اللغة العربيّة هي اللغة الأمّ لأكثر من مئتين وستّين مليون عربيّ، واللغة الثانية لملايين المسلمين في أنحاء العالم، والثالثة من حيث الانتشار؛ أسهم الإسلام والقرآن الكريم تحديداً بجعلها لغة مقدّسة لدى عامّة المسلمين، فأصبحت ركناً من أركان التنوّع الثقافيّ للبشريّة.
وشكّلت اللغة العربيّة أداة لكتابة العلوم لما يزيد على عشرة قرون، وبحروفها وكلماتها تمّ تأليف أمّهات الكتب والمؤلّفات والمراجع العلميّة الضخمة؛ ففيها ألّف أبو بكر الرازيّ كتابه الشهير "الحاوي في الطبّ" وفيها كذلك ألّف ابن الهيثم كتابه العظيم”البصريّات” وهنا لابدّ من الإشارة إلى أنّ ابن الهيثم هو الذي وضع الأساسيّات في علم البصريّات والتي أسهمت في صناعة الكاميرا، وقد أطلق عليها اسم ”القُمْرة” والتي تعني الحجرة المظلمة ومنها اشتُقّ مصطلح الكاميرا في الإنكليزيّة.
اللغة العربيّة بحروف أجنبيّة
لسنا هنا بصدد تعداد العلماء العرب الذين كتبوا وألّفوا في ميادين العلوم كافّة وإنّما لنقول إنّ العربيّة أسهمت في إثراء الحضارة الإنسانيّة بمختلف العلوم، وكان لها التأثير البارز في لغات العالم الأخرى.
فقد تأثّرت اللغة الألمانيّة بالثقافة العربيّة خلال العصور الوسطى؛ وضمّت ما بين 100 إلى 400 كلمة في قاموسها وفق العالم الألمانيّ أندرياس أنغار مؤلّف كتاب ”من الجبر إلى السكّر” حيث أوضح في كتابه أنّ تبوّء المسلمين مكانة متقدّمة في جميع المجالات العلميّة في القرون الوسطى بهرت الغرب المسيحيّ ودفعه إلى استيراد المنتجات الزراعيّة والتقنيّة وأسماء النباتات والأعشاب إضافة إلى النظريّات العلميّة التي طوّرها العرب.
ويؤكّد أندرياس في كتابه على ضرورة ألّا ينسى الألمان أنّ الجذور العربيّة تمثّل جزءاً، ولو كان صغيراً، في الثقافة الألمانيّة. ومن الكلمات العربيّة الموجودة في اللغة الألمانيّة على سبيل المثال: سكّر zucker، قهوة، كحول، جبر.
هذا ولم تكن الإنكليزيّة بعيدة عن التأثّر باللغة العربيّة؛ فتشير التقديرات إلى وجود 10 آلاف كلمة إنكليزيّة هي في الأصل عربيّة وفق موقع اللغات ”ماذر تونغ” لكنّ قاموس أكسفورد الإنكليزيّ (DED) قلّص العدد إلى 900 كلمة بحذف الاشتقاقات التخمينيّة وأسماء الأعلام، ومن الكلمات التي تستخدمها الإنكليزيّة (السمت، السكّر، الجبر، الكحول، الكيمياء؛ ليمون، قطن..).
أمّا اللغة الإسبانيّة وبحكم الوجود العربيّ الإسلاميّ فيها لفترة طويلة فقد كان لها الحظّ الأوفر من تأثّرها باللغة العربيّة، ويعدّ تأثير اللغة العربيّة في اللغة الإسبانيّة أحد السمات المكوّنة للثقافة واللغة الإسبانيّة؛ حيث استوطن المسلمون العرب شبه الجزيرة الإيبيريّة لمدّة ناهزت ثمانية قرون.
ويُقدّر عدد الكلمات العربيّة في القواميس الإسبانيّة بنحو 2000 كلمة وعدد مشتقّاتها 3000 كلمة أي بنحو 8 في المئة من مفردات اللغة الإسبانيّة الكلّيّة. ومن الأمثلة على الكلمات الإسبانيّة ذات الأصل العربيّ: ( Rincon ركن- aceite مشتقّة من الزيت- ahorrar فعل بمعنى يحرّر- ojala اشتقّت من الجملة العربيّة ”إن شاء الله”).
لأنّ اللغة العربيّة لغة حيّة مرنة قابلة للتأثّر والتأثير فقد تأثّرت أيضاً باللغات الأخرى ونهلت من معينها، فكثيرة هي الكلمات الغريبة التي تقتحم حياتنا الثقافيّة والعلميّة
أمّا اللغة التركيّة فلها شأن آخر مع اللغة العربيّة؛ فقد كُتبت بالأحرف العربيّة لأكثر من 600 سنة إبّان فترة حكم الدولة العثمانيّة، ويوجد في اللغة التركيّة أكثر من 6 آلاف كلمة عربيّة الأصل نذكر منها: ساعة، دفتر، كتاب، قلم، جسور، فرصة، لطفاً، تهلكة، وغيرها الكثير.
اللغات الأجنبيّة بحروف عربيّة
ولأنّ اللغة العربيّة لغة حيّة مرنة قابلة للتأثّر والتأثير فقد تأثّرت أيضاً باللغات الأخرى ونهلت من معينها، فكثيرة هي الكلمات الغريبة التي تقتحم حياتنا الثقافيّة والعلميّة من دون تأشيرات ولا جوازات، وهذه الكلمات لم تخضع لقواعد التعريب وشروطه؛ فكلّنا يستخدم كلمة تلفزيون مع سبق الإصرار والتصميم مع علمنا المسبق بأنّ هناك ثمّة كلمة عربيّة مرادفة لمفهوم هذا الجهاز وهي كلمة ”الرائي”!
ومن الكلمات الإنكليزيّة التي نستخدمها في حياتنا اليوميّة (هاي، أوك، باي، كورس، فيلم، بنك، كاش، سوري، تاكسي، بيبي..)
وكان أيضاً للكلمات الفرنسيّة حظّ وافر في معجم الألفاظ المستخدمة في العربيّة بحكم احتلال فرنسا لبعض من البلدان العربيّة منها (مدام، مدموزيل، بالطو، أسانسير، لانجيري، بوفيه، أوكازيون، ميرسي..)
ولم تكن العربيّة أيضاً بعيدة التأثّر باللغة التركيّة؛ فقد استخدم العرب وما يزالون العديد من الكلمات التركيّة في حياتهم مثل (شنطة، أوسطة، آبلة، ماصة، أفندم، كفتة، كرباج، بلكي..)
وقد كان للإيطاليّة أيضاً نصيب من الاستخدام في اللغة العربيّة مثل (موضة، باروكة، بانيو، أوبرا، بيتزا..)
مشكلة التعريب
ونتيجة لما تقدّم ندرك وبما لا يدع مجالاً للشكّ أنّه لا توجد لغة لم تؤثّر أو تتأثّر بلغة أو لغات أخرى؛ فلا توجد لغة نقيّة صافية مئة في المئة، وهذا ليس عيباً في اللغة كما يظنّ البعض؛ فاللغة ملك لكلّ الناس، ولا ندري ما الذي جعل بعضاً من المهتمّين وعلماء اللغة العرب مهووسين بعمليّة التعريب، فأُنشؤوا العديد من مجامع اللغة العربيّة بهدف تعريب الكلمات والمصطلحات الأجنبيّة للغة العربيّة.
فما الفائدة أن أعرّب كلمات أجنبيّة بلغة خشبيّة لا يستخدمها إلّا معرّبوها؟ ما العيب أن أستخدم لفظًاً أجنبيّاً بلغة قومه بحروف عربيّة؟ من منّا يستخدم كلمة الرائي بدلاً من التلفزيون؟ وكم منّا من يستخدم كلمة حاسوب بدلاً من الكمبيوتر؟ وهل فعلاً كلمة حاسوب تعبّر عن معنى ومهامّ الكمبيوتر؟ الجواب بالتأكيد لا؛ فكلمة حاسوب مشتقّة من الفعل حسب يحسب، من الحساب، وبالتالي فهم هؤلاء أنّ الكمبيوتر هو فقط لإجراء العمليّات الحسابيّة متناسين -عن جهل أو تعصّب- مهامه والوظائف الأخرى التي يقوم بها، وربّما يشعر البعض بالغثيان عندما يعلم بأنّ هناك كلمة أخرى مرادفة للكمبيوتر أو الحاسوب وهي كلمة ”كبتار”!
ومن الكلمات المعرّبة التي تجعلك أمام لغة خشبيّة غير قابلة للحياة، كلمة "الواجوه". فما هو الواجوه وكم من العرب أو غير العرب يستخدم هذا المصطلح الغريب؟ وعلى أية حال، فـ"الواجوه" بلغة المعرّبين يا سيّدي يُقصَد به (الفيس بوك)!
وقد يتبادر إلى ذهن الكثيرين أسئلة كثيرة حول قضيّة تعريب الكثير من الاختراعات التقنيّة والمصطلحات العلميّة الحديثة، فكيف يمكن مثلاً تعريب تويتر وواتس آب ولايكي وتيك توك؟
وهنا يبرز سؤال مهمّ آخر: هل عُني الألمان أو الإنكليز أو الفرنسيوّن أو غيرهم، بـ (أَلْمَنة) المصطلحات والكلمات العربيّة، أو (أَنكَلتها) أو (فَرنَستها) كما عُني العرب بالتعريب؟ وهل كانوا يعتبرون استخدام كلمات عربيّة في كتبهم ومؤلّفاتهم عيباً يجب الاستعاضة عنه بكلمات من لغتهم؟ وبالعودة لمصطلح (أَنْكلة) فإننا نستخدمه بالعامية للدلالة على القول غير المقرون بالفعل، أو التحايل بالحديث، كأن نقول: "فلان يأنكل علينا" أي أنه يتحايل ويكذب علينا. وربما جاء المصطلح من فعل تحويل الكلمة العربية إلى الإنكليزية كما أشرنا.
وعلى أية حال، ثمّة أسئلة تجعلك أمام حقيقة يراها الكثيرون وهي أنّ أغلب محاولات التعريب كانت فاشلة وغير موفّقة ولم تحقّق أيّ فائدة علميّة حقيقيّة، وهي في أغلبها تسويق لألفاظ خشبيّة لا روح فيها وغير قابلة للحياة، في حين يرى البعض أنّ التعريب ضرورة يقتضيها الترابط العلميّ والتحدّي الذي يستدعي استنبات العلم وتوطين التكنولوجيا عربياً.
العامّيّة المظلومة
هذا وقد جاء التعريب ضمن السياسات والتوجّهات التي تعتبر العامّيّة لغة رديئة يجب محاربتها والقضاء عليها لكونها تستخدم ألفاظاً أجنبيّة، من هنا نشأ صراع دائم وجدل واسع بين اللغة العربيّة الفصحى والعامّيّة الشعبيّة، ولكنّ الكثيرين لا يعرفون أنّ اللغة العامّيّة جاءت تبسيطاً وتحويراً بسيطاً للغة الفصحى، وأنّنا بلساننا الدارج نقول الفصحى ولكن بتطوّرها العامّيّ، وتحمل اللغة العامّيّة الدارجة عدداً كبيراً من الألفاظ التي نستعملها يوميّاً لكنّها على حالتها جزء من اللغة العربيّة الفصيحة السليمة، نذكر منها على سبيل المثال:
(مَرَة) امرأة في الصحاح. (انطيتُه) أعطيته بلغة أهل اليمن. (بربر) بمعنى ثرثر في لسان العرب لابن منظور. (هوشة) لاجتماع على سوء وفتنة وخصومة. (شال) يشيل بمعنى حمل في معجم التاج للزيديّ. (كويّس) استخدام صحيح بتصغير كيّس في معجم التاج للزبيديّ. (حطّ) بمعنى وضع شيئاً في مكان ثابت. (شاف) بمعنى أشرف ونظر. (قُدّام) نقيض وراء.
وأيضاً: (بَلَص) بلص الوالي فلاناً إذا أخذ منه ماله مصادرة. أمّا في اللغة فوردت بالتشديد (بلّص).
إنّ ظاهرة وجود العامّيّة إلى جانب اللغة العربيّة الفصيحة ظاهرة لغويّة موجودة في جميع دول العالم ولكلّ منها مجالاتها واستعمالاتها. كما وتُعرّف اللهجة العامّيّة بأنّها طريقة الحديث التي يستخدمها السواد الأعظم من الناس وتجري بها كل تعاملاتهم الكلاميّة اليوميّة.
فاللغة، كما يقول أنيس فريحة مؤلّف كتاب ”نحو عربيّة ميّسرة”، ليست مجموعة كلمات. تستطيع أن تتعلّم مفردات القاموس الألمانيّ أو قاموس أكسفورد أو لاوس ولكنّك لن تستطيع أن تطلب إلى خادم في برلين أو لندن أو باريس أن يأتيك بقدح ماء أو رغيف خبز؛ لأنّ اللغة بتركيبها، والتركيب جوهر اللغة، وتركيب العامّيّة يختلف في نواح عديدة، وبالتالي فإنّ العامّيّة والفصيحة لغتان لا لغة واحدة.
ويرى فريحة أنّ قضية المفردات لا تدخل في صميم اللغة؛ فنحن نتباهى مثلاً أنّ للشيء الواحد عندنا أسماء عديدة وللفعل الواحد أفعالاً عديدة ولكنّ غيرنا يرى في ذلك إسرافاً، وإنّ المفردات تهرم وتموت ويحلّ محلّها مفردات أخرى، وقد تقتبس اللغة مفردات وحضارة أخرى.
إنّنا اعتدنا أن نعتبر الفصيحة لغة جيّدة والعامّيّة لغة رديئة، وكذلك اعتدنا أن نحترم ”السلطة العليا” في اللغة فنقول قال فلان وورد في شعر فلان، ولكنّ علم اللغة يقول لا سلطة عليا إلّا للناس، وما يقوله الناس هو الصحيح، وبالتالي فإنّ اللغة الجيّدة هي التي تقوم بوظيفتها على أكمل وجه في الفهم والإفهام أو في التعبير عن دواخل الناس بيسر وبدون إجهاد.
وقد ذهب الصقلّيّ إلى موقف أكثر جرأة من فريحة وفي كتابه ”ثقيف اللسان وتلقيح الجنان” إذ رأى فيه أنّ العامّيّ على صواب فيما أهل الخاصّة، ويسمّيهم المتفصّحين، على خطأ؛ فأفرد باباً كاملاً يسرد فيه ما أصابت العامّة وأخطأت به الخاصّة، ورفع عنها بعض الظلم الذي يتسبّب به "المتفصّحون".
أمّا كتاب ”بحر العوامّ فيما أصاب به العوامّ” لمحمّد ابن إبراهيم الحنبليّ فهو مصنّف كامل لتفصيح العامّيّة.
وقد تمَّ إعادة الاعتبار لمفردات عربيّة وصل عددها إلى 300 كلمة اعتبرت خطأً بأنّها ليست فصيحة بحسب ما جمعه ممدوح محمّد خسارة من مجمل المصنّفات التي كُتبت في فصحى العامّيّة، لم تتوقّف عند حدّ الدفاع المعجميّ والنحويّ عنها، بل إلى القول إنّ العامّيّة هي التي احتضنت الفصيحة في وقت الشدائد وأعصر الانحدار.
مستويات اللغة العربيّة
كثير من الدارسين ومعلّمي اللغة لا يميّزون بين مستويات اللغة العربيّة؛ فيلزمون طلّابهم بالتحدّث والكتابة والتعلّم باللغة العربيّة الفصحى، لغة امرئ القيس والنابغة وسيبويه، الأمر الذي جعل الطلّاب يكرهون اللغة ويجدون أنفسهم مرغمين على تعلّمها، فأخذوها كما يؤخذ الدواء المرّ الذي لا يثق به المريض ولا يرجو منه شفاءً.
للغة العربيّة كما يرى الدكتور فخر الدين قباوة (شيخ النحويّين واللغويّين السوريّين) خمسة مستويات:
- اللغة العربانيّة: وهي اللغة العالية جدّاً؛ لغة القرآن الكريم، فقد ورد في كتاب ”اللغات في القرآن” بإسناد لابن عبّاس: "ما أنزل الله عزّ وجلّ من السماء كتاباً إلّا بالعربانيّة، وكان جبريل عليه السلام يترجم لكلّ نبيّ بلسان قومه".
- اللغة الفصحى: وهي لغة الأدباء والشعراء.
- اللغة الفصيحة: وهي للعلماء في الشريعة والطبّ والفيزياء..
- اللغة الصحيحة: وهي لغة المعلّمين والموظّفين من محامين و..
- اللغة الوسطى: وهي للعامّة (سائق ـ شرطيّ ـ جزّار ـ خيّاط..)
ويرى الدكتور قباوة أنّ من أهمّ الأسباب التي جعلت المتعلّمين يستصعبون اللغة العربيّة ويبتعدون عنها ويجنحون للعامّيّة هو إلزامهم بالفصحى فيقول: "طالبونا بالفصحى فسقطنا بالعامّيّة".
المصادر والمراجع:
-
”اللغات في القرآن الكريم” لإسماعيل بن عمر المقرئ تحقيق صلاح الدين المنجّد.
-
”بحر العوامّ فيما أصاب به العوامّ” لمحمّد بن إبراهيم الحنبليّ.
-
”ردّ العامّيّ للفصيح” أحمد رضا العامليّ.
-
”نحو عربيّة ميسّرة” أنيس فريحة.
-
”فصحى وليست عامّيّة” محمّد رشيد العويّد.
-
موقع الجزيرة/ مقال بعنوان: كيف تأثّرت أوربّا بلغة الضاد لـ شيماء محمود.
-
موقع ويكيبيديا الموسوعة الحرّة.
-
دروس الدكتور فخر الدين قباوة في شرح المعلّقات.
-
”تثقيف اللسان وتلقيح الجنان” الصقلّيّ.