في خريف عام 2009 سيتقدم مهندس زراعي ومعه آخرون من قرية "حاصور" في ريف حمص الغربي، بشكوى إلى مديرية الأوقاف في المدينة. تفيد الشكوى بأن مختار القرية يستقبل على نحو متكرر شيخاً عراقي الجنسية قادماً من إحدى حوزات دمشق، مبعوثاً من قبل "شفقت شيرازي" مشرف تلك الحوزة. وفي الشكوى أن هذا الشيخ قد حوّل مزار القرية إلى حسينية يقيم فيها دروساً دينية، ويقدم مبالغ مالية لمن يحضرون تلك الدروس كمكافآت شهرية. وكذا يفعل مع أطفال القرية، فيمنح مبلغ 25 ليرة سورية لكل طفل يحضر تلك الدروس. سيختم أصحاب الطلب من المديرية حل الخلاف الناشئ بينهم وبين المختار، وإلا فإنهم سيلجؤون إلى عميد في المخابرات العسكرية هو من أبناء القرية.
مديرية الأوقاف بالتأكيد أقل شأناً من التدخل في مثل هكذا خلافات تنطوي على حساسية أمنية، بحسب العرف السوري في ظل نظام الأسد، وكان أن انتقل الأمر إلى فرع الأمن العسكري الذي حقق بالواقعة، وتبين له أن مختار القرية وعدداً من أقربائه تحولوا إلى المذهب الشيعي، وأنهم على تواصل دائم مع الحوزة بدمشق. وأن المعمم العراقي قد توقف عن القدوم للقرية بعد نشوب الخلاف. وتأكد للفرع قيام مختار القرية عدنان عيسى بدعوة شباب القرية للتشيّع مقابل مبالغ مالية "بحجة أن المذهب الشيعي والعلوي متقاربان جداً من حيث محبة علي بن أبي طالب"، وإن الخلاف قد تجدد بين مجموعة من "المثقفين" في القرية ومختارها وأقاربه حول موضوع الحسينية. قام الأمن العسكري باستدعاء وجهاء القرية إلى الفرع، ومن ضمنهم المختار وطلبت من الجميع التهدئة، والأهم أنه طلب من الحوزة نقل نشاطاتها من قرية حاصور إلى قرى أخرى.
سوريا التي تتدخل فيها الجهات الأمنية بكل حركة مهما بدت أهلية أو دينية. والأهم أن الأمر هنا يتعلق بما كانت تقوم به إيران في سوريا منذ سنوات طويلة
ما سبق كان خلاصة تقرير وصل إليه الفرع 318 "فرع أمن الدولة في حمص" الذي حولت إليه مديرية الأوقاف الشكوى وجاءها منه هذا الرد. وبمصادفة رافقت ثورة السوريين وانشقاق بعضهم وصل التقرير المذكور لي. سيبدو أنه من الوجاهة أن يتقدم المعترضون على شأن يخص الناحية الدينية والمذهبية بشكواهم إلى مديرية الأوقاف كجهة اختصاص، لولا أن الأمر لا يحدث في سوريا أبداً على هذا النحو. سوريا التي تتدخل فيها الجهات الأمنية بكل حركة مهما بدت أهلية أو دينية. والأهم أن الأمر هنا يتعلق بما كانت تقوم به إيران في سوريا منذ سنوات طويلة.
في كتابه " البعث الشيعي في سوريا" يورد الباحث الدكتور عبد الرحمن الحاج عشرات الوثائق التي تؤكد متابعة ومراقبة الجهات الأمنية وسيطرتها على التمدد الإيراني في سوريا عبر التشييع، وأن ما من تحركات على هذا المستوى إلا وكانت بموافقة السلطات السورية. والأمر يمتد لأيام الأسد الأب خصوصاً مع إنشاء جمعية الإمام المرتضى التي أسسها جميل الأسد، والتي حظيت بتمويل إيراني. سنلاحظ في نهاية توصيات الجهات الأمنية في واقعة "حاصور" أنها لا تطلب من الحوزة وقف نشاطها، وإنما فقط الابتعاد عن حاصور والانتقال إلى قرى أخرى.
كان هذا عام 2009 وكانت استثمارات إيران في سوريا بهذه الحدود، ولكن كيف تحوّل الاستثمار الإيراني في سوريا بعد عام 2011؟ ليس هناك من أرقام دقيقة معلنة عما خسرته إيران في تمويل الأسد مباشرة أو عبر تمويل الميليشيات التي جندتها للقتال إلى جانب نظام الأسد، بعد انكشاف أن ما تقوم به إيران في سوريا ليس فعلاً تبشيرياً بقدر ما هو استثمار سياسي بهدف السيطرة. ومع ذلك يمكننا التخمين بأن تلك الاستثمارات بالحروب الخارجية في سوريا إلى جانب تمويلات حزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن والميليشيات التابعة لها في العراق قد أوصلت الاقتصاد الإيراني إلى حافة الهاوية، في بلد كل مقوماته الاقتصادية تقتضي أن يكون من بين الدول الأكثر ثراء في العالم. وقد أشارت المظاهرات في إيران في أكثر من مناسبة إلى هذا الأمر. التمويل الذي يدفع فيه المواطنون في تلك البلدان من دمهم، لن ينجو منه الإيرانيون، وهو يشكل نزيفاً اقتصادياً دائماً يدفع ثمنه المواطن الإيراني تلبية للأحلام الإمبراطورية.
عام 2018 سيصرح "طالب صفوي" مستشار المرشد الأعلى بأن إيران سوف توقع مع الأسد صفقات ليس فقط سياسية وإنما اقتصادية
يدافع البعض من ذوي الرؤوس الحامية في طهران عن هذه التدخلات باعتبارها استثماراً في المستقبل، حتى على الصعيد الاقتصادي. عام 2018 سيصرح "طالب صفوي" مستشار المرشد الأعلى بأن إيران سوف توقع مع الأسد صفقات ليس فقط سياسية وإنما اقتصادية، لاسترجاع النفقات والتكاليف التي تكبّدتها في سوريا، كما فعلت روسيا، ومن خلال عقود طويلة الأجل. صحيح أن تصريح صفوي جاء بمواجهة الاحتجاجات الشعبية على التدخل والخسائر في سوريا، بل وحتى على ملاحظات بعض ممن هم في فلك خامنئي الذين يحتجون على الخسائر الإيرانية في سوريا، إلا أن ذلك ما كان قد بدأ يحدث بالفعل على أكثر من صعيد في قطاعات الاقتصاد السوري المنهار أصلاً، ومع ذلك لم تفتر لحظة المحاولات الروسية والإيرانية لتناهبه. أما بالنسبة للأسد فلا شيء ولا رادع يمنع ذلك فللحلفاء ما شاؤوا فقط شريطة وعدهم له بأنهم لن يتخلوا عنه، في رهانه على الزمن للحفاظ على سلطته يومياً إضافياً.
نجا أهالي "حاصور" من أحابيل الحوزة، وبقوا على مذهبهم، وبعضهم حاربوا في السنوات التالية بجانب الإيرانيين كتفاً إلى كتف، محيّدين الخلاف المذهبي والقومي الذي لن يعني أي شيء في مضمار البراغماتية السياسية، ولهم في الأسد أسوة وقدوة.