منذ أن حسمت تركيا قرارها بالدخول العسكري المباشر إلى الأراضي السورية منذ آب/ أغسطس 2016 لمكافحة تنظيمي "داعش" و "قسد" وتأمين المناطق الحدودية تحت ضغط الأمن القومي التركي؛ خلقت اعتبارات وظروف محلية وإقليمية ودولية حالة عسكرية جديدة في الشمال السوري، مرت بمراحل تطور وتغيرات كبيرة وصولاً لإعلان الجيش الوطني السوري، الذي يبدو أنه يعيش حالياً مخاضاً لولادة شكل ونمط جديد يتماشى مع تغير الظروف الأولى للنشأة.
ولاعتبارات كثيرة منها ما هو متعلق بطبيعة العمليات العسكرية، ومنها خاص بعدم إثارة حساسية المجتمع السوري والمجتمع الدولي، ركزت أنقرة على تفعيل دور الفصائل السورية في العمليات العسكرية، لكنها اصطدمت آنذاك بعدم حماسة الكثير من الفصائل الإسلامية والتابعة للجيش الحر للعمل معها، وذلك إما لأن تلك الفصائل ترفض التركيز على شيء آخر سوى قتال الأسد، أو لأسباب فكرية كما حصل داخل فصيل "أحرار الشام"، الذي رفض الكثير من أعضاء المكتب الشرعي التابع لها وقتها القتال بالتحالف مع تركيا، وأبرزهم "أبو محمد الصادق" و "أبو اليقظان" و "أبو شعيب" المصريان، وتأثر قائد جناحها العسكري "الطحان" بالموقف الشرعي.
انحازت الفصائل المناطقية للعمل مع تركيا لأنها ترغب باستعادة السيطرة على أراضيها، مثل: لواء المعتصم – فرقة الحمزة – الجبهة الشامية، وبالمقابل عملت المؤسسات العسكرية والاستخباراتية التركية على تجميع الآلاف من المقاتلين الذين بطشت بفصائلهم (جبهة النصرة)، مثل فصيل "خط النار"، الذي تحول لاحقاً إلى "السلطان سليمان شاه".
أبدت العديد من الفصائل تناغماً ميدانياً كبيراً مع الجيش التركي في العمليات العسكرية، وتزامن ذلك مع إطلاق مسار "أستانا"، وتردد الفصائل الكبيرة بخوض المفاوضات السياسية بضمانة تركية، مما تسبب بإحراج للضامن التركي، فأفرز ذلك واقعاً جديداً تمثل بدعم صعود فصائل كانت الأكثر قدرة عل الحشد العسكري، والأعلى مرونة مع المسار السياسي المرعي من قبل أنقرة أمثال: فرقة الحمزة – فرقة السلطان مراد – فرقة السلطان سليمان شاه، بالإضافة إلى تعزيز نفوذ فصيل فيلق الشام المؤسس عام 2014، كما حافظت الفصائل المناطقية في شمال حلب على ثقلها المناطقي.
مع توقف العمليات العسكرية منذ أواخر عام 2019، وتحول مسار "أستانا" إلى اجتماعات روتينية لا تعويل كبير عليها، ظهرت تحديدات جديدة تتعلق بالواقع الأمني وإدارة المناطق في "درع الفرات" و "غصن الزيتون"، حيث إن الفصائل التي تصدرت المشهد العسكري لم تتمكن من القيام بالأعباء الأمنية والإدارة، لأسباب ذاتية تتعلق بالتركيز على حشد المقاتلين القادرين على الإمساك بالمساحة الجغرافية، دون التركيز على الكفاءات والنوعية بشكل كبير.
"عزم".. تحريك المياه الراكدة وفرض توازنات جديدة
ومع انتشار الانتهاكات وخاصة في منطقة "عفرين" و"رأس العين"، وتسليط المجتمع الدولي الضوء عليها، وصولاً إلى فرض عقوبات أميركية على فصيل "أحرار الشرقية" وقيادته شهر تموز/ يوليو من العام الجاري، بات من المهم للفصائل عموماً وللجانب التركي إحداث تغييرات في بنية الجيش الوطني السوري، والمؤسسات التابعة له، لكن هذه المساعي اصطدمت بالتوازنات المفروضة داخله، إذ إن الإصلاح الإداري والأمني يرفع احتمالية الصدام مع تشكيلات عسكرية ذات وزن ولها نفوذها لدى الجانب التركي.
ومنح انسداد الأفق الفرصة لفصائل قديمة تمتلك المبادرة لتصدر المشهد، بعد أن عانت طيلة السنوات الماضية من عدم منحها المساحة الكافية للتحرك، وذلك لأنها بقيت تسعى للحفاظ على التوازن بين متطلبات الإدارة لمناطقها والانخراط في العمليات العسكرية داخل وخارج سوريا.
في منتصف تموز/ يوليو قادت الجبهة الشامية المنضوية ضمن الفيلق الثالث، بالتحالف مع فرقة السلطان مراد (الفيلق الثاني) تشكيل غرفة قيادة موحدة باسم "عزم"، مستفيدة من تراجع الثقة داخل فصائل الفيلق الثاني، خاصة توتر العلاقات بين فرقة "السلطان مراد" من جهة، و "فرقة الحمزة" وفرقة "السلطان سليمان شاه"، وكان الإعلان عن الغرفة أول مؤشرات تبلور توازنات جديدة داخل "الجيش الوطني السوري"، واللافت أن الجانب التركي لم يبد اعتراضاً على تغيير عملية التوازن، لكن تحت سقف الحفاظ على الجيش كونه يشكل مظلة لأي عمليات عسكرية مستقبلية.
إعلان تشكيلة الغرفة الموحدة كان من ضمنه تفاهم غير معلن، تلاقت عنده مصالح "الجبهة الشامية " و"السلطان مراد"، يتضمن الرغبة بفرض أمر واقع على باقي الفصائل وإجبارها على الإقرار بقيادة جديدة.
تجمع عسكري مواز لـ "عزم" ورافض للهيمنة
بالتوازي مع تشكيل غرفة القيادة الموحدة، خاضت فرقة المعتصم محادثات موسعة مع فصائل عديدة للاندماج ضمن فصيل جديد، مستفيدة من حالة تحريك المياه الراكدة الحاصلة نتيجة إعلان "عزم"، بالإضافة إلى وجود حالة رفض لما بدى "محاولة هيمنة" للجبهة الشامية على القرار، كونها تملك الثقل العسكري الأكبر والموارد الاقتصادية.
وبحسب مصادر خاصة لموقع "تلفزيون سوريا"، فقد وصلت فرقة " المعتصم" و "فيلق الرحمن" و "الفرقة 20" إلى تفاهم أولي على الاندماج الكامل ضمن تشكيل جديد يقدر عدد عناصره بأكثر من 5500 مقاتل، وينتشر في مناطق: عفرين – مارع – تل أبيض – رأس العين.
ومع طرح المشروع الجديد قررت الفصائل المتوجسة من قيادة "الجبهة الشامية" لـ "عزم" إعلان مغادرتها لها في الثالث والعشرين من آب/ أغسطس، وانحيازها للتحالف مع التشكيل الجديد الذي لا يزال النقاش حول الإعلان عنه مستمراً، مما أدى إلى توترات والتلويح من قبل الفصائل التي تقود "عزم" باستخدام الخيار العسكري ضد المغادرين وهم: فرقة الحمزة – لواء الشمال – فرقة السلطان سليمان شاه.
بالمقابل فإن الواقع الأمني وضرورة الحفاظ على تماسك خطوط التماس مع كل من "قسد" والميليشيات الإيرانية، دفع الجيش التركي مؤخراً لتنظيم تشكيلات عسكرية من فصائل "الجيش الوطني" ذاته، مهمتها الانتشار على خطوط التماس من منطقة "عفرين" وصولاً إلى "جرابلس" شرق حلب، وهذه خطوة من شأنها أن تخفض من الاعتماد على بعض الفصائل التي حققت نجاحات سابقاً في الحشد العسكري، خاصة أن احتمالية تحويل هذه التشكيلات المنوط بها ضبط خطوط التماس إلى ألوية عسكرية تتلقى التسليح بشكل مباشر.
ومن الواضح أن الظروف التي أبرزت واقع الجيش الوطني طيلة السنوات الماضية، باتجاه التبدل وبلورة حالة جديدة فيها توازنات مختلفة عن المرحلة السابقة، ويبدو أن تلك التبدلات ليست محل اعتراض تركي، بل قد تلبي مصالح أنقرة، من ناحية إبراز استقلالية مجدداً للمكونات السورية، ستكون مفيدة في حال رغب الجيش التركي بدعم عمليات عسكرية من الخلف لا تحوز على توافقات مع الأطراف الدولية، وأيضاً قد يكون هذا المشهد مرغوباً في ناحية تجنيب أنقرة تبعات سياسية ناتجة عن أي انتهاكات للجماعات السورية.