجون تسللت هاربة مني، وبقيَت هناك. أنقلب إلى جانبي الأيمن فأصطدم بالجسد العاري، وأحس بثديين صغيرين ناعمين يداعبان صدري، لا أجرؤ على فتح جفوني خوفاً من أن يهرب الحلم، تتجول كفي على ظهر لدن يشتعل حرارة تحت الغطاء، تتطاول، تصل إلى مؤخرة لينة ألتقطها برؤوس أصابعي، ثم تغرق فيها يدي بانتشاء، إنه جسد امرأة حقيقية. أجعل جفن عيني ينفرج قليلاً من قلب الحلم، ألمح وجهاً يغفو!
كيف أصحو من حلم يستمر في اليقظة، فإذا هو جسد يعانقك بشوق! هل كان هذا حلماً، أو شيئاً من فقدان الذاكرة أصابني، ولم أعد أتذكر ما حدث؟ نافذتي وقد انسدلت على طرفها غلالة رقيقة بيضاء تشوبها مسحة من اللون الليلكي، طاولتي وقد تبعثرت عليها أوراقي تحت مصباح مطفأ، كتب تتراصف على رفين جداريين بغير انتظام، ساعة جدارية، لوحة شيماء عن الحزن في العيون العسلية... هذه غرفتي، وهذا جسد امرأة حقيقية تغفو بجانبي.
لا أتذكر أنني دعوت فتاة إلى بيتي البارحة ليلاً، أفتح عيني وأتحسس دفء الجسد وأتأمل الوجه الناعم، العينين المغمضتين دون إطباق كامل، الأنف الرقيق مع صوت أنفاس بالكاد تُسمع، الشفتين الصغيرتين المكتنزتين بحمرة الكرز، صدر يعلو ويهبط فيجعل الثديين يداعبان الحنين والاشتياق. ألتصق أكثر بالجسد العاري، تتجول يدي، تتحسس رطوبة الليل الندية بين الفخذين، فأصحو بالكامل، لكن لا أجرؤ على إيقاظ الجسد النائم الذي لا أعرف من أين أتى! في العادة لا أدعو فتاة إلى بيتي، أخاف أن ينكسر ترتيب الأشياء فيه، أنا أذهب بالعكس، ولعند سهام فقط، هناك نمضي بضع ساعات في الفراش، ولكن لا أقضي الليل عندها، غالباً ما أشعر بالاختناق والحاجة للهروب منها بعد أن تنطفئ الشهوة، وأرجع لأمضي ليلي في البيت.

***

غيوم سوداء رمادية مكتنزة بالمطر لا تسمح للعتمة بالتبدد بالرغم من قدوم الصباح، صوت قرع المطر وهديل الحمام يتناغمان مع دفء الجسد، فأعود بالذاكرة إلى ليلة البارحة. شربت أنا وصديقي بعض النبيذ مع عشاء في مطعم "عالم الأحلام"، صديقي يقول دائماً "في المدينة نبيذ وفي القرية الجبلية مشروب سحري، كل له أجواءه". تسكعنا طويلاً في الشوارع تحت مطر ناعم خفيف، تنسمنا الهواء البارد المنعش، وتداعت الذكريات من نشوة النبيذ، فجاء حزن بددته دعوة صديقي إلى قريته في أقرب فرصة، حيث هناك للمشروب السحري طقوس جميلة لا تدعو للكآبة، هناك أمام امتداد البحر ننتشي بالشراب والمدى الأزرق البعيد معاً، بعكس الغرف المختنقة في المدينة.
ثم عدت إلى شقتي وحيداً حزيناً، حيث اختلطت نشوة النبيذ بالحنين إلى أيام المجون قبل العودة إلى هنا، أتذكر وكأنني رميت نفسي على السرير بملابسي وغفوت سريعاً، ثم تراءى لي أنني بين ذراعي فتاة تتنفس بجسد يضج بالحياة، وفي الصباح اكتشفت أن الحلم حقيقة. هل التقطتها من الشارع ليلاً ودعوتها إلى منزلي؟ لا أعتقد، فأنا لا أفكر بهذه الطريقة ولست بحاجة إليها، عندما أرغب بجسد أذهب ببساطة إلى سهام. ربما كنت تحت تأثير نشوة النبيذ وحرقة الوحدة هذه المرة ففعلتها! ولكن وجهها يبدو ناعماً بريئاً لا يوحي بمسلك فتاة تتسكع في الشوارع لتلتقط زبائنها، تنام بعمق واسترخاء وكأنها في بيتها، وطيف ابتسامة يزين شفتيها الناعمتين، هكذا تراءى لي.
هل هي فتاة تسكن في الجوار، ترصدت عودتي وجاءتني ليلاً لحظة دخولي إلى المنزل؟ لا أتذكر مثل هذه الفتاة، فمن أصادفهن هنا سيدات متقدمات في العمر مترهلات الجسد، يثرثرن دون انقطاع في الشارع، ويتحركن بتثاقل مثل بطات غبيات أو بقرات متعجرفات، وأحياناً ألتقي فتيات جامعيات في السنوات الأولى، نحيلات شاحبات ترتسم الكآبة على وجوههن كيفما تحركن، يمررن من أمامي دون أن يلتفتن إلي.
يتمطى الجسد، تتنزه يداه بحنان على صدري، تقترب شفتاه من فمي، تطبع قبلة ناعمة، تجتاحني اليقظة والدهشة والرغبة، يوقفني خوفي من انكسار الحلم اليقظة، خشية ردة فعلها إذا ما فاجأتها بشيء لا ترغبه. "صباح الخير، من..."، أتردد، كيف أسأل فتاة أمضت في سريري ليلة كاملة من أنتِ؟ يبدو أنها فهمت تساؤلي وترددي، تمطت من جديد وطبعت قبلة ناعمة أخرى "أنا ورد، أتعبتني ليلة البارحة، ولكنها كانت ممتعة"، وعادت فأغفت. ورد! لا أعرف فتاة بهذا الاسم، وأتعبتها ليلة البارحة، صحيح أن جسدي شبه مخدر وأشعر بانتشاء ما، إلا أنني لا أتذكر ما حدث البارحة، سوى عودتي إلى غرفتي الباردة.
يتناغم الآن اسم ورد مع صوت المطر، مع هديل الحمام الذي أصبح يتداخل أو يتناوب مع زقزقة عصافير شجرة السرو. ورد تحدثت وكأنها تعرفني منذ زمن بعيد، صحت وغفت دون أن تحل لي أحجية وجودها في بيتي، وفي سريري بالذات. مادمت قد أتعبتها سأتركها قليلاً لترتاح، وبعدها تصحو لتذكرني هي بكل شيء.
يبدو أنني في الأيام الأخيرة أصبحت أعيش خارج الزمن كالمريض المحموم دون أن أعي ما يحدث لي بالضبط، وخاصة منذ أن بدأت أفكر بكتابي الجديد عن العوالم الداخلية، والذي قد يتطور موضوعه نحو العوالم الماورائية، كما يقول صديقي. يبدو أن التفكير في هذا الموضوع قد تملكني بشدة، بحيث يجعلني أنفصل عن الواقع وأعيش حُمى وهلوسات متتالية، لم أعد أميز الخيال والوهم من الواقع، ولم أعد أذكر كيف دعوت فتاة إلى منزلي، لاكتشف جسدها الدافئ صباحاً في سريري، ولتستغرب من أنني لا أتذكر أن اسمها ورد، ولتذكرني بأنني أتعبتها ليلاً ولكنها أمضت ليلة ممتعة.

***

ورد، أحب هذا الاسم وأحلم أن أعشق فتاة اسمها ورد، ورد اسم جميل كما هو اسم شيماء. ورد تغفو والمطر مشتعل بالحنين، والذكريات تتداعى، والمطر يذكرني بشيماء. فلقد سرنا طويلاً في مطر ناعم خفيف ذات مساء، عندما انتهى احتفال افتتاح معرضها التشكيلي الأول في المركز الثقافي الذي أعمل به. شيماء فنانة تشكيلية تحب أن ترسم وجوه فتيات حزينة بعيون واسعة عسلية، تشرح لي أن الوجوه الحزينة هي تراكمات القهر واليأس والكبت الذي تعيشه الفتيات في مجتمعاتنا الشرقية، أما العيون الواسعة العسلية فهي أمل اللقاء بعالم أفضل، بشاب يأتي من الحلم منفتح القلب والعقل. أُسَرُ لحديثها، العيون العسلية هي التي جعلتني أعود إلى هنا بعد أن أنهيت دراساتي العليا في "سلومانيا"، ولذلك فاجأتني شيماء بالعيون العسلية التي تعيش وتتنفس في لوحاتها.
أصبحت أتأمل لوحات شيماء طوال الأسبوع الذي استمر فيه المعرض، وأذهب بعيداً مع العيون العسلية وبالحديث مع شيماء، أصبحت أعشق العيون العسلية في لوحاتها، ولم أدر إلا وبدأت أعشق عيون شيماء العسلية. وبعد انتهاء معرضها بقيت تتردد إلى مكتبة المركز، فقد قررت أن تبدأ دراساتها العليا في كلية الفنون الجميلة بموضوع المؤثرات الفلكلورية المحلية في الفن التشكيلي من خلال نماذج من بيئتها الجنوبية، حيث تنتصب البراكين الخامدة وصخور البازلت السوداء، فالطبيعة الجرداء كما تقول تركت الحياة اليومية البسيطة غنية بعناصر فنية إبداعية كرد فعل على القساوة والجفاف. ازداد عشقي لشيماء، فبعد عينيها العسليتين ورسومها للوجوه الحزينة ها هي تحاول أن تكشف بعضاً من ارتسام الحياة البسيطة في تعبيراتها الفنية.
أخذت شيماء تتردد إلى مكتبي في المركز، لتستفيد من الكتب فيه وأساعدها في عملها العلمي. تزورني كل يوم تقريباً، تشرب القهوة وأنا أتأمل عينيها العسليتين، وشعرها العسلي المفرود على كتفيها، وأناملها العسلية التي ترسم بها، وثدييها ذي الشامتين العسليتين اللذين يكادان أن يقفزا من بلوزة مفتوحة الصدر كلما انحنت لتناول فنجان القهوة. تحدثنا عن عالم الصورة، وعن "حياة الصورة وموتها" لريجيس دوبريه، تحدثنا عن الفلكلور والواقعية والرومانسية والانطباعية والسريالية والوحشية والدادائية في الفن، ثم تحدثنا عن علاقة الفن بالشعر، والشعر بالموسيقى، والموسيقى بالسينما. وعندما ازدادت الحميمية حدثتني عن بيئتها المتشددة، والشباب فارغي العقول من بيئة البراكين الخامدة وصخور البازلت السوداء، الذين يدورون حولها ويعرضون عليها الزواج، فترفضهم لأنهم متشددون لا يؤمنون بحرية المرأة، ولا يتفهمون الأجواء الطليقة لفنانة تحتاج إلى الحرية كي ترسم وتبدع. ثم انتقلت الأحاديث إلى تفاصيل حياتها اليومية، كيف تنهض كسلى من الفراش في ساعة متأخرة من الصباح، تجلس في غرفتها وسط لوحاتها وألوانها المتناثرة بعد ليلة عمل طويلة، ثم تشرب المتة وحدها قرب النافذة، فهي لا تحب ثرثرة والدتها وأختها الصباحية مع نسوة الحارة. تحدثت عن كل شيء، عن كل تفاصيل حياتها في المنزل، ولم يبق أمامي إلا أن أسألها "عندما تنامين ماذا ترتدين، البيجاما أم قميص النوم، وما هي ألوان ملابسك الداخلية، وهل تتأملين جسدك عارية أمام المرآة، وما هي رؤاك الجنسية عندما تمارسين أحلام اليقظة؟".
شيماء صبية ناعمة وجميلة في بداية الثلاثينات من عمرها، استمتع بحديثها ولوحاتها، وهي تقرأ ما أكتب وتستمتع به وبحديثي، منفتحة على الحياة إضافة إلى ـ وهذا المهم ـ أنها تمتلك عينين عسليتين، فلماذا لا أتزوجها؟
بحت لها بحبي وعشقي لعيونها العسلية ورغبتي بالزواج بها، وشرحت لها أن الأحاديث والنظرات المتبادلة التي تدور وتناور من بعيد حول الجنس باسم الصداقة هي غبية جداً، فلماذا لا نواجه أنفسنا ونبدأ حياة حقيقية. تفاجئني "أهل مناطق البراكين الخامدة وصخور البازلت الأسود لا يسمحون لأحد من خارج البيئة والطائفة بالزواج من بناتهم". استغرب وهي تستعمل كلمة طائفة، شعرت بلهجة حديثها وكأنها قادمة من صحراء غابرة، حيث الشرف والكرامة هما زينة القبيلة وبناتها! عن ماذا كنا نتحدث إذاً طوال الوقت! أين هي الحياة المنفتحة خارج إطار الشبان فارغي العقول المتشددين الذين يدورون حولها وترفضهم. تستمر بالحديث "أهلي يذبحونني من الوريد إلى الوريد إذا تزوجت غريباً"، تفاجئني أيضاً كلمة غريب، الآن فهمت لماذا ترفض الذهاب معي إلى منزلي، لأنني غريب، من بيئة وطائفة أخرى. يبدو أنها تمرر الوقت معي ريثما يأتي الزوج المناسب من الطائفة حيث لا يكون غريباً، وأنا أتوه معها بأحاديث غبية كنت أظن أن لها معنى، ودون أن أصل إلى قلبها، أو على الأقل إلى جسدها، بل كنت أظن أنني وصلت أخيراً إلى العينين العسليتين اللتين رجعت من أجلهما.

***

انتهى الحديث مع الغريب، وانتهت الأحاديث كلها، عن "حياة الصورة وموتها"، وعن الفلكلور والفن والشعر والموسيقى والسينما، عن الاستيقاظ الصباحي وشرب كأس المتة قرب النافذة، وانتهت الرغبة في معرفة ما ترتديه ليلاً، وماذا تفعل أمام المرآة، وما هي أحلامها الجنسية. لم يعد هناك ما نتحدث عنه، وثدياها ذا الشامتين العسليتين بقيا مختبئين خلف بلوزة مفتوحة الصدر، لا تسمح لهما بالانفلات.
قصرت زيارات شيماء، ثم تباعدت، وأخيراً اختفت شيماء، بعد أن تركت لي لوحة عن الوجوه الحزينة والعيون العسلية، علقتها على الجدار في غرفتي، حيث أكتب قرب النافذة وأحلم بالعيون العسلية. وبعد عدة شهور، لمحتها في الشارع من بعيد، كانت تمطر يومها بغزارة، وتراءى لي أنها حامل في الأشهر الأخيرة، كدت أذهب إليها بدفق حنان وود لأطمئن عليها، فقد كانت تسير بصعوبة تحت المطر، ولكن ما ردني هو شعوري أن الرجل الذي يسبقها بخطوات هو زوجها، كان متذمراً من سيرها البطيء، رجل بشوارب عريضة مفتولة ولباس رأس مميز من بيئتها، تأكدت أنه من الطائفة وأنه ليس غريباً. عندها تأملت فيها وجهاً حزيناً يحمل كل تراكمات القهر واليأس والكبت، ولكن عينيها لم تعد عسليتين.
تُرعد السماء فجأة مع برق شديد، تلتمع فيه الأشياء بالغرفة للحظات بضياء قوي، فيزداد طرق حبات المطر على النافذة، تختفي صورة شيماء التي لم يبق من ذكراها سوى لوحتها عن الوجوه الحزينة والعيون العسلية معلقة على الجدار.
يلتمع البرق من جديد فيضيء جسد ورد الغافية قربي، التفت إليها، لم أتأمل عينيها عندما صحت لدقيقة واحدة فيما إذا كانت عسليتين أم لا. أقرر النهوض وتحضير فنجاني قهوة، سيصبح لدي مبرر لإيقاظها ومشاهدة لون عينيها، وربما سأسألها إن كانت تنتمي إلى بيئة وطائفة ما. أرتدي بسرعة سروالاً وكنزة خفيفة، فالمطبخ عندي بارد بشكل دائم، سأحضر القهوة بسرعة وأرجع إلى دفء الفراش.
لماذا لم أفكر بالقهوة من قبل كذريعة لأوقظ ورد؟ لا أعرف كيف تحبها في الصباح، سادة أم وسط أم حلوة، يفاجئني التفكير برغباتها، بالرغم من أنني لا أعرف هذه الفتاة، أو ربما لا أتذكرها، أصلاً أنا لا أتذكر كيف حضرت إلى غرفتي! أحمل صينية القهوة الوسط وأعود إلى الغرفة لأسمع صوت فيروز في المذياع، تفاجئني ورد وقد جلست مرتدية غلالة وردية شفافة لا أعرف من أين أتت بها، رمت بظهرها على مسند السرير تحت الغطاء وقد ارتسم ثدياها من تحتها كعصفورين غافيين. تبتسم، فيطير صوابي، وكأني أعرف هذه الابتسامة منذ زمن بعيد ويرتعش القلب لها، أشعر بورد قريبة مني، وكأنني أعشقها، وتهاجمني دفقة حنان نحوها بحيث تزور عيني دمعتان، وكأنهما انفجرتا من اختناقات عميقة في الذاكرة. أتأمل بسرعة عينيها، إنهما سوداوين وليستا عسليتين، ومع ذلك أضيع بهما، وكأنني أعرفهما قبل أن أعشق العسليتين.
تشم ورد رائحة القهوة، فتصرخ منفعلة بالمتعة المفاجئة، وكأن الرائحة تسربت إلى أعماق رأسها، وسرعان ما رمت الغطاء عنها، فظهر كل جسدها العاري تحت قميصها الوردي الرقيق. تأخذ فنجان القهوة، تقترب به من أنفها وتتنشق رائحتها من جديد، تنساب عميقاً مع إغماضة العينين، وتتناول رشفة منها وهي تبتسم لي، أجلس على الفراش عند قدميها، أتلمسهما والقلب يرتعش، أتأمل كل تفاصيل جسدها المنفتحة أمامي تحت قميصها.
"ورد، كيف أتيت إلى هنا؟".
تضحك بغنج "أنت دعوتني فأتيت".
" لا أتذكر أنني دعوتك!".
" أنت دعوتني بالتأكيد، أنت تعرفني منذ زمن بعيد، إلا أنني لم أعد أراك منذ أن سافرت من أجل متابعة دراساتك في سلومانيا، وعندما رجعت شعرت أنت بالضيق والوحدة والحاجة إلى تبديدهما، والأهم الحاجة إلى الجسد، فدعوتني، وها أنذا قد أتيت".
"ولكن كيف دخلت؟".
"دخلت، أدخل من أي مكان، ولكنني أفضل الدخول من النافذة عندما تمطر السماء بغزارة، والغيوم السوداء الممتلئة مطراً تجعل الأجواء ملائمة لحضوري".
ألمس ركبتها وتذهب يدي قليلاً على فخذها الناعم "ورد، لا تسخري مني".
تضحك وقد ارتد رأسها إلى الخلف، وكأنها تستنفذ صبري لأحل الأحجية، ترشف القهوة وتنظر إلي بابتسامة دلع "دخلت من النافذة بعد أن فتحها المطر لي، وأنت دعوتني فأتيت، هذه هي كل الحكاية".
أرتعش لضحكتها، تذهب يدي عميقاً بين فخذيها، أشعر برطوبتها الندية، تضع فنجان القهوة على الطاولة الصغيرة قرب السرير، تطفئ المذياع، تقترب مني مرتعشة، فمها يكاد يلتصق بفمي، أسألها من جديد "ورد، من أنت؟".
تأخذ شفتي بفمها العذب، تتناوب الكلمات والقبل الرطبة الدافئة وهي تلمس وجهي بكفّها اليمنى وتحيط عنقي بذراعها اليسرى "هل تتذكر..... إلهام..... التي كنت تقف..... تحت المطر لأجلها..... وتلتقط الرسائل منها.....؟".
أبعد فمي قليلاً وقد علت وجهي الدهشة "أنت إلهام! لقد كبرت كثيراً، وجسدك النحيل أصبح ممتلئاً شهياً، أكاد لا أعرفك بعد هذه السنين الطويلة، كان عمرنا في الثالثة عشرة عندما جمعنا الحب بكل براءة الانتقال من الطفولة إلى المراهقة، ولكن لماذا غيرت اسمك إلى ورد؟".
تسكتني من جديد بقبلاتها التي أصبحت محمومة، وتتناوب من جديد الكلمات والقبل "وهل تتذكر..... هند..... ذات الجاكتة الحمراء..... التي كان بيت أهلها يقع في نهاية البلدة عند التلال..... ملتصقاً بالأفق".
أبعد فمي مستهجناً "أنت إلهام أم هند؟!".
لا تتوقف، بل تأخذ شفتي بقوة أكبر، أشعر بلسانها يذهب عميقاً في فمي، بحيث شعرت بأنها تكاد أن تلتهمني "وهل تتذكر سهير..... وجورجيت..... ورولا.....؟".
تختلط الأمور في ذهني، إلهام، وهند، وسهير، وجورجيت، ورولا! جميع الفتيات اللواتي أحببتهن قبل أن أسافر، منذ أن اكتشفت وخبرت ارتعاشة القلب عند رؤية فتاة تسحرني بلفتة منها، وتتركني غارقاً في لجة حنين لشيء مبهم غامض. لكن ورد تجعلني أشعر بالاضطراب المشوب بالذعر، هل تستغل حالة الحمى التي يبدو أنها عادت إلي؟ وها هي تتلاعب بي، من أين لديها المعرفة بهذه الأسماء؟! هل أنا أتوهم وأتحدث مع نفسي كالممسوسين؟ لا! فورد موجودة، ألمسها، وطعم قبلاتها في فمي، وجسدها تحت الغلالة يشتعل بقربي. أشعر بالقلق والاضطراب والتوتر والحيرة وكأني أهذي، انفصل عنها، وكأن الرغبة القوية بها قد توقفت أمام هذا الضياع، انفصل من عناقها المحموم، أسحب يدي بالرغم من إغراء الرطوبة الدافئة بين الفخذين، ارتمي على السرير وقد شعرت بالتعب المفاجئ، فتأتي ورد متسللة إلي وتتكور إلى جانبي كعصفور صغير، يبحث عن الأمان والدفء بحضني.
تُرعد السماء بشدة، ويلمع برق يضيء الغرفة للحظة، فيشتد هطول المطر، يتعالى على صوت الهديل والزقزقة، يبدو أن الحمام والعصافير قد لجأت إلى أعشاشها المخبئة، ربما هي تسترجع الآن ذكرياتها على صوت المطر، تجلس في دفء أعشاشها، تتأمل وتتنفس الحنين وموسيقى المطر.
أقفز صبياً صغيراً بين بحيرات المياه المتجمعة في الشارع الترابي، انتشي تحت المطر بالرغم من تسرب المياه إلى حذائي العتيق، ولا أبالي، أذهب لأشتري خبزاً في الصباح الباكر، ولا يهم المطر، فطعم الخبز الساخن المغمس بقطراته وأنا أمضغها على الطريق لا يعادله طعم..... أكبُر قليلاً، فأنحني قرب بحيرات المطر ذاتها وفي الشارع نفسه، وألتقط رسائل حب طفولية من إلهام بنت الجيران، ترميها لي أرضاً وأنا التقطها من خلفها بسرعة حتى لا يرى أحد ما نفعل ويكشف علاقة الحب بيننا. كانت خطة طفولية ذكية، بحيث أن كل الشارع لاحظ ما نفعل، والشارع يصفق ويصفر حتى أن الخبر وصل إلى والدي ووالدتي "مجنون، تترك دروسك وتركض وراء فتاة عابثة". وبقيت مجنوناً بإلهام أكثر من سنتين، أنتظرها تحت المطر، ونتبادل القبل على صفحات الرسائل المعطرة، وامتلأ درج الطاولة العتيقة بالرسائل والهدايا التذكارية الطفولية منها إلى جانب الطوابع والنقود القديمة والبطاقات البريدية التي كنت أجمعها، وفقط، الغزل البريء لم يتطور إلى اكتشاف الجسد، فكل شيء كان يحاصر طفولتنا الذاهبة بخطوات سريعة نحو المراهقة، وهي تتلمس ارتعاشات الحب الأولى.

***

انتقلت أسرة إلهام من بلدتنا، وكبرتُ قليلاً، أصبحتُ في حوالي السادسة عشرة من عمري. ومرت هند بقربي ذات مرة، ابتسمت "أنت الذي تقرأ كتباً كثيرة"، شعرت بالاعتزاز بشيء يميزني، وسحرتني هند بابتسامتها وبالجاكتة الحمراء التي ترتديها. كان منزل أهلها يقع في طرف البلدة، ولا شيء بعده سوى التلال الجرداء. وحتى أستطيع رؤيتها قررت أن أمارس رياضة الركض صباحاً ومساءً نحو التلال، كنت أركض تحت المطر والرعد والبرق، أركض وأركض والعرق يتصبب مني بغزارة، أمر دائماً قرب بيتها، ولا أراها، ومع ذلك استمر بالركض. وعندما التقيت بها مصادفة في السوق وأنا ذاهب لأشتري خبزاً، كانت تتحدث بعفوية وحيوية بين سرب من صديقاتها، ارتبكتُ واضطربتُ وتلعثمتُ ولم أستطع أن أفعل شيئاً، مرت من أمامي بجاكتتها الحمراء ورمت لي ابتسامتها الساحرة مع حركة مغناج برأسها ذي الشعر الأسود الفاحم، فدفعتني كي أركض من جديد نحو التلال، وبحماس شديد، صباحاً ومساءً.
وذهبَت هند وبقيت في الذاكرة ابتسامتها الساحرة وجاكتتها الحمراء، وأقلعت عن ممارسة الركض نحو التلال، إلا أنني بقيت أمارس الركض نحو الأحلام.
تنفستُ حياة مراهقتي من خلال سهير، قريبتي التي تكبرني بثلاثة أعوام، وعلمتني اكتشاف الجسد. كنا نذهب لندرس في البستان أمام بيتها، فهي مشهورة بكسلها، متأخرة بدروسها وتعيد صفها، بينما كنت أنا متميزاً بدراستي. يدفعنا الأهل للدراسة معاً علها تشعر بالعدوى مني وتصبح ذكية وناجحة. نذهب إلى البستان ولا ندرس أبداً، إذ أصابتني هي بالعدوى وأصبحنا لا ندرس، نفترش العشب الأخضر الرطب تحت شجيرات رمان كثيفة تفتحت ثمارها بورود برتقالية والكتب في أيدينا، ولا ندرس، نتحدث وتضحك، فتضحك معنا شجيرات الرمان، وأذوب بضحكتها ولا ندرس. وذات صباح كان هناك ضباب ناعم في يوم ربيعي، وكأنه هبط ليسترنا، وكانت هي متمددة على العشب الندي، وانحسر قميصها عن صدرها فبان طرف ثديها، تشجعت يدي وتسللت إليه، فلم يبدر منها سوى تهديد مغناج بصوتها الناعم، وبقيت يداها لامباليتين ممسكتين بكتابها. سحبتُ ثديها من مخبئه حتى بانت حلمته البنية الغامقة، التفت يدي عليه بحنان ورفق وأخذت أداعبه معتصراً حلمته، استرخت، تمسكت بكتابها بشدة وهي ترمق يدي بطرف عينها صامتة، وأخذت أداعبه في الضباب، وأداعبه ساعة وساعتين في الضباب، واستمرت المداعبة طويلاً، ليلاً ونهاراً في ضباب الأيام والأحلام، حتى لم يبق من سهير في الذاكرة إلا ثديها الغض الطري الناعم بحلمته البنية الغامقة، مستسلمة بانتشاء لمداعبتي وصوتها المغناج الرخيم يهددني..... وكان ذلك أول اكتشاف للجسد، في ضباب صباح ربيعي تحت شجيرات الرمان.
جورجيت كانت صديقة الطفولة في مدرسة ملحقة بدير للراهبات في بلدتنا، كان والدي يفتخر بأنه اختار لي هذه المدرسة بالرغم من اختلاف الدين، ويرفض تسجيلي في المدارس الرسمية "هناك لا يوجد تعليم جيد ولا تدريس لغات أجنبية"، هكذا كان يقول دائماً. ولم أخيب ظنه، فقد تميزت بدراستي وتعلمت الفرنسية بشكل جيد. وجورجيت، رفيقتي في الصف، كسولة بالفرنسية، وبما أن أهلها يسكنون في الحارة قربنا فقد كانت تأتي مساءً لتسألني عن الواجبات المدرسية، وتدخل أحياناً لتراجع معي دروس الفرنسية. وفي أيام البرد الشتائية، حيث يتساقط المطر بغزارة، كنا نجلس تحت الغطاء الصوفي لنتدفأ وندرس.
وذات مرة التقت ساقي المكشوفة من تحت البيجاما بعري فخذها من تحت التنورة مصادفة تحت الغطاء، كان شعور طفولي غريب بالملامسة، نظرنا إلى بعضنا طويلاً، ثم نهضت وذهبت، وانتهت الحكاية. ولكن المطر لم ينقطع عن التساقط، والساقان بقيتا تتذكران بعضهما بعضاً وتعيشان ملامستهما بحنين، إذ إنه بعد سنوات طويلة التقينا بالحميمية والرغبة المفاجئة، فاشتعلت الذكرى سريعاً، ذكرى الساقين اللتين التقيتا ذات مرة. كانت جورجيت قد أصبحت فتاة مكتملة، وثدياها يملأن كنزتها الصوفية وجسدها يشتعل، تطير على أجنحة الرغبة ببنطالها الجينز وكنزتها الخمرية. وما إن نظرت إلى عينيها الجميلتين حتى تذكرت السيقان بعضهما، وقفت أمامي بالدهشة القديمة، عانقتني بذراعيها، والتفت علي بساقيها، والتصقت بي بجسدها بالكامل، نظرنا إلى بعضنا طويلاً هذه المرة فيما التقى القلب بالقلب والحنين بالحنين والرغبة بالرغبة، وكان هناك مطر جديد ورائحة عطر ليمون ملأت أحاسيسي بشذاه، شممته عند رقبتها الدافئة. تعانقت السيقان كلها بحميمية وتداخلتا بشوق قديم، والذراعان والصدران والشفاه والعيون، ببنطالها الجينز والكنزة الخمرية. وما أن ارتفعت حرارة الساقين حتى تذكرتا ملامسة الطفولة تحت الغطاء الصوفي، فتخلتا عن البنطال والكنزة وبحثتا عن غطاء صوفي جديد، فيما بقي المطر يهطل بغزارة، بحيث تسللت قطراته إلى جسدينا المنتشيين.
ذهبت جورجيت بشبقها الجنوني وشذى عطر الليمون على رقبتها الدافئة، وذهبت أنا إلى الجامعة، وهناك التقيت برولا التي كانت تعيش مع عمتها العانس بسبب سفر أهلها إلى بلد صحراوي للعمل.
كانت رولا غريبة في كل شيء، في شكلها وتصرفاتها، كانت نحيفة وطويلة بشعر قصير مقصوص فوق الأذنين، بحيث تخالها من بعيد صبياً، وخاصة مع ثدييها الصغيرين الممحيين تحت ملابسها الفضفاضة القصيرة. وكانت ملابسها غريبة أكثر من شكلها، بنطال ملتصق على جسدها النحيل إلى ما تحت الركبة بقليل، قميص فضفاض أبيض نظيف ولكنه غير مكوي بشكل دائم مع سترة دون أكمام، شيء قصير وشيء طويل بحيث أن ملابسها الداخلية بألوانها المتعددة كانت تظهر بوضوح مع كل حركة وانحناءة، وهي لم تكن تهدأ أبداً في حركاتها وانحناءاتها، فالسبت أحمر ناري، والأحد أسود مخرم بالدنتيلا، والاثنين أبيض بزهور زرقاء، والثلاثاء مخطط بالأصفر والأزرق والنهدي، أما الأربعاء والخميس فلم يكن لدينا محاضرات في الجامعة، والجمعة يوم عطلة، فلم أكن أعرف ما تلبسه.
كانت رولا انفعالية وكئيبة بشكل دائم، تضحك ضحكتها الصغيرة الهستيرية بموسيقى شبيهة بمواء قطة، تهرب من ضياعها إلى مجموعتي حيث نجلس في كافيتريا الجامعة، نصرخ ونحن نثرثر عن الأوطان والثورات. كان شكلها وطريقة حديثها وتصرفاتها الغريبة، وبشكل خاص انحناءاتها المستمرة، تجذبني إليها وتثيرني، ولذلك ما أن طلبت مني التنزه قليلاً ذات يوم حتى وافقت بالرغم من أنها كانت تمطر مطراً قوياً. وأصبحنا نتنزه دائماً، ودائماً تحت المطر، أوصلها إلى البيت دون أن تدعوني إليه بالرغم من اقتراحاتي المستمرة بالتعرف إلى عمتها. تتألم باستمرار من شيء ما تفتقده، ربما من غياب وفقدان أهلها مع وجود عمة يبدو أنها لا تستطيع أن تمنحها بعض الحنان، تتألم لتصل إلى درجة أن الدموع تملأ عينيها دون أن تستطيع التعبير تماماً عما بداخلها. تختلط دموعها بقطرات المطر، فيصبح وجهها جميلاً يدفعني لأن ألتقطه بين الذراعين وأضمه على الصدر وأكفكف دموعها، ولتنسل اليدين إلى جسدها النحيل والرقيق، المكشوف من بين كل فتحات ثيابها القصيرة والطويلة والفضفاضة. ولكن لم أكن لأستطيع أن أفعل ذلك في الشارع أو الكافيتريا، لم يكن لدي لأواسيها سوى إمساك يديها ورسم دوائر حنان عليها والاستماع إلى موائها. لم يكن لدينا سوى الشارع والكافتيريا، حيث لا مجال للبكاء على صدري في هذين المكانين، ولا مجال لأشاهد كامل ألوان ملابسها الداخلية بشكل طبيعي على مدى الأسبوع كله.
كانت تبكي بصمت، وأنا أحاول أن أحبها بصمت، وأحب مشاهدة وملامسة ملابسها الداخلية بصمت، بكت طويلاً وذهبت وهي تبكي، تركت لي بكاءها ونزواتها وألوانها، وسافرت فجأة دون أن تودعني. ولم يبقى لي سوى ذكرى ألوان الأحمر الناري، والأسود المخرم بالدنتيلا، والأبيض بالزهور الزرقاء، والمخطط بالأصفر والأزرق والنهدي، وبكاؤها تحت المطر، حيث تختلط دموعها بحبات المطر.
يعيدني صوت هديل الحمام وزقزقة العصافير إلى غرفتي، إذ يخفت قليلاً قرع حبات المطر على زجاج النافذة، يتسلل شيء من أشعة الشمس إلى الغرفة من بين الغيوم الداكنة، فتختفي صور إلهام وهند وسهير وجورجيت ورولا، يبدو أنه أخذتني غفوة من الذكريات وأحلام اليقظة. استيقظ على صوت ورد ضاحكة، واقفة قرب السرير، وهي تحمل صينية عليها كوبان من الشاي بالليمون والنعنع، من أين تعرف أنني أحب الشاي بالليمون والنعناع!
ورد منتصبة أمامي، وتفاصيل جسدها المثيرة تشف من تحت غلالتها الوردية، أتأملها بحب وشوق، الحلم اليقظة مازال مستمراً، ولكنني بعد الغفوة أشعر أنني بعيد عن الحمى والهلوسة. اكتشف أن لِورد أنامل إلهام وهي ترمي رسائلها الطفولية، أقصد وهي تحمل صينية الشاي، ولها بسمة هند الساحرة التي جعلتني أركض نحو التلال صباحاً ومساءً، وها هي توقظني وتنعشني بها الآن، وينتصب تحت غلالتها الوردية ثديا سهير بحلمتين بنيتين غامقتين يدعواني لأداعبهما طويلاً تحت شجيرات الرمان في الضباب الصباحي، والمح فيها ساقي جورجيت اللدنتين وهما تدعوان ساقيَّ للالتحام معهما وعطر الليمون يفوح بشذاه من رقبتها وجسدها كله بشكل يُسكرني، وبالرغم من الابتسامة التي لا تفارق وجهها فلديها مسحة حزن خفيفة، كتلك التي لدى رولا، كيف اجتمع كل هذا فيها؟!
تجلس ورد على طرف السرير، يبدو أنها قرأت أفكاري، تعرف ما أحب، وكأنها قادمة من الحنين والاشتياق في داخلي.
"ورد، هل أنت ذاكرتي؟".
تبتسم ابتسامة لذيذة من جديد "لا، أنا أحلامك القديمة عندما كانت مشتعلة في الماضي، وكنت تتلمس الحياة وتحاول أن تكتشف لها معنى، وتحاول إيقاف اللحظات لتنفصل عن الزمان والمكان، وأنت تكتشف ذاتك من خلال عشق الصبايا حولك".
"ورد لماذا أتيت الآن بعد أن تركتيني طويلاً؟".
"أنا لم أتركك، أنت الذي تركني، سافرت إلى بلد أجنبي ورميتني، ورميت كل ذكريات العشق والحنين، عشت هناك مجونك اليومي مع أجساد العيون الرمادية دون أحلام، أفرغت شهواتك ونزواتك دون حنين ودون انتظار تحت المطر".
"والآن عدت إليكِ".
"عدت ولازلت تعيش ذكرياتك المهلوسة هناك، حاولت أن تعوض بعضاً من اشتهائك للمجون، فلجأت إلى سهام، وكانت سهام جسداً دون حنين ودون مطر".
"ولكن سهام لطيفة، تستقبلني متى أرغب بها".
"سهام دون أحلام، أنت تهرب منها ما أن ينتهي توترك الجسدي النهم، حتى إنك لم تقض عندها ليلة واحدة حتى الصباح. وسهام تعرف أنها لن تلتقط أحلامك، ولذلك فهي ربما الآن بين ذراعي أحد الراغبين بها".
"وماذا يعني ذلك ؟".
"تعود كل ليلة إلى غرفتك حزيناً وكئيباً من الوحدة، تحاول أن تملأ ليلك بالكتابة والموسيقى، واستنجدت بإلهام وهند وسهير وجورجيت ورولا، وعندما تنامى الشوق بداخلك إليهن إلى درجة الانفجار دعوتني، فأتيت".
استغربت لهجة ورد التي بدت لي قاسية، وكأنها تعاقبني، حتى إنني نسيت أن أخذ أية رشفة من كأس الشاي بالنعناع والليمون بقربي على الطاولة، تعاتبني لأنني فقدت براءتي وعفويتي الأولى. ألاطفها متودداً ومعتذراً "أنا أسفٌ جداً"، أقترب من وجهها، ألامسه بقبلتين ناعمتين بكل ما أمتلك من الرقة والحميمية المختزنة في داخلي، أداعب بلطف شعرها المنسدل على كتفيها العاريتين، تتخلله أصابعي وتسترسل مع انسياب خصلاته، اقترب من عنقها، فيسحرني شذى الليمون، أهمس بعشق "أريد أن أرجع إلى براءتي وعفويتي".
" أنا معك".
" لا، أريدكِ دائماً بقربي، أرغب أن أمضي بقية العمر معك، أرغب..... أن أتزوجك".
" تتزوجني؟!".
تنفجر ورد بضحكة أشبه ما تكون هستيرية لا تتناسب مع الأجواء الشاعرية واللمسات الحنونة والقبلات التي داعبتها بها، تضحك وتضحك حتى تنقلب على ظهرها، ممسكة بخاصرتيها وقد امتلأت عيناها بالدموع من الانفعال. يمر زمن وسط ذهولي، تهدأ قليلاً، تبقى مبتسمة وقد أمسكت يدي بحنان "تتزوجني، كيف؟ أنا لست حقيقية، أنا وهم من صنع خيالك وذكرياتك، أنت خلقتني من رغباتك وحنينك".
وكأنني لم استوعب ما قالته، ولازلت منفعلاً متناسياً ضحكها الهستيري، "وأرغب بأطفال جميلين منك".
تتماسك حتى لا تعاودها نوبة الضحك "أطفال الوهم وخيالات الحلم!". تتوقف قليلاً وتحاول أن تأخذ بعض الجدية دون أن تستطيع ذلك، وتتابع "بأي أعمار تريدهم مباشرة، في الخامسة أم في العاشرة، وماذا ستفعل بهم؟ وماذا ستطعمهم؟ وهل سيخرجون من المنزل ليبحثوا عن أطفال حلم ليلعبوا معهم؟!".
" ورد، لا تسخري مني، لا تستغلي حالة الضعف واليأس لدي، لا تستغلي الكآبة والوحدة والهلوسة التي أعيشها الآن، ورد أنا أحبك، أنا أعشقك.....".
يزداد بي الانفعال والشوق لعناقها، أشعر برغبة شديدة للالتحام بها والضياع فيها. تتمدد مستسلمة فيما كنت آخذ فمها بقبلة مجنونة، فتقابلني بالتهام شفتي بجنون أكبر، وعندما تسللت يدي إلى ما بين فخذيها كانت الرطوبة قد أصبحت نداءً حاراً جارفاً، أجدها بالرغبة نفسها التي لدي، أتمدد، ونعود عاريين دون أن نخلع ما نلبس، اعتصر جسدها الغض بقوة وقبلاتي تغطي وجهها، تغطي عينيها وانفها ووجنتيها، تنزلق القبلات على عنقها، أنزل، أضيع بين ثدييها الممتلئين وأتنفسهما، أزحف إلى بطنها وخاصرتيها، أغمر وجهي مابين فخذيها، امتص رحيق الرطوبة بعمق، تصرخ بي برجاء وأنين وهي تلهث "التحم بي وامتلكني بقوة، دعني أضيع فيك".

***

التحم، ننصهر ونصبح جسداً واحداً، أصبحت عيناها عيني إلهام، فأضيع بسوادهما وعمقهما، وأقبل شفتي هند بنهم بعد أن أزحت ضحكتها الساحرة مؤقتاً، وأخذت تمتص فمي وأحزاني، أمسك بثديي سهير واعتصرهما بكفي بعنف وقد أطبقت أناملي على حلمتيها البنيتين الغامقتين بحيث تحول تأوهها إلى غناء ملأ فضاء الغرفة، والتحمُ بجسد جورجيت وقد التفت ساقاي بساقيها، متحسسة نعومتها ولدونتها، وقد فاح من ثناياها شذى عطر الليمون، وأعري أخيراً رولا وأرمي بملابسها الداخلية الملونة بعيداً، فيتناثر الأحمر الناري والأسود المخرم بالدنتيلا والأبيض بزهور زرقاء والمخطط بالأصفر والأزرق والنهدي على أرضية الغرفة والكرسي والطاولة وطرف السرير. نلتحم أنا وورد، ونصبح حقولاً خضراء مغسولة بالمطر، وأزقة البلدة الصغيرة ببحراتها الممتلئة ماء بعد المطر، نصبح قصائد شعر تصوغها زقزقات العصافير وهديل الحمام وهي تتنفس المطر في أعشاشها، نغتسل بالحنين والصفاء والشذى والصدى والمدى والألق، ننتشي بعمق ونذهب معاً هناك عالياً حيث ننسل من الزمان والمكان، ونذهب هناك إلى اختلاط ألوان قوس قزح بفرح اللحظات وموسيقى الكلمات، لحظات لم يعشها أحد وكلمات لم يبح بها أحد.
يقترب المساء أشعر بأني نائم ولست بنائم، صوت المطر والرعد والتماع البرق يجعل الذكريات تتداعى، أعود من السفر، وما أن تمضي عدة أيام حتى بدأت أسأل عن الأصدقاء القدامى والفتيات اللواتي أحببتهن منذ زمن بعيد. كل شيء تغير، والعالم أصبح غريباً، شيءٌ ما إنهار ولم يعد من الممكن إصلاحه.
عرفت أن إلهام قد أصبحت عانساً، عجوزاً قبل الأوان، تسكن في مدينة قرب البحر، فقدت ألق عينيها، واندمجت في حياة تنظيمية حزبية تقود البلد. تحولت من كتابة الرسائل الغرامية الطفولية إلى كتابة التقارير الأمنية عن "المعادين للوطن وخط الثورة"، ثم ترقت في عملها نتيجة جهودها وأصبحت محللة لها، ونسيت أيام المطر. وبقدر ما كانت تفقد ألقها وسحر عيونها كان يزداد أذاها للناس حولها، بحيث لم يعد من معنى لحياتها إلا بهذا العمل، ربما لتعوض به عن وحدتها الروحية.
أما هند ذات الجاكتة الحمراء، التي كانت سليلة عائلة شيوعية مناضلة، انتظم أفرادها جميعهم في النضال من أجل مجتمع عادل وتحول منزل أهلها قرب التلال الجرداء إلى ملتقى اجتماعي ثوري، فقد تزوجت فجأة قبل أن تصل إلى العشرين، ضمنت مستقبلها مع تاجر ماشية بدوي قادم من الشمال، تجاوز الأربعين من عمره، قبلت به وبأغنامه دون أن يركض من أجلها صباحاً ومساءً نحو التلال الجرداء. وعندما التقيت بها مصادفة عند أصدقاء وكان ابنها يقف إلى جانبها، بطولي تقريباً ممتلئ الجسد بأصول بدوية. هند كبرت في العمر وزحفت تجاعيد خفيفة على وجهها، لم تعد تلبس جاكتة حمراء وفقدت بسمتها الساحرة، وعندما حيتني لم تسألني إذا مازلت أقر كثيراً.
وتزوجت سهير أحد الأقرباء، سافرت معه إلى بلاد الصحراء، حيث ذهب للعمل هناك، وتم حبسها في المنزل عشرين عاماً وهي تنجب ولداً وراء آخر. وعندما عادت كانت تلبس جلباباً أسوداًً، لا تظهر منه سوى عينيها، ثم تنازلت عندما استقرت في البلدة وكشفت عن وجهها فقط بعد أن وافق زوجها. وعندما قابلتها عند أقرباء لاحظت على طرفي يديها بثوراً، فأسرت لي قريبة أن المسكينة قد أصيبت بمرض جلدي وأصبح كامل جسدها مليئاً بالبثور، خجلت من سؤال قريبتي فيما إذا كانت البثور قد غطت ثدييها أيضاً.
أما جورجيت فقد هربت ذات ليلة مع شاب من غير دينها، كان قادماً من الشمال لتأدية الخدمة العسكرية قرب البلدة، وظل يغريها كل يوم بصدره العاري المنتفخ، وهو يمارس رياضة كمال الأجسام في غرفته المكشوفة أمام بيت أهلها، وعندما أنهى خدمته العسكرية اختطفها معه إلى الشمال حيث يسكن أهله. اضطرت أن تغير دينها حتى تكتمل أوراق زواجها الرسمية حسب القوانين المرعية في البلد وأن تختفي عن عيون أهلها، ويبدو أنها لم تستطع أن تغير عقلها وأفكارها، فعندما حاول زوجها وأهله أن يجعلوها ترتدي الحجاب على الرأس تنازعت معهم، وبقيت صادقة وصافية في داخلها. ثم هربت مع شاب آخر بعد أن حصلت على الطلاق بصعوبة، لتعيش في قرية بعيدة يعيش سكانها بوئام بتعدد أديان وطوائف ودون حجاب على الرأس، تعيش الآن بعيدة وحزينة، ولكنها مستقرة وأولادها يحتفلون بعيد الميلاد وعيد الفطر.
أما رولا فلم أستطع أن أعرف عنها شيئاً، سوى أنها انتهت في مستشفى للأمراض النفسية.
أغفو وأصحو، والليل يخيم على الغرفة والجو لازال عاصفاً في الخارج، ورد إلى جانبي متمددة، مضى يوم عطلة وسأذهب غداً إلى العمل، شربت معي القهوة وشربت الشاي ولكنها لم تطلب طعاماً، إذا لم أكن أنا جائعاً فلماذا أحرمها منه، تساءلت "ورد، هل أنت جائعة؟".
" لا، عندما تجوع أنت وترغب بالطعام أتناوله معك".
" ورد، أبقي معي، غداً عندما أذهب إلى العمل تستطيعين البقاء في البيت، تقومين بترتيبه وتحضري طعاماً لنا".
" لا أستطيع".
" لماذا؟ أشعر بأنك تحبيني كما أحبك والانسجام موجود بيننا، والأمور تسير بشكل حميمي طبيعي".
"لا أستطيع البقاء في المنزل، أنا موجودة فيه عندما تكون أنت موجوداً فيه فقط".
"وأثناء غيابي أين تذهبين؟".
"أذهب، هذا سر لا أبوح به".
"ماذا يحصل إذا حضرت معي فتاة مثل شيماء إلى المنزل، هل تأتين وتبقين؟".
"أكره شيماء، كدت أن تخونني معها وأنت تحاول دعوتها بشكل مستمر إلى البيت".
"كيف تعرفين بكل هذا! لا أفهم، ماذا كان سيحصل لو تزوجتها؟!".
"كنت سأحاول أن أمنعك، وإذا لم أنجح بذلك سأغادرك إلى الأبد، ولن ترى وجهي بعد ذلك".
مطر غزير يهطل على المدينة، مطر يهطل في الغرفة، مطر يهطل في القلب، يذهب نظري إلى السقف، هذا المصباح الذي يشبه عيناً زجاجية مزروعة فيه يزعجني، مالك المنزل قال لي لا تهتم إنه مصباح صغير معطل، لا تهتم به. يزعجني هذا المصباح ويوترني، يعطيني شعوراً بأنه يراقبني بشكل دائم".