على الرغم من الإصرار الإيراني على معادلة "وحدة الجبهات" أو "الساحات" فإن مسار الحرب على غزة والتصعيد الإسرائيلي المدعوم أميركياً، والضغط الأميركي الذي دفع إيران إلى التنصل والتبرؤ من كل ما يجري أو ما يقوم به حلفاؤها في المنطقة من العراق، إلى سوريا فلبنان وصولاً لليمن، أرسى معادلة أميركية جديدة قوامها تفكيك الجبهات الإيرانية. وهو ما يثبت قدرة الولايات المتحدة الأميركية الدائمة على تغيير موازين ومسارات. فالتصعيد الأميركي جعل إيران تتراجع ليس في كل تلك الساحات فقط بل حتى في فلسطين، وتحديداً في قطاع غزة بدءاً من اعتبار أن حركة حماس هي التي اتخذت القرار وحدها، وصولاً إلى كلام وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان حول ضرورة الذهاب إلى حل سياسي، ودعوته إلى "الطرفين" بضرورة عدم التعويل على المسار العسكري.
من اللافت أن يصدر مثل هذا الموقف عن مسؤول ايراني، إذ لطالما خوّنت إيران الدول العربية وحتى منظمة التحرير الفلسطينية وكل من كان يراهن على حلول بالاستناد إلى المفاوضات أو المسارات السياسية. لكن إيران التي تريد تجنّب أي حرب أو تصعيد، هي تعلم أن أي موقف لها داعم بالمعنى الفعلي والعسكري لحماس وغزة سيكون له تداعيات تشكل خطراً على المستوى العسكري، وعلى ديمومة النظام الذي قال الخامنئي إن الهدف الأساسي هو حمايته والحفاظ عليه. كل ذلك يشير الى أن إيران أصبحت في مرحلة ما بعد التخلي عن غزة وعن المقاومة الفلسطينية بالمعنى الفعلي، والاحتفاظ بالمسار الكلامي أو اللفظي الداعم لفلسطين.
أصبحت غزة وفلسطين ككل قضية عربية في حين إيران تجد نفسها بعيدة عنها، وهي تراهن على الوقت لمرور الأزمة والوصول إلى حلّ مقابل تقليل أكبر قدر من الخسائر عليها وعلى حلفائها
ما أنتج هذا الموقف الإيراني هو الخوف على الخسارة في حال تطورت الأمور عسكرياً في أكثر من جبهة، فهي لا تريد أن تخسر في العراق ولا سوريا ولا لبنان، في حين تترك مسار الحوثيين مفتوحاً في البحر الأحمر بحثاً عن نفوذ هناك واعتراف به، أما في لبنان فإن عمليات حزب الله تبقى في إطار مضبوط أيضاً للقدرة على التفاوض لاحقاً وللقول إن لديها قوة ومخالب قادرة على غرزها عندما تقتضي الحاجة. أصبحت غزة وفلسطين ككل قضية عربية في حين إيران تجد نفسها بعيدة عنها، وهي تراهن على الوقت لمرور الأزمة والوصول إلى حلّ مقابل تقليل أكبر قدر من الخسائر عليها وعلى حلفائها. ولذلك ألزمت حلفاءها في العراق بوقف العمليات ضد المصالح الأميركية في العراق وسوريا، وتبحث دوماً مع حزب الله في ضبط الجبهة الجنوبية للبنان ومنع توسعها، لتجنب الحرب الواسعة وهذا ما نوقش أيضاً في لقاء عقد مؤخراً بين أمين عام حزب الله حسن نصر الله وقائد فيلق القدس إسماعيل قاآني.
نتنياهو يسعى إلى إطالة أمد الحرب إلى أن يحين موعد الانتخابات الأميركية، ويريد لهذه الحرب التي تخوضها إسرائيل أن تكون عنصراً مقرراً في الانتخابات الأميركية
لكن تراجع إيران عن معادلة توحيد الجبهات، وسعيها إلى تجنب الحرب ضد حلفائها أو ضدها بشكل مباشر هو الذي دفعها إلى التخلي عن غزة التي تركت وحيدة. ولكن أبرز ما تكتشفه إيران هو عدم قدرتها على تسيير المفاوضات مع الولايات المتحدة كما تشتهي، فهي كانت قد طلبت وقف استهداف الحوثيين في اليمن، ووقف الاغتيالات في العراق، والضغط على إسرائيل لوقف الاغتيالات بصفوف كوادر ومسؤولي حزب الله في لبنان، لكن واشنطن لم تلتزم بأي من هذه الشروط والمطالب وأصرت على التصعيد الذي دفع طهران للانكفاء أكثر. حالياً، تراهن إيران على وقف إطلاق النار في غزة، أو على إنجاز الهدنة وتمديدها لتجنب أي احتمال من احتمالات التصعيد لاحقاً.
في المقابل، هناك إصرار إسرائيلي على المضي في التصعيد بغزة وحتى في الضفة الغربية، لا سيما أن نتنياهو يسعى إلى إطالة أمد الحرب إلى أن يحين موعد الانتخابات الأميركية، ويريد لهذه الحرب التي تخوضها إسرائيل أن تكون عنصراً مقرراً في الانتخابات الأميركية فيستخدمها ضد جو بايدن لصالح دونالد ترامب، هذا يبقي كل احتمالات التصعيد مفتوحة خصوصاً أن شهية نتنياهو ستكون مفتوحة على تنفيذ ضربات خارج فلسطين ضد إيران وحلفائها، وهو ما سيبقي المنطقة متأرجحة بين حالة الحرب واللاحرب، وفي سنة الانتخابات لا يمكن لأميركا أن تذهب إلى أي اتفاقات دولية أو إقليمية، فلا يمكن لإيران التوقع بالذهاب إلى اتفاق مع الولايات المتحدة. ما يهم طهران في هذه المرحلة أن لا يلجأ نتنياهو إلى الانتقال من غزة إلى ساحات أخرى.