وقفت حفيظة حمدي في وسط غرفة الفندق الذي تقيم فيه بليندين ونظرت إلى السريرين والحمام والمطبخ الصغير الذي يشتمل على غاز برأسين من دون فرن أو طاولة سفرة.
إنها تستمتع بالطهي، بيد أن عيد الشكر خارج حساباتها هذا العام، لأن لديها كثيراً من الأمور التي تشغل بالها، كما أنها لا تستطيع أن تطهو الطعام لضيوفها أو أن تستضيف أي أحد في غرفة الفندق حسبما ذكرت عندما قالت: "أين سأطبخ؟ ليس هنالك فرن! ثم علي أن أدّخر مالي"
حفيظة امرأة سورية وصلت إلى الولايات المتحدة قبل سنوات خمس، فكانت هي وولداها اللذان يبلغ أحدهما من العمر 8 أعوام والثاني 10 أعوام، من بين 33 أسرة لاجئة وصلت إلى الولايات المتحدة لتبدأ حياة جديدة، ولكنها اجتثت جذورها من جديد، فنزحت مرة أخرى من مجمع سكني في منطقة إليزابيث بعدما تعرض لأضرار كبيرة من جراء فيضان لم تشهد البلاد له مثيلاً والذي أتى عقب إعصار إيدا. وقد عثرت بعض تلك الأسر على سكن أو انتقلت إلى شقق في أتلانتيك سيتي وليكوود، إلا أن الخوف من المجهول يلوح في الأفق بالنسبة لمن ظلوا في تلك المنطقة.
ومع اقتراب عيد الشكر، أعلنت تلك الأسر أنها لا تعرف إلى متى بوسعها أن تبقى في الفندق، أو إلى أين ستمضي لتعيش بعد ذلك، إذ بالنسبة للأسر اللاجئة التي أسست حياة جديدة لها في هذه المنطقة، وذلك عبر العثور على عمل والتسجيل في المدرسة وتكوين علاقات صداقة في تلك المنطقة، أصبحت فكرة الاجتثاث من الجذور مجدداً تسيطر عليهم.
وحول ذلك تخبرنا حفيظة، وهي أمّ عزباء تبلغ من العمر 33 عاماً فتقول: "الوضع صعب للغاية، إذ عليّ أن أنتظر اتصالاً من شخص معيّن ليأخذني إلى بيت جديد؛ لذا لا أعرف ماذا أقول هنا، لأنني أنتظر كل شيء".
يعتبر فندق وودسبرينغ سويتس في ليندين ثالث فندق تقيم فيه حفيظة مع ولديها منذ أن شرّدهم الفيضان في الأول من أيلول الماضي وأجبرهم على النزوح من شقتهم. كان الشهر الأول أسوأ شهر بالنسبة لهم، حيث أمضوه بين فندقين ولم يتمكن ولداها من الذهاب إلى المدرسة حينئذ.
قدّمت مدرسة مقاطعة إليزابيث للطفلين جهازين للتعلم عبر الشابكة، بيد أن الطفلين انزعجا من فكرة البقاء حبيسَين داخل غرفة في فندق بعيداً عن أصدقائهما ومعلميهما.
وتخبرنا حفيظة عن وضعهما فتقول: "إنهما غاضبان وعصبيان طوال الوقت، ويقولان لي: متى سنذهب إلى المدرسة؟ متى؟ متى؟ كما بكى محمود كثيراً من أجل المدرسة".
ولكن اليوم أصبحت حافلة تأتي إلى الفندق لتأخذ الطفلين اللذين تشردا بسبب الفيضانات إلى مدرستهما.
مكان للنوم
عندما تحدث محمود البالغ من العمر 10 أعوام عن عطلة عيد الشكر التي سمع عنها من المدرسة، ذكر الأمور التي يشعر بالامتنان من أجلها، فكانت أولى الأمور التي ذكرها مدرسته وغرفة الفندق التي يعيش فيها، بالرغم من أنها أصغر من شقتهما المؤلفة من غرفتي نوم في مقاطعة إليزابيث والمزودة بمرآب.
أصبح هذا الفتى الذي يدرس الصف الرابع يرتاد المدرسة في ملحق لا يوجد فيه ملعب، إلا أن الوقت المفضل لديه في النهار ما يزال في فترة الاستراحة حيث بوسعه أن يتمشى حول القسم المخصص لركن السيارات وأن يتحدث إلى أصدقائه الذين ذكرهم بالاسم، بعدما قال: "إنني ممتن لأن لدي مكان أنام فيه. أحبّ المدرسة، لا أعرف لماذا، فأنا أحب الذهاب إليها بكل بساطة".
يحلم هذا الصبي باللعب مع فريق لكرة القدم، وبأن يصبح ضابط شرطة في يوم من الأيام، ثم يتذكر لقاءه بضابط شرطة قوي البنية أصلع الرأس في منطقة باترسون، والذي أصبح يبجّله منذ ذلك الحين.
أما شقيقته فرح البالغة من العمر ثمانية أعوام فقد تحدثت بحماسة عن المدرسة وهي تقفز إلى السرير وتتناول عدة ملاعق من شوكولا نوتيلا التي تعشقها. ثم ذكرت أنها ممتنة لوالدتها ولوجود مكان تقيم فيه.
طلب من حفيظة أن تجد سكناً يحقق شروط الإيجار المخصصة لها أو أن تقبل بأن تقوم جمعية إدارة الطوارئ الفيدرالية بنقلها إلى مكان جديد، فعثرت تلك الجمعية على شقة لها في أتلانتيك سيتي، لكنها رفضت أن تبتعد كثيراً عن منطقتها، كونها تعمل في مكان قريب، ولا تملك سيارة لتنقل متعلقاتها إلى هناك. فقد اشترت سيارة تويوتا مستعملة بمبلغ 6700 دولار قبل ثلاثة أشهر من وقوع الفيضان، لكن العاصفة دمّرتها ولم تغطّ التأمينات تلك الخسائر. كانت حفيظة بحاجة لسيارة تقلّها إلى عملها بما أنها تعمل في تنظيف متجر كبير ولتساعدها في عملها بمجال تعهدات الأطعمة السورية وكسائقة لتوصيل طلبات الطعام لدى أوبر. وتعمل هذه المرأة أيضاً في مجال تصفيف الشعر حيث تجرّب صبغ الشعر بألوان حديثة وعصرية، وتزاول هذه المهنة في بيتها.
أخبرتنا حفيظة بأنها انفصلت عن زوجها الذي كان يسيء معاملتها، وأخذت تربّي ولديها بمفردها، إلا أن حياتها لم تخل من المصاعب، فقد حرمت من مساعدة الضمان الاجتماعي الشهرية التي تعادل 400 دولار لأنها لم تكن تدري بأن عليها أن تعلمهم بتغيير عنوانها عندما غادرت مقاطعة إليزابيث.
بيد أن أسرتها لم تكن الوحيدة التي عاشت تلك الصعوبات، إذ خلال الفيضانات المدمرة التي تسبب بها إعصار إيدا في الأول من أيلول، توفي ثلاثون شخصاً من سكان نيوجرسي، بينهم أربعة يعيشون في مجمع أوكوود بلازا السكني. وبالمجمل تعرضت 1022 شقة تعتمد على المساعدة من الحكومة الفيدرالية لأضرار جسيمة، فتشردت أكثر من 800 أسرة بسبب ذلك.
ولهذا راسلت مؤسسة مخططات الاستثمار الاجتماعية التي تمتلك ذلك المجتمع السكني الأهالي في شهر تشرين الأول وأخطرتهم بعدم قدرتهم على العودة إلى شققهم في مجمع أوكوود بلازا على مدى ستة أشهر على الأقل. إلا أن المؤسسة المالكة للبناء وبلدية مدينة إليزابيث التي ظلت تساعد اللاجئين وتدفع عنهم أجور الإقامة في الفنادق، لم تردا عندما طلب منهما التعليق على الموضوع.
في حين ذكرت أولغا آلفاريز وهي الناطقة باسم وزارة الإسكان وتطوير المدن الأميركية بأن الأسر خيّرت بين الانتقال بشكل مؤقت إلى شقق تدعمها الوزارة أو العودة إلى مجمع أوكوود بلازا بعد انتهاء عمليات الترميم.
"ليس بوسعنا القيام بأي شيء"
إن مأساة اللاجئين هنا معقدة ومتشعبة؛ لأنهم اجتثوا من جذورهم في وطنهم الأم بسبب الحرب، ثم هربوا إلى دول الجوار، وأسسوا حياة جديدة لهم في الولايات المتحدة، بيد أن كل ذلك انقلب رأساً على عقب بسبب غضب الطبيعة، ومن بين هؤلاء اللاجئين أشخاص أتوا من العراق وأريتريا وهاييتي وأفغانستان.
يحس بعضٌ منهم بإنهاك سببه الصدمة، ويتمثل ذلك بشعور بالاستسلام بعدما تعرض المرء لكثير من المتاعب. تتضمن تلك المتاعب بالنسبة لحفيظة هروبها من حلب برفقة أسرتها بعد اندلاع الحرب في سوريا وسقوط قذيفتين على مشفى موجود في الشارع الذي تسكن فيه. ما اضطر أسرتها للهرب إلى تركيا، وبعد إجراء مقابلة طويلة والخضوع لعملية تدقيق، تم قبولها هي وأسرتها للسفر إلى الولايات المتحدة.
لميس الحموي سورية نزحت من مجمع أوكوود بلازا وتعيش في الفندق ذاته، بعدما هربت من لظى الحرب، لكنها حزينة لأنها تعيش بعيداً عن ثلاثة من أولادها البالغ عددهم أربعة، والذين يتوزعون ما بين مصر وسوريا والسويد، من دون أن يتمكنوا من اللحاق بها في الولايات المتحدة، وعن تجربتها تقول: "تعرضنا لكثير من الأمور حتى الآن، ولهذا بدا الأمر شيئاً بسيطاً، إذ حتى الإعصار الذي وقع ما هو إلا شيء من الله، ليس بوسعنا القيام بأي شيء حياله".
كما أنها لا ترغب بالانتقال إلى مكان بعيد؛ لأن زوجها محمد يعاني من اعتلال في القلب، ولديه مواعيد دورية مع الأطباء في المنطقة. أما ابنتها شهد وهي طالبة في المدرسة الثانوية، فترغب في إتمام برنامج العلوم الصحية الذي التحقت به والتخرج برفقة صديقاتها، كونها تطمح أن تصبح طبيبة أعصاب يوماً ما.
تستمع لميس بإعداد الحلويات السورية والتواصل مع صديقاتها في مجمع أوكوود بلازا، ولكن بما أنها أصبحت بلا بيت، فليست لديها أية خطط من أجل عيد الشكر هذه السنة، ذلك التقليد الذي صارت تحتفل به مع صديقاتها منذ فترة قريبة، وعن ذلك تقول من غرفتها التي تشتمل على جهاز أوكسجين وسلة من الأدوية وقدرين: "أين أضع صديقاتي؟ على السرير؟ لا يوجد مكان لهم".
ثم إن الأسر التي انتقلت إلى ساوث جيرسي ما تزال بحاجة للمساعدة، بحسب ما ذكرته سوزي إسماعيل وهي المديرة المؤسسة لمنظمة التدخل الأساسي في الزواج والأسرة وهي عبارة عن مركز استشاري ديني يقدم برنامجاً خاصاً للاجئين. وتخبرنا تلك المديرة بأن اللاجئين بحاجة لأثاث وللوازم منزلية ولمساعدة مالية، إلا أنه من الصعب جمع تبرعات لهذا الغرض، وذلك لأن معظم المنظمات التي تقوم بمساعدة اللاجئين ترزح تحت وطأة مساعدتها لعدد كبير من اللاجئين الأفغان الذين تم إخراجهم من بلادهم ونقلهم إلى الولايات المتحدة خلال الصيف الماضي، بعدما أنهت إدارة بايدن 20 عاماً من الحرب هناك.
تختص المنظمة التي تديرها سوزي بالصحة والعافية على المستوى النفسي والعقلي والجسدي أي أنها ليست مؤسسة تقدم خدمات اجتماعية، ومع ذلك حاولت أن تساعد "لأننا شعرنا بأنهم يتخبطون ويبحثون في كل اتجاه" بحسب ما ذكرت سوزي التي تابعت قائلة: "إننا نحاول أن نجمع تبرعات قطع الأثاث ونبحث عمن يمكنه أن يدفع إيجار الشاحنات وعن متطوعين يقومون بنقل قطع الأثاث إلى هناك. بيد أننا نشعر بمحدودية ما بوسعنا أن نقدمه ولهذا نحس بعجزنا بشكل كبير".
إن اللاجئين الذين تتعامل معهم سوزي يكررون عبارة: "إن شاء الله" كثيراً ليدللوا على ثقتهم بالله وصبرهم حتى في أحلك الظروف، ولكن عندما يعدمون كل وسيلة، ينتابهم القلق والإحباط والنزق، وهنا يأتي دور سوزي التي تحاول أن ترفع من معنوياتهم، إذ خلال هذا الأسبوع تقوم المؤسسة التي تديرها سوزي بتقديم أطباق ديك رومي مشوية مع الوجبات المرافقة لأكثر من 130 أسرة معظمها لاجئة تتوزع في مختلف أرجاء الولاية وذلك خلال الفترة الواقعة ما بين 23-30 من شهر تشرين الثاني.
وتعلق سوزي على ذلك بقولها: "إن جلّ تركيزنا واهتمامنا وكذلك مفهوم عيد الشكر ينصبّ على الأسرة وعلى العائلة وعلى الإحساس بالامتنان، إذ بالرغم من كل المتاعب التي تعرضت لها تلك العائلات، ما تزال كل أسرة تعيش مع سائر أفرادها".
المصدر: نورث جيرسي