تكرر مشهد حالات الانتحار بشكل ملحوظ خلال الأشهر الأخيرة في مناطق ريفي إدلب وحلب شمال غربي سوريا، حيث اختلفت هذه الفترة عن سابقاتها بالنسبة لازدياد عدد من ينهون حياتهم بأنفسهم، من الجنسين، وكذلك من يحاولون الانتحار ويفشلون في ذلك.
ووثق فريق "منسقو الاستجابة" عدد حالات الانتحار المسجلة في مناطق شمال غربي سوريا منذ بداية العام الجاري وحتى شهر آب الحالي بـ 59 حالة من بينها 17 محاولة انتحار باءت بالفشل، وهي نسبة كبيرة مقارنة بالأعوام الثلاثة الماضية، مرجعة السبب في تزايد حالات الانتحار إلى المعاناة الاقتصادية والفقر وغياب فرص العمل وقلة التوعية حول مخاطر الانتحار وما يخلفه من أثار سلبية على المحيط القريب للشخص والمجتمع بشكل عام على مدار سنوات.
الشاب (إبراهيم محمود) المنحدر من قرية بداما بريف إدلب والذي أطلق النار على رأسه يوم الإثنين (22 من آب الجاري) لأسباب مجهولة، يعدّ آخر حادثة انتحار شهدتها مناطق الشمال السوري الواقعة تحت سيطرة فصائل المعارضة حتى لحظة إعداد التقرير، كما سجلت حالة انتحار لامرأة نازحة من إحدى قرى جبل الزاوية بريف إدلب منتصف شهر تموز الماضي من خلال تناولها "فوسفيد الألمنيوم" أو ما يعرف محليا بـ "حبة الغاز" السامة بسبب زواج زوجها من امرأة أخرى.
تتنوع أسباب وأساليب الانتحار من ضحية لأخرى، والعامل المشترك بينهم هو الموت وقلة الوعي وعدم التفكير بمن حولهم وما يتسببون به من دمار عائلي ومجتمعي، بالإضافة لاحتمالية تشجيعهم للآخرين ممن يفكرون بالطريقة نفسها أو يعيشون في ظروف مشابهة دون النظر لأبعاد المشكلة وخطورتها، فالانتحار يعد ثالث سبب للوفاة عند الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و19 عاماً وفقاً لإحصائيات منظمة الصحة العالمية.
أم تقرر الانتحار مع أطفالها الثلاثة
عزمت السيدة "خديجة" (36 عاماً) –الاسم مستعار- النازحة من ريف حماة الغربي إلى مخيمات أطمة على الحدود السورية التركية على إنهاء حياتها وحياة أطفالها الثلاثة بعد التردد مراراً بإقدامها على تلك الخطوة، ولكنه الخيار الوحيد الذي بات متاحاً أمامها بعد تعرضها لمواقف وأزمات عصيبة على حد تعبيرها.
لم تكن خديجة تعلم بأن مصيراً مأساوياً لهذا الحد في انتظارها وأبنائها بعد نزوحها من قريتها وانتهاء المطاف بها إلى خيمة مهترئة ومعاناتها طوال سنوات نزوحها، حيث لا أحد يعينها على حمل أعباء أطفالها وتأمين أبسط مقومات الحياة لهم من مأكل وملبس ودراسة بعد تخلي زوجها عنهم وانصرافه لزوجته الثانية وأطفالها، فالظروف المادية السيئة دفعتها للعمل في الأراضي الزراعية طوال النهار وبأجور زهيدة بالإضافة لاضطرارها عدم إرسال بكرها ذي العشرة أعوام إلى المدرسة والالتزام برعاية إخوته الأصغر منه رغم صغر سنه، في حين يضطر أحياناً أثناء مرض والدته للعمل بجمع النايلون أو بأحد محال الخضار لتأمين قوت يومهم.
الفقر وقلة الحيلة والضغوط النفسية... جميع هذه الأسباب حولت شخصية خديجة لامرأة أخرى تضرب أطفالها وتقسو عليهم وتبكي وتشعر بالندم بعد ذلك، ما دفعها للتفكير بالانتحار بحبوب الغاز السامة التي أحضرتها من إحدى الصيدليات، إلا أن الحظ كان حليفها هذه المرة، فقد تمت دعوتها في الوقت المناسب من قبل إحدى المراكز الطبية التي تقدم خدمات الدعم النفسي لحضور جلسة توعوية وخلال الجلسة التي كان محورها عن مخاطر الانتحار، انهارت خديجة بالبكاء الأمر الذي استدعى تدخلاً فرديا لحالتها، حيث جاء هذا التدخل بالوقت المناسب وتمت متابعة حالتها لأشهر عديدة حتى تمكنت من الخروج من أزمتها النفسية والمادية بحسب ما حدثتنا به (جميلة صبيح) مقدمة الرعاية النفسية العاملة في منظمة "إحياء الأمل".
الحالة التي مرت بها خديجة ليست حالة نادرة، بل هناك الكثيرات ممن يفكرن بالانتحار أو حاولن ذلك حقاً، فالضغوط النفسية التراكمية من صدمات واضطرابات نفسية أو ذهنيه حادة كذلك المشكلات الأسرية ومشكلات الطلاق من أشيع الأسباب التي قد تدفع الرجال والنساء للإقدام على الانتحار كما لاحظه المتخصصون النفسيون في العيادات النفسية في مناطق شمال غربي إدلب.
ارتفاع عدد المراجعين للعيادات النفسية
تزايدت أعداد المراجعين لمشفى الأمراض النفسية والعقلية في مدينة سرمدا خلال الأشهر الثلاثة الفائتة مقارنة مع الأشهر السابقة لتبلغ الذروة منذ بداية العام، حيث وصل عدد الحالات التي تفاوتت ما بين خطر وشيك ومن لديهم أفكار نشطة ومحاولات لإنهاء حياتهم إلى 82 حالة أكثرها من النساء بنسبة 44 حالة من الإناث مقابل 33 للذكور، بحسب ما ذكره (علاء العلي) المتخصص النفسي في وحدة الأمراض العقلية لـ موقع تلفزيون سوريا.
ووفقا للمختص، فإن أعمار من استقبلهم المشفى تتراوح بين 16 عاماً و39 عاماً، وكانت حبة الغاز من أكثر الوسائل المستخدمة في عمليات الانتحار لسهولة الحصول عليها وتأتي بعدها الوسائل الحادة والطلق الناري من سلاح.
وعن آلية الاستجابة والتدابير الوقائية المتخذة للحد من ظاهرة الانتحار، يشير المتخصص إلى أنه تم إطلاق حملات توعوية مركزة من ضمنها حملة "لا يعتبر حلاً" التي سلطت الضوء على ضرورة الابتعاد عن أساليب الانتحار على اعتبار أن الانتحار ليس الحل المناسب، كما كان هناك توعية من خلال الزيارات المنزلية والميدانية التي تعمل على الكشف ورصد الحالات وتحويلها إلى وحدة الصحة النفسية والعقلية الموجودة ضمن أكبر تجمع للنازحين في المناطق المحررة والتي تستقبل بدورها الحالات النفسية الحادة التي تتطلب تدخلات دوائية أو المكوث في المركز لفترة معينة لحين الوصول بالشخص لمرحلة التعافي.
وحذر المختص من أن هناك علامات تحذيرية يجب على الوالدين التحرك في حال ملاحظتها على أحد الأفراد الذين يفكرون بالانتحار وضرورة الانتباه لتلك الإشارات كالتحدث من قبل أحدهم عن الرغبة في الموت أو الانتحار أو التحدث عن الوحدة وعدم وجود سبب للعيش أو الانطواء والانسحاب من بين الأصدقاء والعائلة وكذلك المخاطرة الكبيرة التي قد تؤدي إلى الوفاة مثل القيادة المتهورة.
وعلى الرغم من سعي منظمات المجتمع المدني العاملة شمال غرب سوريا للحد من الآثار النفسية وظاهرة الانتحار إلا أن الكثافة السكانية الكبيرة في المنطقة ووجود فجوة كبيرة من حيث أعداد الكوادر الصحية النفسية المتخصصة لتقديم الخدمات تحول دون الوصول لحلول جذرية لمعالجة المشكلة، وتبقى الوسيلة المساعدة للحد من ظاهرة الانتحار وضبطها هو تسليط الضوء بشكل أكبر من قبل وسائل الإعلام وعدم إظهار حوادث الانتحار كغيرها من الأخبار العادية التي يتم تناقلها بين المواقع الإخبارية يومياً.