بعد أن وصلت الحالة السورية إلى مستوى عطالة سياسية وإنسانية غير مسبوقين، وحيث لم يُقتَل من السوريين سوى مليون إنسان فقط، ولم يصل عدد المعتقلين والمغيبين منهم إلى مليون إنسان حتى الآن، ولم يتمكن من الهروب والفرار خارج الحدود إلا قرابة تسعة ملايين إنسان، أما من تم تهجيرهم قسرياً داخل الحدود السورية فقد وصل عددهم إلى نحو ستة ملايين ونصف المليون تقريباً، وهذا يعني أن هناك سبعة عشرة مليون سوري تقريباً يعيشون على الأرض السورية وتحت سيطرة قوى الأمر الواقع المتمثلة بأربع حكومات غير شرعية وهي: حكومة النظام الحاكم وحكومة الإنقاذ والحكومة المؤقتة وحكومة قسد.
من خلال منظور اقتصادي وعلى المستوى الجزئي وبعد تحديد العقبات التي تعترض التنمية وتأمين سبل العيش، يمكننا طرح التساؤل التالي على أنفسنا: هل يمكننا البناء على رافعة الشبكات والأعراف والثقة الاجتماعية من أجل تسهيل وصول الأسرة السورية إلى فرص تحسين سبل العيش وتخفيف حدة الفقر والعوز.
أثبتت التجارب العالمية في كثير من البلدان التي عاشت نزاعات مزمنة وطويلة بأن ارتفاع مستوى مؤشرات رأس المال الاجتماعي والذي يقاس بمستويات الثقة والتعاون المدني والتشاركية يؤدي إلى نمو اقتصادي أكبر ووصول أكثر للفرص
بالتأكيد بأننا لا نحتاج إلى الكثير من الجهد ولا المزيد من البحث لنستنتج أن سنوات الصراع التي طالت واستطالت قد ألحقت ضرراً بالغاً في رأس المال الاجتماعي السوري، حيث نشهد اليوم انقسامات حادة في المكون الواحد وبين المكونات المختلفة مهما كانت طبيعة هذه المكونات، وتراجعاً في مستويات الثقة المجتمعية وتدني نسبة التشاركية والاشتراك بالقيم والاتجاهات. ولكن كل ذلك لا ينفي الدور الاجتماعي المأمول في تخفيف المعاناة المعيشية للأسرة السورية أينما تُقيم على الأرض السورية، لا سيما في ظل عدم وجود بارقة أمل لحل أو توافق سياسي بشأن القضية السورية في المدى المنظور.
أثبتت التجارب العالمية في كثير من البلدان التي عاشت نزاعات مزمنة وطويلة بأن ارتفاع مستوى مؤشرات رأس المال الاجتماعي والذي يقاس بمستويات الثقة والتعاون المدني والتشاركية يؤدي إلى نمو اقتصادي أكبر ووصول أكثر للفرص.
وفي الخطوة الأولى لا بد من تحديد العقبات والتحديات المشتركة التي تواجهها الغالبية العظمى من الأُسر السورية اليوم وتحد من قدرتها على الوصول إلى فرص تأمين سبل العيش لها، وهي: انزياح رأس المال البشري بخبراته وقدراته بصورٍ شتى كالتغييب والموت والتهجير واللجوء، ثم التعرض لحالات النهب والسلب لمقتنيات هذه الأُسر من أصول مادية كالأموال والمدخرات والآليات والدراجات والسيارات والمزارع والمحاصيل والمعامل والمخازن، بالإضافة إلى تدمير البنية التحتية من طرق ومواصلات ومصادر طاقة وذلك بأيدي سلطات الأمر الواقع لمختلف قوى السيطرة الحاكمة، وهنا لا يمكن تبرئة جهة أو سلطة أمر واقع من أفعال التخريب واللصوصية بحق السوريين لصالح جهة أخرى، وآخر ما تشترك به هذه الأُسر هي خيبة الأمل بحكومات الأمر الواقع التي لم تضع معيشة الناس في أولوياتها، وكذلك خيبة الأمل بهيئات المجتمع الدولي ومنظمات العمل الإنساني والإغاثي.
ثم في الخطوة الثانية علينا أن نتلمس الدور الإيجابي الذي يمكن أن تقوم به مكونات رأس المال الاجتماعي في السياق الراهن لواقع الأسرة السورية، حيث يمكن أن تتم عمليات نقل وتداول المعرفة حول تحسين شروط العيش من خلال التواصل وتبادل المعلومات وتجميعها بين أفراد الأُسرة الواحدة، وكذلك بين الأسر المختلفة، وبروز دور الشخص القدوة أو الأكثر اطلاعاً.
وهذا التبادل والتواصل سوف يسهم في بناء الثقة المجتمعية ويقلل من تكاليف التعاملات التي تصب في الوصول للفرص، وسيقود هذا إلى تعزيز فكرة العمل الجماعي والتعاوني.
وبالنظر إلى مقومات قدرة الأسرة على الصمود والتأقلم الإيجابي مع المتغيرات التي تحيط بها، نجدها تضررت وتراجعت كثيراً نتيجة الصراع المزمن، ومن هذه المقومات ما لا تستطيع الأسرة استعادتها مثل رأس المال البشري والأصول الإنتاجية المفقودة، ولكن هناك مقومات لا بد من العمل على استعادتها مثل الروابط والعلاقات داخل الأسرة الواحدة وبناء الشبكات الاجتماعية والعلاقات التبادلية في المحيط الاجتماعي الأوسع بقصد تبادل المنافع، مثل شبكات تبادل الدعم وشبكات تقاسم المخاطر.
يحتاج بناء هذه الشبكات وتفعيلها إلى مبادرات فردية وكذلك مبادرات جماعية، وتقع المسؤولية الأكبر على الذين يعيشون خارج الحدود وقد حققوا استقراراً نسبياً في العمل والتعليم وتوليد الدخل
ولعل هناك بعض الأسر أعادت تجميع مواردها وتقاسمت المخاطر بالرغم من تشتت أعضائها بين جغرافيا النزوح واللجوء والاحتلال، وهي أسرٌ مشترِكة بكل شيء ما عدا العيش في حيز مكاني واحد، وبالعموم تختلف الأسر في مدى قدرتها على الوصول لفرص التحسين حيث يوجد منها ما هو فقير جداً ويعاني هشاشة ديمغرافية مثل الأسر التي تضم مُسنين أو أرامل وأطفالاً ومصابين ومرضى، تلك الأسر هي الأكثر احتياجاً للدعم والمساندة. وهناك الأسر الأفضل حالاً وهي تلك الأسر التي يكون فيها عدد من البالغين وهم في سن العمل ولديهم فرد أو أكثر خارج البلاد مما يجعل قدرتهم على تقاسم المخاطر عالية وفرصتهم للوصول إلى تبادل الدعم وتقاسم المخاطر أكبر.
يحتاج بناء هذه الشبكات وتفعيلها إلى مبادرات فردية وكذلك مبادرات جماعية، وتقع المسؤولية الأكبر على الذين يعيشون خارج الحدود وقد حققوا استقراراً نسبياً في العمل والتعليم وتوليد الدخل، ويمكنهم ممارسة هذا الدور من خلال تقديم الدعم المالي المباشر كإرسال الحوالات والمساعدات العينية، بالإضافة إلى إمكانية تقديم الدعم الفني والمعلوماتي والإرشادي والإعلامي لحشد التأييد والمناصرة لحق هذه الملايين في الوصول لحياة كريمة.
إن بناء هذه الشبكات الاجتماعية الداعمة أمر ليس سهلاً وقد يكون معقداً ولكنه ليس مستحيلاً، وقد كان في العالم الكثير من تجارب دعم التعافي الاقتصادي من منظور إعادة بناء رأس المال الاجتماعي.