قبل عقد من الزمان، اجتمع أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني والبالغ عددهم 200 عضو ونيف في بيكين وذلك في الجلسة العامة الثالثة، وهي عبارة عن اجتماع يعقد كل خمس سنوات لمناقشة وضع الاقتصاد، وتعهد المؤتمرون في ذلك الاجتماع بمنح الأسواق، لا الدولة، دوراً حاسماً في تخصيص الموارد وتوزيعها. غير أن فشل الرئيس الصيني شي جين بينغ الذي وصل إلى سدة الرئاسة في عام 2012 في الالتزام بذلك يفسر خيبة الأمل التي مني بها الاقتصاد الصيني خلال السنوات العشر الماضية.
غير أن الأزمة المباشرة للاقتصاد الصيني مختلفة تماماً، وذلك لأن المشكلة التي ظهرت هذا العام ليست مشكلة سببها مبالغة الدولة في لعبها لدور حاسم على حساب دور السوق، بل إن أقسى صعوبة تكمن في أنه لم يعد للسوق ولا للدولة أي دور حاسم في تحريك الموارد أو توزيعها.
ولذلك فقد المستهلك الثقة، وأبدى تردداً حيال الإنفاق أو الاستثمار، وفضل بدلاً عنهما تكديس أمواله في إيداعات مصرفية، كما أبدى قلقه حيال شراء العقارات التي كانت من الدعائم الأساسية للاقتصاد في وقت من الأوقات. وهذا ما صعّب على شركات التطوير العقاري من أمثال شركة Evergrande الخروج من حالة الإفلاس.
قيود سياسية وأيديولوجية
إلى جانب الانكماش في حجم الصادرات، تسبب هذا التردد الذي أبداه المستهلك بتراجع حالة تعافي الاقتصاد بعد جائحة كورونا، إذ كشفت البيانات التي نشرت حول الفترة ما بين شهري أيار وآب والتي تغطي الإنتاج الصناعي، والمبيعات بالتجزئة والصادرات، وغيرها من الأمور، بأنها كلها كانت أقل من التوقعات بكثير، كما تزامن تباطؤ النمو الاقتصادي مع انخفاض للأسعار.
ردت الحكومة الصينية على حالات انكماش مماثلة حدثت في السابق بطريقة قوية، إذ عندما ضربت الأزمة المالية العالمية الصين في عام 2008، أطلق قادة الصين العنان لحالة الإسراف في الإقراض والإنفاق وهذا ما أعاد النمو الاقتصادي لمساره بسرعة، في الوقت الذي بقي فيه العالم يتعثر. ولكن في مواجهة حالة التباطؤ الاقتصادي خلال هذا العام، أبدت الحكومة الصينية تردداً وخجلاً كالذي أبداه المستهلك الصيني، بيد أن تردد الصين يفضح بعض القيود السياسية والأيديولوجية التي أصبحت اليوم تمنع الصين وتعيق مساعيها في مجال تحفيز اقتصادها ودفعه نحو الأمام.
بالنسبة لمعظم اقتصادات العالم، يعتبر البنك المركزي أول من يقدم الإسعافات الأولية عندما يعتري الاقتصاد أي بطء، غير أن السلطات النقدية في الصين خفضت سعر الفائدة في حزيران الماضي، إلا أن هذا التخفيض لم يكن كبيراً، إذ خفض سعر الفائدة لسبعة أيام بنسبة 0.1 نقطة، وأتى بعد ذلك تخفيض آخر بالحجم نفسه في شهر آب (في الوقت الذي رفعت فيه معظم الدول الغربية سعر الفائدة نتيجة تخوفها من التضخم، ولكن يبدو أن الصين لا تعاني من هذه المشكلة).
يبدي المسؤولون في الصين، كنظرائهم في دول صاعدة أخرى، قلقاً إزاء أي تخفيض كبير في أسعار الفائدة لأن ذلك من شأنه أن يقوض الثقة في العملة ولابد أن يقلل من أرباح المصارف. ولكن ثمة عنصر آخر يصب في هذا القيد المفروض، وهو أن النظام السياسي في الصين لا يفتح أي مجال أمام الموظفين النشيطين والجسورين العاملين في المصرف المركزي، وذلك لوجود قائد أوحد للبلد وهو الرئيس شي، ولذلك حتى تحافظ الصين على استقلاليتها، ينبغي على العاملين في المصرف المركزي الصيني أن يخطوا كل خطوة بحذر شديد.
تقع مسؤولية الاقتصاد في الصين عادة على الرجل الثاني في البلد، أي رئيس الوزراء، ولهذا فإن كل من شغلوا هذا المنصب في السابق كانوا يتمتعون بالذكاء والنفوذ اللازمين لدرء أي كارثة ولإنعاش النمو الاقتصادي، إذ عندما هزت الأزمة المالية في آسيا الصين عام 1998، أخذ زهو رونغجي يرفع المعنويات وذلك عندما تعهد بإبقاء النمو الاقتصادي بحدود 8%، ومقارنة به، يمكن القول بأن رئيس الوزراء الحالي، أي لي تشانغ ضعيف للغاية، إذ بعد وصوله إلى هذا المنصب في آذار الماضي، أصبح يدين بوصوله لمنصبه للرئيس شي، غير أن إحاطته حول السعي لحماية حالة الرخاء في البلد ماتزال مهمة، لكنها تأتي من حيث الأهمية بعد حماية الأمن بحسب التعريف الواسع لهذا المصطلح. وعلى الرغم من أن لي شخصية مثقفة وتتمتع بحيوية كبيرة، فإنه ما يزال يعتبر مجلس الدولة (أي الحكومة) الجهة الوحيدة المنفذة لأفكار الحزب، بدلاً من أن يكون مصدراً لها، وذلك بحسب رأي الأستاذ وو غوغوانغ من جامعة ستانفورد.
أزمة العقارات
لعل سوق العقارات الذي ازدهر خلال فترة من الفترات أصبح مصدر القلق الأكبر، بعدما شهد حالة ركود منذ أواسط عام 2021، وذلك عندما أثرت عليه سلباً القيود التنظيمية التي فرضت على حالة الافراط في الاقتراض من قبل شركات التطوير العقاري، وهذا ما جعل شركة Evergrande ومثيلاتها تتخلف عن السداد. بيد أن هذه القيود لم تكن مجرد قيود تكنوقراطية، بل كانت جزءاً من حملة شرسة شبه أيديولوجية تلخصت بشعار رفعه الرئيس الصيني وهو: "البيوت للسكن وليست للمضاربة".
حققت تلك الحملة نجاحاً منقطع النظير، فتراجعت مبيعات الشقق السكنية خلال شهر آب بنسبة 47% عن الحد الذي بلغته في آب من عام 2019، وإلى أن يستقر السوق، سيبقى الاقتصاد ضعيفاً، غير أنه من الصعب إعادة ضبط حملة أيديولوجية جديدة، ولذلك خفف المشرعون من حدة التعريف الذي يحدد من هو الشخص الذي يشتري بيتاً للمرة الأولى، وهذا ما أتاح لمزيد من الناس الاستفادة من شروط أسهل للرهن العقاري. كما خفضوا الدفعة النقدية الأولى التي يتعين على الشخص دفعها، فيما قامت بعض المدن الصينية برفع القيود المفروضة على أسعار الشقق السكنية، وبذلك أسقط المكتب السياسي في الصين الذي يضم 24 عضواً ويسهم في وضع سياسة البلد، شعار الرئيس الصيني في البيان الذي أصدره خلال شهر تموز الماضي.
غير أن الرئيس الصيني وأعوانه لن يعترفوا بسهولة بأن هذه الحملة تجاوزت حدها في الشطط، كما لا يمكنهم أن يعلنوا عن شعار بديل بصوت عال بوسعه أن يحشد السوق دون أن يثير ذلك استغراب الناس، ولهذا مايزال تأثير الحملة باقياً في مشاعر الناس ووجدانهم، إذ في 22 من أيلول الماضي، أعلنت شركة Evergrande بأن المبيعات المخيبة للآمال أجبرتها على إرجاء خطة إعادة جدولة الديون. كما علق تداول أسهم الشركة في 28 أيلول بعدما كشفت صحيفة بلومبيرغ أن رئيس هذه المجموعة، واسمه هوي كا يان، يخضع لمراقبة من قبل جهاز الشرطة، وهذا الرجل صاحب الصلات المتينة بالسلطة في الصين هو من تسبب بتعثر حظوظ الشركة، ويعتبر المفتاح لتعافيها، بيد أن كل ذلك لن يعيد الثقة في قدرة شركات تطوير عقاري أخرى منيت هي أيضاً بضائقة مالية على البقاء في السوق.
لا مساعدات مباشرة للناس
لم يترأس المسؤولون في بكين بل السلطات المحلية الجهود التي نجحت في تحفيز الاقتصاد الصيني عام 2008، وعند وصول الرئيس شي إلى الحكم، كانت التجاوزات قد طغت على نجاحات هذا النموذج، إذ أخذت السلطات المحلية تتنافس مع بعضها على الترويج لحالة نمو ضمن قيود مالية خانقة فرضتها الحكومة المركزية، لذا فإن حالة التحفيز تسببت باختلال التوازن السياسي الدقيق في البلد، وهكذا صارت السلطات المحلية تقترض الكثير من الأموال خارج الميزانية العمومية عن طريق شركات للتمويل، فحررت نفسها من القيود المالية، وسمح لها ذلك بارتكاب مزيد من الأخطاء التي كلفتها الكثير، إلا أنها تمسكت برغبتها بالاقتراض، وبذلك أصبحت تلك الشركات الآن مدينة بنحو 60 تريليون يوان (أي ما يربو عن 8 تريليونات دولار) بحسب ما أعلنه مصرف غولدمان ساتشز.
قرر الرئيس الصيني إبقاء الحكومات المحلية تحت قيود مالية أشد صرامة، فأصبح وضعها لا يسمح بقيادة جولة أخرى من التحفيز للاقتصاد، بل صار بوسع الحكومة المركزية أن تقوم بذلك بنفسها عوضاً عن الحكومات المحلية، ولهذا اقترح بعض الخبراء في الاقتصاد على الحكومة المركزية تقديم قسائم استهلاكية أو معونات للفقراء، ولكن يبدو بأن الدولة ترفض مساعدة الأسر بشكل مباشر.
قد يعبر ذلك عن الرأي القائل بأن الوسائل البديلة عن تعزيز الاقتصاد، مثل الاستثمار العام أو تخفيض الضرائب، بوسعها أن تصيب عصفورين بحجر واحد، إذ إنها تشجع على الطلب كما تحسن العرض في مجال الاقتصاد، وذلك عبر بناء بنية تحتية أو التشجيع على الأعمال الريادية. كما أن عدم إبداء أي حماسة تجاه تقديم معونات قد يعبر عن كره الرئيس شي شخصياً لحالة الرفاهية التي حذر منها لأنها تصل بالمرء إلى الكسل والركود.
بداية الانتعاش
خلال الأسابيع القليلة الماضية، بدأت الحكومة الصينية بالرد بقوة أكبر على حالة تباطؤ الاقتصاد، وذلك عبر تمديد الإعفاء الضريبي بحق الأشخاص الذين يبيعون بيوتهم القديمة من أجل شراء بيوت أفضل منها، كما تحدثت الحكومة عن تجديد ما يعرف بالقرى التي تحولت إلى مدن، وهي عبارة عن أراض زراعية ابتلعتها المدن الكبرى في الصين عندما توسعت خارج حدودها، وخلال شهر آب فقط، أصدرت الحكومة المركزية والحكومات المحلية فيما بينها سندات وصلت قيمتها لنحو 1.2 تريليون يوان (ما يعادل 165 مليار دولار)، أي ما يفوق ضعفي متوسط القيمة التي تم إصدارها خلال الأشهر السبعة الأولى من هذا العام.
يبدو أن الاقتصاد الصيني قد وصل إلى أدنى مستوياته وهو الآن يعاود الصعود مجدداً، فقد ارتفعت نسبة الصادرات خلال شهر آب عما كانت عليه قبل شهر، وتحسن النمو في عمليات البيع بالتجزئة وكذلك الأمر بالنسبة للإنتاج الصناعي، وتوقفت أسعار السلع الاستهلاكية عن التدهور، كما أظهرت البيانات الاقتصادية عن الصين أن اقتصاد البلد قد تجاوز خلال المرحلة الأخيرة التوقعات التي تنبأت بتراجعه.
ولرفع تلك التوقعات، بوسع الرئيس الصيني أن يسخّر الجلسة التالية من اجتماع الحزب الشيوعي لمراجعة فلسفة الاقتصاد في البلد وتوضيح جوانبها، كما بوسعه أن يتعهد بإيلاء أهمية أكبر للسوق على حساب الدولة، وللازدهار على حساب الأمن، وللانفتاح على حساب التشدد. وفي تلك الأثناء، لابد لحاشيته أن تتخبط وأن تسودها حالة تشوش كبيرة.
المصدر: The Economist