شيئاً فشيئاً تآكلت أهداف ثورة السوريين في أجندات هياكل المعارضة السياسية والعسكرية، لصالح أهداف الدول المتدخلة في الشأن السوري، حيث باتت تتحكم كلياً بتلك الأجسام، التي تكتسب مزيداً من الركاكة مع كل ارتباط جديد لها. وفي كل محطة من التنازلات المتلاحقة، كان يغادرها عسكرياً وسياسياً من لم يرتضِ هذا الحجم أو ذاك من المهانة والالتحاق.
لم يراكم عموم السوريين أية خبرة في المعارضة، قبل عام 2011، ولم يمارسوا كشعب أياً من أشكال الانتفاض على نظام موغل في التوحش. بعض الانتفاضات التي حدثت سابقاً، على أهميتها، اقتصرت على مناطق جغرافية محددة، وتم وأدها قبل أن ترسّخ أي خبرة.
في الأسابيع الأولى من الثورة السورية، كانت المظاهراتُ ما تزالُ تحت تأثير سابقاتها في دول الجوار، مصر وتونس وليبيا واليمن. تذكرون الهتاف الأساسي المنسوخ من دول الجوار، الذي يعبِّرُ عن المطلب الرئيسي للمتظاهرين: "الشعب يريد إسقاط النظام"، وهو مطلبٌ محق، حين يكونُ إسقاط "النظام" الوارد في الهتاف مكافئاً لمفهوم إسقاط الاستبداد، وإلغاء دور الأجهزة القمعية المسؤولة عن تنفيذ سياسة الاستبداد، بما تشمله هذه السياسة من قمع للحريات، واستئثارِ الحاكم الفرد أو الحزب الواحد، بقرارات البلاد كلها سياسياً واقتصادياً وقضائياً...إلخ.
لم يكن المعنى الاصطلاحي لكلمة "النظام"، واضحاً لدى جميع المتظاهرين المطالبين بالإسقاط. لذلك بدأت تظهرُ الخلافات خصوصاً خلال جلسات الفئة الفاعلة، التي انضوت بغالبيتها ضمن تكتلات تنظيمية "مناطقية" تحت مسمى تنسيقيات، باسم البلدة أحياناً، وباسم الحي في حالة المدن الكبيرة
لم يكن المعنى الاصطلاحي لكلمة "النظام"، واضحاً لدى جميع المتظاهرين المطالبين بالإسقاط. لذلك بدأت تظهرُ الخلافات خصوصاً خلال جلسات الفئة الفاعلة، التي انضوت بغالبيتها ضمن تكتلات تنظيمية "مناطقية" تحت مسمى تنسيقيات، باسم البلدة أحياناً، وباسم الحي في حالة المدن الكبيرة، ولم يكن هناك معايير فكرية أو سياسية يخضع لها المنتسبون للانخراط في النشاط. كان يكفي لذلك، أن تكون ثائراً ضد الأسد، ومستعداً للعمل في المهام الأكثر خطورة حينها، كتحديد زمان ومكان المظاهرة، أو القيام بكتابة العبارات على اللافتات قبل المظاهرات. خلال عمليات التحضير تلك، انطلقت أولى المناظرات السياسية في سوريا على مستوى الأفراد الفاعلين، بعد عقودٍ من الصمت. مناظراتٌ لم تكن ناضجة، بل نستطيعُ القول بأنها، كانت ذات طابع فوضوي، في كثير من المرات والمناطق والمناسبات.
شريحة تقول بوجوب "إسقاط النظام" بكليّته. تطرّف بعض دعاة هذا الطرح، مطالبين بحلّ كل شيء قائم، الجيش والأحزاب وأجهزة الأمن بما فيها الشرطة. كان هؤلاء يطربون لمصطلح أنتجته التجربة العراقية "اجتثاث البعث"، لكنهم رغبوا في توسيع دائرة ذاك الاجتثاث. مقابل هؤلاء أو إلى جانبهم، ظهرت شريحة ترى في "إسقاط الرئيس" منجزاً يعبِّرُ عن تطلعات السوريين، فحلم السوريين بالتغيير، لا يشمل إسقاط "الدولة". كان بعض متبني هذا الخط، وهم كُثر، يخلطون بين المعنى الاصطلاحي المطلق لكلمة النظام، ومعناها السياسي الدلالي المؤطر، فرسخ في وعيهم أن مطلب الآخرين يعني "إحلال الفوضى".
لم يكن هذا الخلط بين المفاهيم والمسميات، إلا نتاجاً منطقياً لعقود كان فيها مجرد الحديث بمثل هذه الأمور، طريقاً حتمياً نحو أقبية التعذيب، في معتقلات نظام الأسد الأب وابنه. طبعاً لم يحتكر الخطّان السابقان، عموم المشهد ضمن الحاضنة السورية الثائرة. رأتْ بعض النخب المثقفة في هذا التنوّع على عواره ووعورته، ظاهرةً مبشّرة، مع ضمان بقاء الخلافات في حدود الجلسات الحوارية. لكن هل كانت تلك النخب حاضرة لإزالة اللبس عن الكثير من المفاهيم؟ نعم، ولكن بحدود ضيقة وفي أماكن بعينها. تسبب هذا الغياب، بانحدار الحوار صوب درك الجدل الذي أدى في حالات كثيرة، إلى خندقات واصطفافات، بلغ الأمر في بعضها حدَّ التناحر والتخوين.
للطرافة، يعاني السوريون عموماً من داء الاستطراد، وطرح أكثر من موضوع للنقاش خلال سطرين أحياناً. حين تطورت الأفكار المطروحة بعد ذلك، نتيجة سيطرة المناهضين لنظام الأسد على رقعةٍ جغرافية كبيرة، من مجمل مساحة الوطن السوري
للطرافة، يعاني السوريون عموماً من داء الاستطراد، وطرح أكثر من موضوع للنقاش خلال سطرين أحياناً. حين تطورت الأفكار المطروحة بعد ذلك، نتيجة سيطرة المناهضين لنظام الأسد على رقعةٍ جغرافية كبيرة، من مجمل مساحة الوطن السوري. تطورٌ طبيعي فرضه الشعور بالانتصار "المؤقت"، وبارتفاع سقف الأحلام، أخذت مسارات الحوار السوري (ولا أقصد هنا حوار النخب) تخطو نحو مواضيع جديدة، متجاوزةً الخلاف حول ماهية ما يجب إسقاطُهُ، نحو شكل ومسمى ما يجبُ إقامته، وأي دولة نريد. انتقلت الحاضنة للتفكير بالبناء، حاملةً معها اصطفافات هدمٍ لم يُنجز بعد. كيف يُنجز وهم مختلفون في تعريفه؟ و متصارعون في تحديد المستهدف خلاله والمستثنى منه. وبكل الأحوال يعانون من الشرذمة التي كانت السمة الغالبة للعمل العسكري والسياسي.
تلك السيطرة السريعة على أراضٍ واسعة ومدن وبلدات، تحققت للثوار المختلفين في أمور جوهرية، حتى إنهم لا يملكون أي تصور لمشروع يوحدهم. ومن هنا بدأت الكوارث تتالى. أولى تلك الكوارث تبدَّت مع حضور تيارات تملك مشاريع جاهزة، عبرت الحدود المنفلتة، حدود الوطن والقضية، مستغلةً الخلافات الكثيرة، لتملأ الفراغ بسهولة، وخلال مدةٍ زمنية، فاقت في ضآلتها حتى أكثر تصورات أصحابها تفاؤلاً.
لم يكن لدى آلاف الشباب السوريين جدار حماية فكري، فقد كانوا تحت تأثير صراعات النخب وأنصاف النخب. صراعاتٌ تركتهم يشككون في كل طرح وطني، فارتاب الجميع بالجميع، لذلك لم يكن مستغرباً، أن تتمكن تلك التيارات، وخلال عدة شهور فقط، من استقطاب هؤلاء التائهين. ومن يستطيع تجريم انجراف هؤلاء وقد تُركوا، بلا أي مناعة تقيهم شرّ تيارات مدججة بتراثٍ تنظيري مختمر وبناء تنظيميٍّ متماسك.
في تلك المرحلة بدأ الترويج للأفكار التي ما زالت حتى اليوم قيد النقاش العبثي على سذاجتها، كالقول بعلمانية نظام الأسد، وتعداد النتائج القاتلة التي حصلنا عليها من هذه العلمانية وبرلماناتها ودساتيرها وصناديقها الانتخابية! تلا ذلك الربط بين الديمقراطية والغزاة الأميركيين للعراق وأفغانستان. ثم حصر الحريات العامة التي كان يطالب بها السوريون، ضمن المفاهيم والسلوكيات التي ينفر منها الوعي الجمعي السوري، كحق الرجل، والمرأة على نحوٍ خاص، في ممارسة الجنس خارج مؤسسة الزواج، وتشريع زواج المثليين جنسياً، حتى غدت الديمقراطية وكأنها الانحلال والتفلت، ولم تعد تعني مفهومها الأصل، وارتفعت الشعارات التي تفيد بأن الديمقراطية دين الغرب الكافر، وهي شرك وكفر. أدى هذا الضخ الهائل من التدليس والتزوير في المفاهيم إلى تشوّه قيمٍ مرتبطة لدى أغلب السوريين، بالمعنى الضبابي أصلاً للدولة، فسقطت الدولة فكرياً، بسقوط ما كان يرافقها عند الحديث عنها.
لم يتمسك المنجرفون بالدولة، فقد أصبحت قرينة النظام المجرم داخل وعي الغالبية، وعيٌ متناقض متصارع، نتيجة صراع عقول وافدة حديثاً إلى عالم السياسة. بعد سقوط الدولة في الوعي، صار إسقاط ما هو أكبر، أمراً هيناً بالنسبة للتيارات الدخيلة، ففي المرحلة الأولى تم تسفيه مفهوم "الوطن"، الذي لم يكن موجوداً قبل "سايكس بيكو" بحسب ما رُوِّج على نحوٍ متكرر، ثم ليصار بعد ذلك إلى إلغائه تماماً، والتعويض عنه بانتماءات أكثر قدسية. سقط الوطنُ لتحيا "الأمة" تارةً، ولتعودَ "الخلافة" تارةً أخرى.
لم تستطع حينئذ، بقية من الخط الوطني فعل أي شيء، فالتيارات الوافدة كانت أكثر تمويلاً، وتنظيماً واستعداداً للمعركة، بالإضافة إلى امتلاكها القدرة على منح مكافآت وحوافز، يستحيل على سواها امتلاكها.
والأهم أنه مع تلك التيارات، ليس هناك من احتمالات للخسارة. إما نصر إلهي يمكّن شريعة الله في الأرض، ولو في قرية صغيرة، أو انتقال سريعٌ آمنٌ نحو جنّة، وحور عين ومُلك لا يبلى. وهل هناك من تعريف أجمل وألطف يجعل حسابات الدم بهذه البساطة؟ للمفارقة، فقد انجرفت حتى التشكيلات العسكرية المحسوبة على الجيش الحر في تلك الفترة، لتبنّي الشعارات والرموز الجهادية، ففقدت هي الأخرى ملمحها الوطني السوري.
في تلك المرحلة خفَتَ كل صوت يبحث عن طرق أقل كلفة، حيث سيغدو هؤلاء أقل فدائيةً، وأضعف قدرةً على البذل والتضحية، كما اتهمهم خصومهم دائماً. خصومهم الذين يتحدثون عن النصر ولو تطلب موت آخر سوري!
في تلك المرحلة خفَتَ كل صوت يبحث عن طرق أقل كلفة، حيث سيغدو هؤلاء أقل فدائيةً، وأضعف قدرةً على البذل والتضحية، كما اتهمهم خصومهم دائماً. خصومهم الذين يتحدثون عن النصر ولو تطلب موت آخر سوري! دون الوقوف عند السؤال البديهي: وما نفع نصرٍ يتطلبُ موت جميع طالبيه؟ ليغدو الوطن رهن العديد من الاحتمالات، لن تكون بعد غياب المؤمنين بالوطن إلا احتمالات سيئة.
اليوم وبعد أن وصلنا إلى ما وصلنا إليه، تبدو كل الاحتمالات واردة. التقسيمُ والاحتلال التقليدي، إضافة إلى احتمال ثالث. بقاء الوطن بكامل أرضه تحت حكم نظام قمعي مستبد، بالأسد أو بدونه، تفرضه وتدعمه قوىً خارجية وصائية "محتل الظل". اليوم، وبعد كل ما جرى وبعد ارتهان الجميع سلطة ومعارضة، بماذا سنجيب ملايين الأيتام والأرامل ومبتوري الأطراف والأحلام، والمشردين في جهات الأرض الأربعة، فيما لو صرخوا في وجوهنا: "إذاً لماذا كان كلُّ ما كان؟". لم يسقط النظام، لكنه عمل بدأب، وساعده مناوئوه، على سقوط كل شيء، بما في ذلك أجسام المعارضة السياسية والعسكرية، فحين يسقط كل شيء لن يبدو نظام الأسد وكأنه (الساقط) الوحيد أخلاقياً.