"السيارة تحتاج إلى هيكل ومحرّك وعجلة قيادة وغيرها. وإن كنت تسألني هل صنعتم كل ذلك؟ فسوف أجيب نعم، ولكن لكلٍّ من تلك القطع غايتها المحددة والخاصة". الاقتباس السابق كان ما أدلى به علي أكبر صالحي رئيس منظمة الطاقة الذريّة الإيرانية قبل أيام، خلال مقابلة وهو يجيب على السؤال الأهم والذي يشغل بال قادة العالم "هل صنعتم القنبلة النووية؟".
لم يكن صالحي وزير الخارجية السابق والمقرب من المرشد الأعلى هو المسؤول الإيراني الوحيد الذي نوّه إلى أن إيران قادرة على صنع القنبلة النووية بإمكانياتها الحالية، وأن قرار رفع التخصيب إلى 90 بالمئة إنما يعود إلى المسؤولين (خامنئي حصراً). فقد ردّد قادة إيرانيون آخرون خلال أكثر من مناسبة، بأن تصنيع القنبلة الذريّة ممكن، لكنه ليس على أجندة طهران بناءً على فتوى خامنئي. طبعاً يعلم الجميع أن الفتوى لن تشكّل عائقاً، فهي قابلة للإلغاء متى كان الظرف مناسباً.
في الثاني من شهر شباط/ فبراير 2024 الحالي، نشر موقع إيران إنترناشيونال "Iran International" المعارض تقريراً يتعرض لتوقيع "مجموعة الأزمات الدولية" اتفاقاً عام 2016، مع "مركز الدراسات السياسية والدولية" التابع لوزارة الخارجية الإيرانية. يبدو من الوثائق التي حصل عليها الموقع، أنه بالإضافة إلى محادثات جرت بين المجموعة وخبراء شاركوا في المفاوضات النووية بين مجموعة "5+1" والجانب الإيراني، فإن محللي المجموعة روّجوا لمواقف الحكومة الإيرانية المتعارضة مع وجهات النظر الغربية والأميركية خصوصاً.
للوهلة الأولى لن يبدو الاتفاق غريباً فهو يدخل في صلب عمل المجموعة حسب المعلن من أهدافها. لكن ما يثير الشك هو إبقاء الاتفاق سرّياً إلى أن كشفه التحقيق حديثاً
مجموعة الأزمات الدولية "International Crisis Group" تعرف عن نفسها بأنها منظمة غير حكومية تسعى لمنع حدوث النزاعات الدموية حول العالم، بما تقدمه من تحليلات ميدانية وتقديم المشورة للحكومات والمنظمات الدولية. الهدف من تأسيسها إيجاد منظمة مستقلة تماماً عن نفوذ الحكومات. رغم أنها تتلقى تمويلها من عدد من الحكومات الغربية والمنظمات الخيرية ومن أفراد مستقلين ومنظمات خاصة. من أشهر داعميها الملياردير الكرواتى ناتل سيموفيتش والملياردير اليهودي المعروف جورج سوروس.
للوهلة الأولى لن يبدو الاتفاق غريباً فهو يدخل في صلب عمل المجموعة حسب المعلن من أهدافها. لكن ما يثير الشك هو إبقاء الاتفاق سرّياً إلى أن كشفه التحقيق حديثاً، إضافة إلى أن "مركز الدراسات السياسية والدولية" الإيراني مقاطع من جميع المراكز البحثية الغربية. كان المركز نظّم عام 2006 مؤتمراً دولياً عن الهولوكوست، وواجه إثر ذلك ردود فعل شديدة بسبب دعوته للمشككين في المحرقة النازية. إثر المؤتمر قطع أكثر من 50 معهداً بحثياً أوروبياً وأميركياً، ومن ضمنهم "مجموعة الأزمات الدولية" علاقتها مع المركز وجاء في بيان مشترك لتلك المعاهد "فقد مركز الدراسات السياسية والدولية الإيراني مكانته كشريك مقبول بسبب التواطؤ مع منكري المحرقة".
يوضح باتريك كلاوسون مدير قسم الأبحاث في معهد واشنطن للشرق الأدنى "المشكلة الرئيسة هنا هي أنه إذا كان هناك اتفاق بين مركزي أبحاث، فإنهما عادةً يعلنان هذا الاتفاق، وإذا لم يفعلا ذلك، فالأمر يبعث على الريبة". ويضيف مشككاً "إن الاتفاق هنا، ليس علاقة مع منظمة غير حكومية، بل علاقة مع مؤسسة بحثية حكومية". من بين كل المؤسسات الغربية التي قطعت علاقتها بالمركز، مجموعة الأزمات الدولية، إِضافة لمعهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام، هما فقط من أعادا النظر في قرارهما السابق ووقعا اتفاقية تعاون جديدة مع المركز.
كانت تقارير سابقة لموقع إنترناشيونال إيران قد أشارت إلى أن أكثر من 10 محللين إيرانيين يعملون في مؤسسات بحثية غربية، بمن فيهم علي واعظ ودينا أسفندياري العاملان حالياً في مجموعة الأزمات. جميع هؤلاء كانوا ضمن شبكة نفوذ أسستها وتوجهها الخارجية الإيرانية. وبينت التقارير أن مركز الدراسات هو من تولى تأسيس الشبكة، وربط أعضاءها بعمله تحت عنوان "مشروع خبراء إيران" بهدف زيادة النفوذ الإيراني على الساحة الدولية. وبينت وثائق رسمية لوزارة الخارجية الإيرانية إضافة إلى مذكرات وزير الخارجية الإيراني الأسبق محمد جواد ظريف كيف استفادت طهران من أعضاء الشبكة لتعزيز ديبلوماسيتها النووية.
في شهر تموز/ يوليو 2023، تم منح إجازة إجبارية لروبرت مالي مبعوث الرئيس الأميركي للشؤون الإيرانية، كما تم تعليق تصريحه الأمني إثر التحقيق حول أدائه، دون أن يعلن صراحة حتى الآن عن الأسباب الحقيقية لهذه الخطوة، ولو أنه تمت الإشارة لإساءة استخدامه لمعلومات سرّية. عمل روبرت مالي على فترات في الحكومة الأميركية خلال العقد الماضي، وشغل خلالها مناصب حسّاسة، وخلال تلك الفترة عمل أيضاً في مجموعة الأزمات الدولية. يظهر تحقيق "إيران إنترناشيونال" أن ثلاثة محللين خبراء في الشأن الإيراني عملوا معه بشكل وثيق، كانوا ضمن شبكة الخبراء الإيرانيين التابعة للخارجية الإيرانية.
إثر التقرير المنشور، طالب ثلاثة مشرعين أميركيين وزارة العدل بالتحقيق مع مجموعة الأزمات، مشددين على أن القوانين الأميركية تهدف إلى منع المنظمات العامة من خدمة مصالح قوة أجنبية سرّاً "للحدّ من قدرة العملاء الأجانب للترويج للدعاية من الأنظمة المعادية". ختم المشرعون رسالتهم بالقول "مجموعة الأزمات لم تكن منظمة مستقلة، بل الناطق الرئيسي للنظام الإيراني في الولايات المتحدة. وبالنظر إلى هذه الأدلة، فإننا نحثكم على بدء التحقيق لحماية بلادنا من النفوذ الأجنبي الخبيث".
اليوم، سواء كانت إيران على وشك تصنيع قنبلة نووية حسب بعض مسؤوليها، أم أن برنامجها لأهداف سلمية بحتة لإنتاج الطاقة، حسب زعم مسؤولين إيرانيين آخرين، فإن سياسة إدارة بايدن المتراخية تجاه المشروع النووي الإيراني تغري المتشددين الإيرانيين على المضي قدماً إلى أهدافهم بالتسليح النووي. وهذا ما يجعل إيران في وضع مريح من أجل تقليص فترة "الهروب النووي".
حرص الغرب خلال الاتفاق النووي الملغى مع إيران على أن تكون فترة الهروب النووي عاماً كاملاً على الأقل، وسعى خبراء مجموعة الأزمات الدولية في تلك الفترة، أن تكون بحدود أربعة أشهر فقط لكنهم فشلوا
مفهوم الهروب النووي يشير إلى مقدار الوقت الذي تستغرقه دولة تطمح للحصول على السلاح الذرّي من أجل تحضير المواد النووية ومستلزماتها لصنع القنبلة خارج رقابة الوكالات الدولية، متهربةً من التزامها بمعاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، قبل أن يتم التمكّن من إيقافها عبر الضغوط العسكرية أو الديبلوماسية. حرص الغرب خلال الاتفاق النووي الملغى مع إيران على أن تكون فترة الهروب النووي عاماً كاملاً على الأقل، وسعى خبراء مجموعة الأزمات الدولية في تلك الفترة، أن تكون بحدود أربعة أشهر فقط لكنهم فشلوا. بينما تتناقض التقديرات اليوم بين عدة أشهر وأحياناً عدة أسابيع لتلك الفترة، طبعاً إن غيّر صاحب القرار الإيراني فتواه وأعطى شارة البدء للتنفيذ.
قبل أكثر من عقد، كتبتُ عبارةً لسبب مختلف وفي موضوع وسياق مختلف، لكنها تلحّ عليّ في ختام هذه المادة، فأجد من المناسب اليوم تكرارها حول تعامل الغرب المتردد مع الموضوع النووي الإيراني: التبَصُّر في اللحظة الخطأ، هو تقريباً الزمن المناسب للرصاصة كي تغادر فوهة البندقية باتجاه الرأس.