يعتقد كثيرون - وتدعم ذلك بعض الوقائع - أن الروس يعملون منذ سنوات، وتحديداً منذ تدخلهم العسكري في سوريا، على تقليص السطوة الإيرانية في سوريا من الناحية العسكرية بدرجة أساسية، والناحية السياسية بدرجة أقل، وصولاً إلى تحجيم الدور الإيراني في سوريا، من مُحتل لدولة إلى حليف لنظامها.
وفق المعطيات، الشحيحة عموماً، والتخمينية في غالبها، فقد قاد الروس هذا التوجّه لسببين أساسيين، أولهما رغبة الكرملين بأن يكون وحده من يهيمن على القرار السوري، العسكري والسياسي، واللاعب الكبير الوحيد فيها، وثانيهما أن هذا التوجّه يُرضي واشنطن وتل أبيب، اللتين لا تريدان دوراً كبيراً لإيران في سوريا، وخاصة عسكرياً.
كل هذا يدخل سياسياً ضمن باب التخمين والتحليل والاستنتاج والاستقراء للوضع وللمصالح وللتوازنات لكل اللاعبين في سوريا، لكن المؤكد، وبالوقائع والبراهين هذه المرة، أن الجهود الروسية لم ولن تُفلح، فإيران الأخطبوط البراغماتي، التي لا تحترم ممنوعات ولا ترى خطوطاً حمراء أمام مشروعها الإمبراطوري، لن يُفلح معها ما يذهب إليه الروس.
تستمر إيران بالتغلغل في المجتمع السوري، وفي تشييع البشر وشراء الولاءات المذهبية، وفي تجنيس مواليها بالجنسية السورية
ولأنها براغماتية، وتميل مع العاصفة، لجأت إيران إلى خطط موازية لاستمرار هيمنتها على سوريا، دولة وشعباً ومقدرات، وبدلاً من المضي قدماً في الوجود العسكري الكثيف، واصلت ما كانت قد بدأته قبل عقدين، اختراق الدولة السورية عبر الاقتصاد، واختراق المجتمع السوري عبر التشيّع والتغيير الديموغرافي، وهما أداتان لا تقلان خطورة عن التدخل العسكري الذي كانت تقوم به عبر عشرات الميليشيات الطائفية المنفلتة.
تستمر إيران بالتغلغل في المجتمع السوري، وفي تشييع البشر وشراء الولاءات المذهبية، وفي تجنيس مواليها بالجنسية السورية، وفي توزيع الأموال لشراء قبول البسطاء والمحتاجين لها، وفي إنشاء المؤسسات التعليمية المدرسية والجامعية، والمكتبات والمراكز البحثية، ومنح البعثات الدراسية والمساعدات الطبية، وغيرها الكثير من أساليب الاستحواذ على رضا المجتمع بهدف تغيير بنيته الفكرية والعقائدية، والمذهبية لاحقاً.
تستمر إيران كذلك في شراء العقارات في دمشق القديمة وغيرها من المدن، وفي إنشاء المصانع واستثمار معامل للدولة بأسعار رمزية وتفضيلية، وتضع استثمارات بالملايين في كل المجالات الاقتصادية، طويلة الأمد وقصيرة الأمد - الاستراتيجية منها خصوصاً- بمساعدة وتسهيل استثنائي من النظام السوري وإدارات الدولة التي يتحكم بها.
هاتان السياستان الإيرانيتان، التغلغل المجتمعي، والهيمنة الاقتصادية، لهما خطر أشد وطأة وأكثر خطورة من التدخل العسكري، وهو ما تغضّ روسيا الطرف عنه، أو لا تراه بتلك الخطورة، أو تعتقد أنها عسكرياً قادرة على إسكات الأخطار الأخرى المجتمعية والاقتصادية متى أرادت، أو لربما لم تستطع إيجاد الوسيلة والحيلة لمقاومة مثل هذا الاحتلال الناعم من قبل إيران لسوريا.
الحامل الفارسي للتغلغل الإيراني في سوريا واضح ولا لبس فيه، وغض الطرف الروسي عن الهيمنة المجتمعية والاقتصادية لإيران يُقلق، والتحالف العضوي بين إيران والنظام قوي وصعب الكسر، والأساليب الإيرانية للهيمنة ستجرّ سوريا لمخاطر تفوق أخطار الحرب العسكرية ونتائجها الكارثية، لأنها أخطار مستدامة ومتنامية وغير ملموسة باليد ويصعب عكس نتائجها.
منذ انطلاق الثورة السورية، استخدم الإيرانيون علناً أسلوب التحريض الطائفي المذهبي ليُفسّروا تدخلهم في سوريا
يشنّ قادة إيران حرب وجود قومية عبر بوابة الشرق الأوسط، ويستخدمون من أجل ذلك الأذرع الناعمة، والصراعات المذهبية، وزرع الفتن، والتغلغل بالمجتمعات، وتغيير الديموغرافيا، وتخريب الهويات الوطنية، والهيمنة الاقتصادية، رغبة منهم بأن يكونوا أسياداً في الشرق، أصحاب كلمة مسموعة دولياً، ولا يوفّرون وسيلة لتحقيق ذلك، ونجحوا في أسلوب التغلغل المجتمعي، وأمثلة العراق ولبنان وسوريا ماثلة أمام أعيننا.
منذ انطلاق الثورة السورية، استخدم الإيرانيون علناً أسلوب التحريض الطائفي المذهبي ليُفسّروا تدخلهم في سوريا، وحربهم إلى جانب النظام السوري، وقد استخدموا هذا الأسلوب رغم فجاجته وخطورته، ليغطّوا على أهداف أسمى وأعلى درجة وأهم بالنسبة لهم، أهداف تتعلق بالإمبراطورية القومية الفارسية بالدرجة الأولى، وهذه الأهداف، لا تستطيع روسيا ولا غيرها تغييرها، وحده تغيير النظام الإيراني إلى نظام دولة حضاري ديمقراطي والخروج من نظام ولاية الفقيه هو الكفيل بتغيير هذه الأهداف.