أدى سوء الأوضاع الاقتصادية في مناطق سيطرة النظام السوري إلى زيادة نسبة عمالة الأطفال وتسربهم من المدارس بشكل كبير جداً، رغم إلزامية التعليم حتى الصف التاسع الإعدادي في سوريا.
وتنتشر عمالة الأطفال في دمشق وريفها بشكل كبير، خصوصاً في صفوف المهجرين والنازحين من المدن والقرى المدمرة.
وزادت نسبة عمالة الأطفال مع الغياب الكامل للرقابة وانتشار الفساد في مناطق سيطرة النظام، حيث يكثر تشغيل الأطفال في مجالات الزراعة وغسيل وتصليح السيارات والحلاقة وورش الخياطة وتوصيل الطلبات، وغيرها.
وتكمن مشكلة عمالة الأطفال، أنه يتم استغلالهم اقتصادياً عبر دفع أجور زهيدة لهم ويعملون لساعات طويلة، إلى جانب أنهم يدخلون سوق العمل بوقت مبكر جداً ما قد يعرضهم لصدمات اجتماعية ونفسية تؤثر عليهم لبقية حياتهم.
عمالة بأجور زهيدة
ورصد موقع "تلفزيون سوريا" الكثير من العمال الأطفال في دمشق، ومعظمهم لا تتجاوز يومياتهم الـ 20 ألف ليرة، وهذا المبلغ قد لا يكفي ثمن وجبة صحية واحدة مع أجرة طريق.
وفي سوق الهال تجد الكثير من عمالة الأطفال، الذين يعملون بصف الخضرة والفاكهة في الصناديق والكراتين، أو بتحميلها من السيارات الكبيرة إلى المحال.
ورغم أن السوق من المفترض أن يخضع للرقابة المباشرة باعتباره سوقاً مفتوحاً على عكس الورش التي يمكن ألا تكون مكشوفة، إلا أن المئات من الأطفال ينتشرون في سوق الخضرة والجملة بالزبلطاني في دمشق.
وقال حسان (13 عاماً) إنه يعمل مع عمه في العتالة بسوق الخضرة، ويقوم بتحميل سيارة صغيرة مقابل 6 آلاف ليرة، والسيارة الأكبر مقابل 8 آلاف ليرة، وتصل يوميته لـ 20 ألف ليرة.
وأضاف حسان في حديث لموقع تلفزيون سوريا، أن دخل عائلته لا يكفي ثمن الطعام وإيجار البيت لأجل ذلك يعمل في الصيف، وفي الشتاء بدوام جزئي من أجل الدراسة.
وأردف أنه يحب الدراسة ويريد الاستمرار، إلا أن ذلك قد يكون صعباً مع زيادة الغلاء، خصوصاً أن ما يحصله يدفع منه أجرة طريق وسندويشة فلافل، أما الباقي فيكون لعائلته.
أطفال كبار
من جانبه، قال أحمد (14 عاماً) العامل في مجال تصليح السيارات، إنه يعمل في الورشة منذ الساعة العاشرة صباحاً وحتى السادسة عصراً ولديه عطلة يوم الجمعة فقط.
وأضاف لموقع "تلفزيون سوريا"، أن مصلحة المكانيكي دائماً شغالة، وبطلع شي 22 ألف يومياً غير البقشيش من أصحاب السيارات، وصاحب الورشة منيح معي وبحبني.
ورغم أن جسم أحمد صغير مقارنة بعمره إلا أن حديثه يوحي بشخص بالغ وكبير، وهذا ما يحصل مع الكثير من العاملين الأطفال يكبرون بسرعة قبل أوانهم.
وبخصوص ترك الدراسة قال أحمد، "أنا ما كنت كتير شاطر عادي يعني، بس ما بكره الدراسة، نحنا بالأساس مهجرين من دير الزور، انقتل أبي وأمي عم تشتغل لتعطمينا أنا وأخواتي بس ما عاد يكفي لهيك عم اشتغل وساعد".
ولفت قائلاً: "صرلي بالشغل قريب من السنة وبلشت اتعلم المصلحة، والحمد لله من هون لسنة تانية بصير شبه معلم وبيتحسن راتبي، وخلص ببلش من هون".
أما عبد الرحيم، فهو طفل يبيع المناديل والماء قرب إشارة مرور بدمشق، وهي مهنة أقرب للتسول منها إلى البيع، خصوصاً أن الكثير من الناس لا يأخذون منه البضاعة ويعطونه أموالاً في مقابلها.
وفي ملابس رثة ورائحة كريهة تصدر منه، حاول موقع "تلفزيون سوريا" أن يسأله عن أهله ومن يشغله، إلا أنه رفض الحديث وأخذ أغراضه ومشى.
ويبدو أن والده هو من يشغله لأننا التقينا فيه مرة أخرى بصحبة رجل تركه قرب إشارة مرور بحي البرامكة بدمشق وكان يراقبه من بعيد.
تسرب من المدارس
وقالت ميساء الشيخ أمين، المرشدة الاجتماعية بإحدى مدارس دمشق، إن تسرب الأطفال من المدارس بات أمراً شائعاً في سوريا، حتى إن الأهل لم يعودوا يلزموا أطفالهم بضرورة الدوام.
وأضافت في حديث مع موقع "تلفزيون سوريا" أن الكثير من المدارس لا تخبر الجهات الرسمية بتسرب الطلبة بسبب عدد الطلاب الكبير أصلاً الموجود في الصفوف، ما يجعل تسرب قسم من الطلاب أمر مرغوب به.
وأشارت الشيخ أمين إلى أن بعض الأهالي يطلبون من إدارات المدارس لمس الأعذار لغياب الأطفال وعدم فصلهم رغم التغيب الطويل بحجة أن الوضع المادي لا يسمح وأنهم يحاولون استدراك الأمر لعودتهم لمقاعد الدراسة.
وأكّدت أن هناك أهلاً يخرجون أبناءهم من المدارس ما بين 10 إلى 16 عاماً دون التفكير بخطورة تفشي الأمية في سوريا من أجل أن يعملوا لتأمين لقمة العيش، وسط استغلال من يشغلهم بأنهم عمالة رخيصة.
واعتبرت الشيخ أمين، أن ما يجري في سوريا هو كارثة بخصوص عمالة الأطفال، لأنهم وإن كانوا يتعلمون مهناً لأجل مستقبلهم إلا أن الكثير منهم يخرج من دون أن يتعلم القراءة والكتابة جيداً أحياناً، الخروج من المدرسة قبل صف التاسع هو كارثي بكل المقاييس ويدخل الأطفال في سوق عمل صعب ومجهد من دون عوائد مالية كافية بالأساس.
في سوريا لا يوجد عمالة أطفال إيجابية
من جانبه، قال عمار شريف طالب جامعي بتخصص علم نفس، إن عمالة الأطفال من الأشياء التي ندرسها في الجامعة، خصوصاً التأثيرات النفسية على شخصيته وسلوكه مع صغر سنه.
وأضاف شريف لموقع "تلفزيون سوريا" أن الطب النفسي في أهم جامعات العالم، جعل الطب النفسي للأطفال اختصاصاً منفصلاً عن الطب النفسي العادي، لما فيه من تفاصيل وتشعبات تستحق الدراسة والعناية.
وأوضح أن سوريا فيها من المشكلات النفسية المترتبة عن الحرب والأزمات الاقتصادية خلال العقد الماضي ما يكفي، ولكن ما يجري على الأطفال هو نوع آخر قد ينتج عنه أمراض نفسية أخرى، وإن كانت عمالة الأطفال تصنف ضمن الإيجابي والسلبي، وليست جميعها سلبية.
ولفت إلى أنه قد تكون ظروف العمل للطفل جيدة إن كانت تتناسب مع عمره وطاقته وإمكانياته ويتعلم من خلالها الاعتماد على نفسه ويتعرف على قيمة المال وصعوبة تحصيله ويشتري بتلك الأموال احتياجاته الخاصة كطفل.
أما في سوريا بالغالب كل الجوانب هي سلبية، فمعظم الأعمال هي صعبة وتهدد سلامة الطفل وصحته ورفاهيته، ويستغل من خلال أجره وساعات عمله، بحسب شريف.
وأشار إلى أن هناك تأثيراً على طباع الطفل وجعله عدوانياً؛ حيث يميل إلى العنف ضد المجتمع نتيجة الإحساس بالقهر المجتمعي.
قانون يشرع عمالة الأطفال
وفي منتصف أغسطس 2021، أصدر رئيس النظام بشار الأسد قانون "حقوق الطفل" من دون أن ينص على عقوبة تعاقب تشغيل الأطفال تحت السن القانونية، ما زاد من نسب انتشار عمالة الأطفال.
وكان الأرقام الرسمية لاتحاد نقابات العمال في سوريا (يتبع للنظام) قد أكّد في تقارير سابقة له، أن 65 في المئة من العاملين في مجال الزراعة في سوريا هم من الأطفال.
وبحسب القانون الجديد، تطول العقوبة بحسب الفقرة "ب" من يستغل الطفل اقتصادياً أو في أداء أي عمل يرجح أن يكون خطيراً بحسب المادة 36 من القانون.
وتطول العقوبة صاحب العمل أيضا إذا مثّل تشغيل الطفل عائقاً لتعليمه، أو تسبب بضرر على صحته، أو على نموه البدني أو العقلي أو الروحي أو المعنوي أو الاجتماعي.
وتجاهل القانون الفقرة "أ" من المادة 36 والتي تحظر تشغيل الطفل الذي لم يتم الخامسة عشرة من عمره.
ويحظر القانون "استغلال الطفل اقتصادياً أو في أداء أي عمل يرجح أن يكون خطيراً، أو يمثل عائقاً لتعليم الطفل، أو أن يكون ضارّاً بصحته، أو بنموه البدني أو العقلي أو الروحي أو المعنوي أو الاجتماعي".
كما يحظر "تكليف الطفل بالعمل ساعات إضافية، مهما كانت الأسباب، وإبقاءه في مكان العمل بعد المواعيد المقررة له، ولا يجوز تشغيله ليلاً وفي أيام الراحة الأسبوعية والعطل الرسمية والأعياد بما يتوافق مع القوانين ذات الصلة".
ورغم أن سوريا موقعة على اتفاقية حقوق الطفل التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1989، من أجل حمايتهم من الاستغلال الاقتصادي، ومن الأعمال التي تهدد صحتهم، أو تؤثر على نموهم؛ فضلاً عن إلزام الدول الأعضاء بوضع حد أدنى لسن العمل، إلا أن النظام لا يطبق ذلك بشكل فعلي والقانون المحلي لا يراعي أجزاء كبيرة من الاتفاقية، خصوصاً مع انتشار آلاف الأطفال العاملين في شوارع المدن والمحافظات السورية خارج مدارسهم.