انعقد مؤتمر بروكسل لدعم مستقبل سوريا والمنطقة بنسخته الثامنة بحضور نحو 800 شخصاً يمثلون الأمم المتحدة والاتحاد الأوربي ودول جوار سوريا والمنظمات العاملة في الشأن السوري أو العاملة بسبب الكارثة السورية، والجهات المانحة أو المستثمرة والجهات المانعة أو الممانعة، ولكن ظل مقعد السوريين شاغراً.
حمل جميع هؤلاء الممثلين مظلاتهم الملونة بشعارات جذابة وتحدثوا تحت عناوين مستقبل سوريا ومستقبل المنطقة وأكدوا على حشد الجهود الإنسانية وتأييد الدعم المالي الضروري وتأييد الحل السياسي وفق قرارات الشرعية الدولية وضرورة وأهمية استمرار تدفق المساعدات ولم ينسوا التعافي المبكر والتمكين الاقتصادي اللذين يقودان لصناعة السلام. برز في المؤتمر تياران متناقضان حول قضية التطبيع مع النظام الحاكم في سوريا، حيث إن مجموعة من الدول والمنظمات تريد تسويق قضية التعامل مع النظام الحالي كأمر واقع لا بد منه مثل دول جوار سوريا وبعض دول شرق أوربا وبعض المنظمات التي يعنيها الاستثمار في الملف السوري بغض النظر عن المعايير الأخلاقية. بالمقابل هناك بعض الدول والمنظمات أثارت مخاوف وصول الأموال والدعم لدوائر النظام الحاكم ومنظومته الأمنية والتشبيحية وبالتالي لا يصل الدعم لمستحقيه وبالتالي لا بد من ابتكار حلول لتحقيق التوازن بين ما هو إنساني وأخلاقي.
تريد مجموعة من الدول والمنظمات تسويق قضية التعامل مع النظام الحالي كأمر واقع لابد منه مثل دول جوار سوريا وبعض دول شرق أوربا وبعض المنظمات التي يعنيها الاستثمار في الملف السوري بغض النظر عن المعايير الأخلاقية
تبدأ الفعالية بالخطابات الرنانة والعبارات المنمقة والمؤثرة في النفوس، حيث يبدأ الجميع بالتباكي على الشعب السوري وعلى ما حل به من عجائب الأقدار وكأن كائنات فضائية هي من صنعت المشهد السريالي السوري على امتداد سنوات الصراع الجاري. ويؤكد المسؤول الأممي أنهم مهتمون بإيجاد حلول مستدامة لضمان تدفق المساعدات ووصولها لمستحقيها، ثم يليه مسؤول الاتحاد الأوربي والذي يؤكد للمرة الثامنة على التوالي بأنهم في الاتحاد الأوربي حريصون على دعم السوريين في شتاتهم وأماكن نزوحهم وذلك عبر الوكلاء من ممثلي دول جوار سوريا، وهنا تنفرج أسارير وزراء دول الجوار وتنتفخ أوداجهم ويتسابقون للتباكي وبث الشكوى من ثقل هم السوريين على قلوبهم وفي بلدانهم ويستعرضون فواتيرهم المالية الوهمية والمبالغ التي أنفقوها بسبب السوريين، ويسيل لعابهم عند سماع إعلان المبالغ المالية المرصودة وتقسيم الحصص وتوزيعها، ثم يتنافخون شرفاً ويتعهدون أمام المؤتمرين -المتآمرين – بمنع السوريين من التوجه إلى حدود أوربا ويقسمون أيماناً مغلظة أن لا يتركوا لهم حدوداً مفتوحة سوى حد انتقام النظام الحاكم منهم، ويكون إيقاع كلماتهم مضبوطاً وفق التناسب الطردي بين ارتفاع صوت الصراخ وبث الشكوى وبين زيادة الحصة المالية.
ثم يأتي دور جوقة ممثلي منظمات المجتمع المدني العاملة بسبب الواقع السوري والمستثمرة في آلامهم وآمالهم، حيث تجدهم متشابهين ومنسجمين شكلاً ومضموناً، فقد تغيرت اهتماماتهم وتوسعت مدركاتهم للاحتياجات الإنسانية واختلفت حسب سياق استخدامها، فتجدهم يتحدثون عن ضرورة وأهمية التشبيك وبناء العلاقات لاستدامة تدفق تمويل المشاريع، ويبدون أسفهم على تناقص مجموعات السراخس والإشنيات في بحيرات بعض الدول الأوربية لأن ذلك يضر بالتوازن البيئي، ويشيدون بالسيارات الكهربائية وتقليل الانبعاثات كي لا تتضرر طبقة الأوزون ويبدون قلقهم حول ظاهرة العنف اللفظي والنفسي.
وتتضمن خطاباتهم الكثير من العبارات المُترجمة والمستوردة من أدبيات دراسات النزاع، كأن تسمع منهم: الربط بين الإغاثة والتنمية أو التحول من المسار الإغاثي إلى المسار التنموي، والتعافي المبكر، والتمكين الاقتصادي، والتوازن الجندري، ونبذ العنف اللفظي، والحد من خطاب الكراهية، وضرورة وصول الدعم لمستحقيه - لمستثمريه – وفق القضايا التشغيلية المحيطة بالتعافي المبكر، والحياد والشفافية في العمل الإنساني، والانتقال من الصراع إلى السلام.
ويطرحون برامجهم ووعودهم التي تتضمن ما سيقومون بتقديمه في حال حصلوا على التمويل، وينضمون بشكل تلقائي إلى مزاد الاستعطاء والتسوّل والتكسب.
متناسين أن التعافي في سياق الصراعات والحروب يختلف عن التعافي من الكوارث الطبيعية، والتحديات التي تفرضها سياقات الصراع والنزاعات تختلف عن التحديات التي تفرضها الكوارث والأزمات الطبيعية، ومن هنا يجب البحث عن القيمة المضافة لهذه الطروحات في سياق واقع الصراع في المشهد السوري اليوم، حيث أثبتت التجارب السابقة أن طرح التعافي المبكر يتم في السياقات الإنسانية الانتقالية، ولم يتم إثبات القيمة المضافة المرجوة منه بشكل قطعي في سياق النزاعات ذات الطبيعة الخاصة والمستعصية، حيث توجد توترات واضحة بين النهج الإنساني والتنموي والأمني، والأولوية الأمنية تتجلى في الاهتمام المتزايد بتكامل المساعدات والأمن، أين الواقع السوري من هذا التوصيف وأي منطقة سورية بغض النظر عن سلطة أمر الواقع التي تحكمها اليوم يمكننا أن نحقق فيها هذا التكامل بين المساعدات والأمن أو أن نحمي المساعدات من اعتداء السلطات الحاكمة وأمراء الحرب وتجار المنظمات.
أثبتت التجارب السابقة أن طرح التعافي المبكر يتم في السياقات الإنسانية الانتقالية، ولم يتم اثبات القيمة المضافة المرجوة منه بشكل قطعي في سياق النزاعات ذات الطبيعة الخاصة والمستعصية
في النهاية علينا أن ندرك بأن الانتقال من الصراع إلى السلام ليست ممارسة فنية بقدر ما هو عملية سياسية بحتة، لا تتوافق فيها بالضرورة المبادئ والأولويات والمناهج بسهولة، ولا توجد مجموعة سحرية من الأنشطة والمشاريع من شأنها تعزيز التعافي المبكر وسط صراع مستمر ومعقد، وتفرض الأدوات والأهداف العديدة والمتنوعة للمنظمات الداعمة ودول الجوار والمنظمات العاملة والمنظمات الدولية، عقبات أمام الجهود المنسقة لتعزيز التعافي المبكر.
وهكذا تحول مؤتمر بروكسل إلى ما يشبه العرس، حيث تتم الاتفاقيات الجانبية والفرعية بين الأطراف المعنية بشكل مسبق، كما يتم اتفاق أهل العروس وأهل العريس على جملة التفاصيل قبل العرس، ثم تبدأ التحضيرات والدعوات والحجوزات، وهكذا ينعقد المؤتمر بكامل طقوسه من إعلام وديكورات واحتفاليات وحجوزات وأزياء ومجاملات وانتقادات، والنتيجة معروفة والتصور واحد لدى الجميع عما سيفعله العروسان.