أصابت التحولات الجذرية جميع جوانب منظومة المجتمع السوري، وذلك نتيجة الصراع المستمر منذ ما يزيد على عشر سنوات، فظهرت الآثار على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والقانوني، وتجسدت هذه الآثار على هيئة خسارات وصدوع، وتصدرت الخسارات البشرية مقدمة المشهد الاجتماعي، حيث تناقصت معدلات النمو السكاني والتنمية البشرية وارتفع معدل الوفيات بين المدنيين الضحايا وازداد عدد القتلى من جراء الهجمات الهمجية لقوات نظام الأسد وحلفائه من الميليشيات والجماعات شبه المنظمة على المجاميع البشرية التي انتفضت ضد حكم الاستبداد.
بالإضافة إلى القتلى الذين سقطوا نتيجة المواجهات بين مختلف الفصائل المسلّحة والتي تمثل سلطات الأمر الواقع على الأرض السورية بغض النظر عن مسمياتها وتوجهاتها وارتباطاتها، وكذلك مئات الآلاف من المصابين والمفقودين والمغيبين قسرياً في السجون والمعتقلات، فضلاً عن أكثر من 13 مليون سوري فرّوا من مدنهم وبلداتهم بين نازحٍ داخلي ولاجئ خارج الحدود السورية يبحثون عن الأمان والسلامة من مخاطر الموت والإصابة والاعتقال.
وبالرغم من إمكانية وصفهم بالناجين من مقصلة الحرب لكنهم يواجهون تحديات اجتماعية ومعيشية وقانونية هائلة، لاسيما أولئك الذين نزحوا داخلياً وهُجِروا قسرياً وتمركزوا في الشمال السوري بشقيه الغربي والشرقي، بالإضافة إلى الذين لجؤوا إلى بلدان الجوار مثل الأردن ولبنان وتركيا، فهم يتقاسمون مع جميع السوريين سمة الاحتياج للمساعدات بما فيهم الذين يعيشون في مناطق سيطرة نظام الأسد، فقد أشارت أرقام الأمم المتحدة بأن نحو 90٪ من السوريين يحتاجون إلى مساعدات إنسانية وفي مجالات عديدة منها: الحماية والأمن والغذاء والرعاية الصحية ومياه الشرب والصرف الصحي والايواء وفرص العمل وتأمين سبل العيش والتعليم.
مع استمرار النزاع وإطالة أمده، تحوّل استخدام العنف من قبضة منظومة النظام الحاكم إلى مجموعات مختلفة، كالتدخل الخارجي المباشر للقوات الروسية والإيرانية وميليشيات "حزب الله" وغيرها من الميليشيات الطائفية الأخرى..
مع استمرار النزاع وإطالة أمده، تحوّل استخدام العنف من قبضة منظومة النظام الحاكم إلى مجموعات مختلفة، كالتدخل الخارجي المباشر للقوات الروسية والإيرانية وميليشيات "حزب الله" وغيرها من الميليشيات الطائفية الأخرى، ومنها المجموعات المحلية التي تقاتل بالوكالة عن أطراف خارجية لها أجندات تريد تحقيقها من خلال مسارات القضية السورية ولكنها لم تتدخل بشكل مباشر.
هذه التحولات تتفاعل مع مسار الحل السياسي الشامل، التي تنادي به جميع الأطراف شعاراً براقاً ومطلباً لجميع السوريين، ولكن الأطراف ذاتها تعيق هذا المسار ولا تسعى بشكل جاد لتحقيقه، مما خلّفَ مشهداً اجتماعياً مشتتاً هشاً شديد الاستقطاب، وتحولت الساحة إلى مجتمع نزاع ومسرح لانتهاكات حقوق الإنسان وجرائم الحرب والخطف والتغييب القسري وغياب المساءلة والمحاسبة، وإلحاق الضرر البالغ بالهياكل الاجتماعية وتشويه العلاقات المدنية والتعاملات بين المكونات، وهذا ما يزيد من صعوبة مهمة الأجيال القادمة في بناء سلام مجتمعي مستدام في المدى المنظور.
ومن المعروف خلال فترات الصراع الطويلة تتصاعد الممارسات الاستغلالية ضد فئات المجتمع المختلفة ولاسيما الفئات الأكثر هشاشة وضعفاً، فكثير من الأطفال تعرضوا للعنف والمرض واليتم، وانقطعوا عن متابعة تلقي التعليم والدراسة وانخرطوا في سوق العمل مبكراً، كذلك المرضى والمصابون والنساء وكبار السن معرضون للتهديد في جوانب عديدة من حياتهم.
وقد قيّمت مؤسسات الأمم المتحدة المجتمعات المحلية في مناطق النزاع المزمن عبر تقاريرها حول متعلقات الحماية ومن أبرزها: فقدان الأوراق القانونية وغياب الوثائق المدنية وسندات الملكيات، والزواج المبكر، والانفصال الأسري، والعنف المنزلي، والتحرش الجنسي، والعنف الجنسي، والمضايقات المختلفة، والاستغلال الاقتصادي، وارتفاع معدلات البطالة، والخطف، وأخطار المتفجرات، وتجنيد الأطفال والشباب، وتفشي الفقر والأمراض.
هذا المشهد الاجتماعي القاتم وهو وليد صراع متشعب ومتداخل وطويل الأمد عبثت فيه متغيرات خارجية وعقليات وأيديولوجيات محلية، قد ترك أثره في رأس المال الاجتماعي السوري وأضعف قيم التشارك والتسامح وعمّق الشرخ بين الأيديولوجيات والهويات المختلفة، ولعبت القوى المستخدِمة للعنف – وعلى رأسها النظام الحاكم – دوراً مهماً في التحريض وإذكاء نار الفتنة واقتسام الولاء والتحيز ونشر الكراهية وفرض نفوذها بالقوة، ترافق كل ذلك مع ضعف الأداء السياسي لمؤسسات المعارضة الرسمية والتي تدَّعي تمثيل مصالح السوريين ولا تجسد هذا الادعاء بتصرفاتها وتحركاتها على أرض الواقع.
لا ينبغي لهذا المشهد أن يطول ويستمر كي لا تتعمق آثار العنف والإقصاء والنفور من الآخر، ومنعاً للمزيد من الاستقطاب والاصطفاف الخاطئ حول أجندات لا تخدم السوريين القابضين على سوريتهم كالقابض على الجمر..
في الختام لا ينبغي لهذا المشهد أن يطول ويستمر كي لا تتعمق آثار العنف والإقصاء والنفور من الآخر، ومنعاً للمزيد من الاستقطاب والاصطفاف الخاطئ حول أجندات لا تخدم السوريين القابضين على سوريتهم كالقابض على الجمر، ومنعاً لخروج المزيد من فئات الشباب عن مسار التعليم وفقدان فاعليتهم ودورهم في المجتمع، وللتقليص من خيار الهجرة واللجوء عبر الطرق الأكثر خطورة ووعورة.
ومن جانب آخر كلما طال أمد النزاع تعقّدت وصَعُبت فرص بناء سلام عادل ومستدام، لاسيما وأن الكثير من السوريين ما زال الأمل يحدوهم في إعادة إنتاج مجتمع سوري جديد متوافق ومتسق بقيّم العيش المشترك والمستقبل الواعد لشمس الحرية لجميع السوريين، وذلك عبر طرح المزيد من المبادرات المجتمعية التي تبني جسور التواصل وترأب الصدع وتؤسس لدولة الحقوق والعدالة.