كانت الساعات الـ16 من البحث بين أنقاض بناءٍ مدمّر في حي "الأنصاري الشرقي" في مدينة حلب، كفيلة بأن تقطع الأمل بنجاة طفل رضيع لم يتجاوز عمره الأسبوع، قبل أن يظهر رأس بين الحطام، لتعلو أصواتٌ من الفرح، ويكتب متطوعو "الخوذ البيضاء" معجزةً في العمل الإنساني، ويطلقون على الطفل الناجي محمود الباشا ـ فيما بعد ـ "الطفل المعجزة".
"الشعور لا يوصف"، يقول خالد الخطيب وهو متطوع في "الخوذ البيضاء" ومصور من مدينة حلب تعليقاً على لحظة انتشال الطفل محمود. ويضيف: "لا يمكن وصف الشعور، لأن الجهود المبذولة حينها ودرجة الصبر، كانت فوق الوصف، وبعد كل هذا ظهر الطفل محمود من بين الأنقاض.. هذا ـ بكل فخر ـ من أروع إنجازات منظمة الخوذ البيضاء".
كانت أسراب الطائرات تتناوب على قصف خطوط الجبهة والأحياء السكنية في توزيع عشوائي، جعلت الموت اعتيادياً، فصارت حكايا الموت أكثر سهولة على الرواية، وصار الدم المنساب في ممرات المستشفيات الميدانية أكثر غزارة.
يتابع "الخطيب" لموقع تلفزيون سوريا: "كانت الفترة حينها تشهد بدايات الدفاع المدني السوري، التي كانت بدون أي دعم حقيقي، وحينها كان النظام السوري يزعم أنه يقصف إرهابيين ومقاتلين ومجموعات متطرّفة، لكن بهذا الفيديو الذي بثته الخوذ البيضاء، أثبتنا زيف ادعاءاته، علاوةً على الشهرة والدعم الكبير الذي مكّننا من تطوير عملنا وأداء البحث والإنقاذ بشكل أقوى وأفضل".
وفي مقطع مصوّر، يظهر لحظة انتشال الطفل محمود، والذي لاقى انتشاراً عالمياً وترجم للغات مختلفة، كان لافتاً فيه إصرار متطوع مُنهك من العمل، على إنقاذ محمود، المتطوع خالد حرح، الذي قضى بقصف روسي مزدوج استهدف فريقاً من الدفاع المدني السوري "الخوذ البيضاء" خلال حصار مدينة حلب.
"الطفل المعجزة".. سبب شهرة الخوذ البيضاء عالمياً#المقابلة_مع_علي_الظفيريpic.twitter.com/Ny3EL0t9mw
— قناة الجزيرة (@AJArabic) September 5, 2023
نجا محمود، وقضى والده بقصف البراميل المتفجّرة، وهو يكمل اليوم حياته في تجربة يُتمٍ مبكرة، في منفى جديد، لكن حكاية مدينة محمود ـ حلب ـ لم تنتهِ هنا، إذ أبعدت "الحافلات الخضر"، آخر سكّان أحيائها الشرقية في أواخر عام 2016، في اتفاق "تهجير قسري" كمثيلاتها من المدن السورية، بعد حملة تدمير ممنهجة كانت روسيا ـ التي تحل اليوم الذكرى الثامنة لتدخلها العسكري في سوريا ـ الشريك الدموي الأبرز فيها.
وبحسب "الشبكة السورية لحقوق الإنسان"، فإنّ روسيا مسؤولة عن مقتل 2789 مدنياً في مدينة حلب، منذ تدخلها العسكري، متصدرةً المحافظات السورية بحصيلة الضحايا، في حين بلغت أعداد المجازر المرتكبة في حلب 133 مجزرة من أصل 360 مجزرةً ارتكبتها القوات الروسية في سوريا منذ تدخلها.
"أين أبي؟"
دخل محمود ـ الطفل المعجزة ـ عامه التاسع، وصار في الصف الثالث الابتدائي، يعيش في مدينة دينزلي التركية برفقة خالته السيدة "منتهى الباشا"، تقول الأخيرة: "وضع محمود جيد جداً، متفوق بدراسته ويتعلم القرآن الكريم، وواضح مدى ذكائه وشخصيته الواعدة، أنا جداً سعيدة بالاعتناء به، إلى جانب والدته التي تزوره يومياً، كل همّي الآن ألا يكون محمود محتاجاً لأي شيء، وأن يتابع دراسته وأضمن له مستقبلاً واعداً إن شاء الله".
رغم تلقّي محمود الرعاية الكافية، واهتمام "الخوذ البيضاء" بحالته عبر "صندوق بطل" المخصص لـ"استقبال التبرعات لتغطية نفقات علاج المصابين وعوائل شهداء الدفاع المدني"، إلا أنّ أسئلةً عديدةً ما زالت الأكثر إلحاحاً لطفلٍ يكبر دون أب.
تقول السيدة "منتهى" إنّ "سؤاله عن والده، بات يكثر بعد ما دخل إلى المدرسة، وخاصةً حينما شاهد أصدقاءه بصحبة آبائهم في المدرسة.. فقدانه لوالده ترك فراغاً كبيراً وبدأ يشعره بالضيق".
"إبادة عشوائية"
يعتبر خالد أنّ "حالة الطفل محمود مثال على انتصار متطوعي الدفاع المدني، في فترةٍ كانت تشهد فيه حلب، إبادة عشوائية وجماعية بحق سكّانها.. كان موقف المتطوعين صعباً جداً، حياتهم تحت الخطر ليتمكنوا من إنقاذ كثير من الأشخاص هم في مثل حالة الطفل محمود".
ويضيف: "منذ نهاية عام 2013 بدأ النظام السوري بشن حملات ممنهجة ضد المناطق السكنية استخدم فيها البراميل المتفجرة والغارات الجوية وكافة أنواع القصف، واستمر ذلك إلى أن تم إخضاع المدينة للحصار ومن ثم تهجير سكان المدينة بشكل قسري لخارجها".
ويرى في حديثه أنّ "غاية النظام السوري هو قتل الحياة في المدينة باستخدام القوة والعنف والاضطهاد لإعادة المدينة إلى سيطرته، تم ارتكاب مئات المجازر وتم قتل الآلاف من سكانها، يمكنك أن تشاهد المدينة وحجم الدمار الذي لحق بها بسبب القصف، وخلال كل هذه الأحداث القاسية والمأساوية كانت فرقنا موجودة بجانب المدنيين، في كل استهداف وحدث طارئ كانت فرقنا تتوجه على الفور وبقيت حتى آخر لحظة مع السكان داخل أحياء حلب".
واستهدفت الطائرات الحربية والمروحية، الروسية والتابعة للنظام، مراكز الدفاع المدني السوري الأربعة، مرات عديدة، والتي يعتبرها "خالد": "انتقاماً من قبل النظام تجاه فرقنا التي لعبت دوراً كبيراً في إظهار الحقيقة للعالم من خلال توثيق معظم المجازر والانتهاكات التي كانت ترتكب بحق أهالي المدينة".
ويجد أنّ "التدخل الروسي في سوريا زاد من معاناة السكان في مدينة حلب، حيث ارتفعت وتير القصف واستخدام قنابل أسفرت عن تدمير المنشآت الحيوية مثل المستشفيات والمخابز والأسواق، وإلى تقطيع أوصال المدينة من خلال إلحاق الدمار بالشوارع الرئيسية لجعل حركة السكان أصعب".
خالد كان واحداً من مصوّري فيلم "الخوذ البيضاء"، الذي نال جائزة الأوسكار عن فئة الأفلام القصيرة، يصوّر فظاعة الهجمات الروسية والنظام على أحياء مدينة حلب، ودور متطوعي الدفاع المدني السوري في الاستجابة الإنسانية وإنقاذ أرواح المدنيين.
الفيلم الذي أظهر أيضاً، لحظة إنقاذ الطفل المعجزة، يقول مصوّره "خالد" إن " الفيلم يجمع في مشاهده المتطوعين محمد وخالد وأبو عمر، المتطوعين الذين أنقذوا الطفل محمود، كان من أفضل المشاهد واللقطات في الفيديو، لأن محمود يمثل ثمرة جهود الدفاع المدني، وخاصةً عندما نشاهده يكبر، نشعر بفخر عظيم".
"فضح الدعاية الروسية"
يقول رائد الصالح وهو مدير مؤسسة "الدفاع المدني السوري"، إنّ "عملية إنقاذ الطفل محمود أسهمت بشكل كبير في إظهار حقيقة ما يجري في سوريا، حينها في عام 2014 كان نظام الأسد يدعي عبر وسائل إعلامه أنه يستهدف مسلحين ومقار مقاتلين وأنه يحارب إرهابيين، وكان الإعلام الروسي يروج لنفس الرواية رغم أن روسيا لم تكن قد أعلنت بعد انخراطها المباشر في الحرب على السوريين، لكن فيديو الطفل المعجزة كان من أكثر الفيديوهات تداولاً وانتشاراً حول العالم، وبسببه أصبح الناس حول العالم يعلمون أن نظام الأسد يستهدف المناطق السكنية بشكل عشوائي وأيضاً علموا بالجهود الذي يبذلها متطوعو الدفاع المدني السوري الذي يخاطرون بحياتهم من أجل إنقاذ الأرواح، وأصبح الفرق واضحاً، ما بين نظام يساهم بقتل الشعب وما بين مجموعة من المتطوعين يحاولون إنقاذ أرواح وخدمة السكان".
ويضيف لموقع تلفزيون سوريا: إنّ "محاولة تشويه صورة متطوعي الخوذ البيضاء طوال سنوات، كانت تهدف لرسم صورة ذهنية سلبية، وذلك بهدف قطع الطريق أمام وصول الوثائق والأدلة التي تملكها المؤسسة إلى المحافل الدولية لما فيها من إدانة واضحة لانتهاكات النظام وروسيا بحق السوريين".
ويعتبر أنّ "التضليل الروسي، ومن قبل نظام الأسد، كان موجّهاً لمهاجمة الخوذ البيضاء على كافة المستويات، سواء كمؤسسة أو كأفراد، ومحاولة تشويه صورتها واتهامها بتنفيذ هجمات كيماوية أو فبركة هجمات كيماوية، أو فبركة عمليات الإنقاذ، وهذا كان بإطار محاولة تضليل الرأي العام والإساءة للقضية السورية ككل لكون استهداف الخوذ البيضاء هو جزء من حملة ممنهجة ضد مشروع التغيير في سوريا وأي جهة تعتبر جزءاً من هذا المشروع".
"قصة أمل وبقاء"
يجد "الصالح" أنّ "الطفل المعجزة محمود لاقى تعاطفاً عالمياً كبيراً، لأنه قصة أمل وبقاء على قيد الحياة لا تُشبّه إلا بالمعجزة".
ويردف: "ليس فقط الطفولة ما تعنينا أي روح تعنينا لكن للطفولة خصوصيتها، الأطفال دائمًا هم من يدفع الثمن الأكبر في الحروب والاهتمام بالأطفال ورعايتهم وحمايتهم يعني الاهتمام بمستقبل سوريا".
ويرى أنّ "تحقيق العدالة والسعي إليها بإصرار يجب أن يكون أولوية للبشرية حتى لا يشعر أي دكتاتور أو بلد أن لديه الضوء الأخضر لارتكاب الفظائع والانتهاكات، إذا تمت محاسبة القوات الروسية وحليفها نظام الأسد على جرائمهم، هذا يعني أنه أي مستبد ومجرم في العالم سيُحاسب مستقبلاً، لكن إفلاتهم من العقاب يعني أن الجريمة التالية ستكون مسألة وقت فقط".