إسرائيل وإيران.. صراع "الدول الأسيرة"

2024.08.15 | 06:00 دمشق

4222222222222222
+A
حجم الخط
-A

عقب اغتيال إسرائيل إسماعيل هنية قائد حماس، انشغل الإعلام الإيراني برمّته بالحديث عن الثأر والانتقام من خلال ردٍّ رادع ومؤلم لإسرائيل. حدث هذا خلال الأسبوع الأول بعد العملية، حيث سيطرت أجواء تجعل كل من لا يؤيد ذلك في وسائل الإعلام موضع مساءلة.

أما اليوم، ومع هدوء الأجواء، بدأت العقول الباردة بالإفصاح عما تراه ردًّا محسوبًا بدقة، لا يودي بالمصالح الوطنية الإيرانية فيما لو تورطت إيران بحرب مع إسرائيل، يعرف الجميع نتائجها.

كثيرة هي الرسائل التي تلقّتها طهران في الأسبوعين الأخيرين من الحلفاء كروسيا والصين، وحتى من الأعداء بشكل مباشر كاتصال الرئيس الفرنسي مع بزشكيان، الرئيس الإيراني الذي بالكاد جلس على كرسيّه، أو بشكل غير مباشر عبر وسطاء من باقي الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة. ما جعل إيران تفكّر بطريقة محسوبة قبل أية خطوة ستقدم عليها.

يعلم الإيرانيون على المستوى الشعبي والرسمي أن أية مواجهة عسكرية مفتوحة مع إسرائيل المدعومة من كامل المنظومة الغربية لن تعني سوى دمار البلد. وتعرف السلطات الإيرانية أن هذا سيعني أولاً، وقبل كل شيء، خسارة مكتسبات الهيمنة الإقليمية التي دفعت لها خلال العقود الأخيرة، ما أدّى إلى إفقار البلاد والشعب الإيراني بانتظار اعتراف دولي بإيران كقوة إقليمية يحق لها، كإسرائيل تماماً، ما لا يحقُّ لغيرها.

من البديهي أن دولة مثل إسرائيل، أُنشئت في محيط غير منسجم ومعادٍ في كل مراحل وجودها، شعبيًا على الأقل، ستشعر هي وحلفاؤها أن استمرار هذا الوجود ما زال يعتمد على الدعم الغربي.

على الجانب الآخر، وإثر اغتيال إسرائيل لهنية، وقبله بساعات فؤاد شكر، القائد العسكري لحزب الله، وما إن لاح في الأفق أن هناك ردًّا قد يكون مؤلمًا، تحركت السفن الحربية والطائرات الغربية، الأميركية خصوصًا، باتجاه المنطقة. وحتى قبل أن تصل تلك النجدة، تعالت الأصوات بأن ردًّا غير محسوب من إيران أو وكلائها في المنطقة سيدفع القوى الغربية للاشتراك المباشر في الحرب، دفاعًا عن أمن إسرائيل. طبعًا يحدث هذا رغم "الفراغ الأوبامي" وسياسة الانسحاب الأميركي من دورها كقطب أوحد في العالم.

إثر عملية طوفان الأقصى، واجتياح حماس للمستوطنات الإسرائيلية، بدا واضحاً للغرب ولإسرائيل بطبيعة الحال، أن الأخيرة يمكن أن تعيش أوضاعاً صعبة، رغم هالة القوة العسكرية التي تحيط بها نفسها. ومع الهجوم الجوي الإيراني المدروس خلال ما دُعي عملية "الوعد الصادق"، ردًا على قصف مبنى ملاصق لقنصليتها في دمشق، تبيّن أكثر أن ردًّا أكثر حزماً بدا واقعيًا، ممكن أن يكون موجعًا ولا تحتمله دولة الاحتلال، بل ويمكن أن يكسر كل الهيبة العسكرية الإسرائيلية.

من البديهي أن دولة مثل إسرائيل، أُنشئت في محيط غير منسجم ومعادٍ في كل مراحل وجودها، شعبيًا على الأقل، ستشعر هي وحلفاؤها أن استمرار هذا الوجود ما زال يعتمد على الدعم الغربي، وما يحدث اليوم دليل قاطع على ذلك. فهي لا تواجه دولة معادية واحدة، وإنما محيط مصمت من الأعداء، ثانيةً سأكرر، أقلّه على مستوى الشعوب. وهي في كل محطة مشابهة ستحتاج إلى المؤازرة الخارجية كي تحافظ على بقائها.

يدعو الإعلام الإيراني اليوم إلى ضرورة الرد دون التورط في مهاجمة إسرائيل مباشرة، والأهم دون التورط في حرب.

دأبت إسرائيل منذ قتلها شكر في ضاحية بيروت الجنوبية، على الإعلان أنها اكتفت بتلك الضربة ولا تريد تصعيدًا أكثر. وبالنسبة للرد الإيراني، فإسرائيل حتى لم تعترف علانية بقتلها لهنية في عقر دار الملالي. وفي كل مناسبة، تبلغ إسرائيل جميع الأطراف أن أي رد إيراني مؤثر مباشر أو عبر الوكلاء سوف يعيق التوصل إلى اتفاق على وقف حربها على غزّة، الأمر الذي تنتظره معظم دول العالم، خصوصًا دول الإقليم.

هل هي مجازفة غير محسوبة مني، ورمية في المجهول، أن أقول إنه لن تكون هناك حرب بين إسرائيل وإيران؟ ربما، ولكن لديَّ ما يقترب من اليقين أن حربًا مفتوحة لا يمكن أن تقوم بين هذين الطرفين الأسيرين للعوامل الخارجية، وهي في حيّز المستحيل تقريبًا. فكلا الدولتين لا تمتلكان قرارًا سياديًا لإعلان الحرب من دون موافقة دولية، أو حسبان موازين القوى العالمية على الأقل.

كل المعطيات، خصوصًا خلال السنة الأخيرة، تشير إلى أن القوة الإيرانية العسكرية التي قيل عنها الكثير، إنما هي بالحدود التي لا تُشعر الغرب، وخصوصًا أميركا، بخطرٍ حقيقي أو وجوديّ بالنسبة لإسرائيل. وهي بالكاد كافية لإشعار المحيط الإقليمي، الذي يعيش مواتًا سياسيًا غير مسبوق على مرِّ التاريخ، بأن إيران بعبع مخيف يجب الحصول على رضاه، أو تجنب شروره على الأقل.

ولكن ألن ترد إيران أو وكيلها حزب الله على الإهانة التي لحقتهما في يوم واحد؟ بالتأكيد سيفعلان، ولكن مع الأخذ بعين الاعتبار، ألا تتدحرج الأمور أبعد من حفظ ماء الوجه أمام محازبيهم ومواليهم. يدعو الإعلام الإيراني اليوم إلى ضرورة الرد دون التورط في مهاجمة إسرائيل مباشرة، والأهم دون التورط في حرب. ومقابل موافقة إيران على الرد المحسوب وتغيير طريقة الانتقام، يمكنها الحصول على بعض الامتيازات فيما يتعلق برفع جزئي للعقوبات، بحسب الصحف الإيرانية.

كتب الدبلوماسي الإيراني السابق سيد محمد حسيني في صحيفة "آرمان امروز" قبل أيام، مؤكداً ضرورة عدم دخول إيران حرب مباشرة مع إسرائيل، ومداومة الاعتماد على الوكلاء في المنطقة، فيما أطلق عليه، تلطيفًا، تعبير الحرب المشتركة. "تمتلك إيران ميزة نسبية كبيرة في الحرب بالوكالة مقارنةً بإسرائيل، حيث تمكنت من خلال أدواتها من تحدي وجود إسرائيل ومصالحها الحيوية بشكل دائم". ويتابع: "إيران لها اليد العليا في الحرب المشتركة، وقد نجحت في تحقيق موت تدريجي لإسرائيل من خلال "ألف طعنة"... إذا دخلت إيران وإسرائيل في نزاع مباشر ومستمر وغير خاضع للسيطرة، فإن إيران ستخسر الحرب... بينما حرب غزّة وحدها جعلت إسرائيل في حالة من اليأس".

تنطلق معظم التحليلات اليوم مغفلةً أن الدولتين أسيرتان، أو تحت ظروف جبرية، إذا أردتُ الاستفادة من التعبير القانوني المعروف "تحت الإقامة الجبرية". طبعًا هما في ذلك لا تختلفان عن باقي دول الإقليم، ولكن في حالة الصراع التي نشهدها، فإن الجانبين يسعيان إلى الحفاظ على المكتسبات. إيران بهدف الحصول على اعتراف غربي بدورها الإقليمي عبر القوة العسكرية الملتبسة التي تتحدث عنها، وإسرائيل عبر مراكمة القوة، غير آبهة، بحكومتها المتطرفة الحالية على الأقل، بفكرة أن استمرارها في الوجود بسلام واعتمادًا على الذات لن يتحقق، إذا كان ذلك ممكنًا، من دون الاعتراف بالحقوق الكاملة لأصحاب الأرض الأصليين.

إسرائيل عبر حروبها المتكررة، خبرت المنطقة ومحيطها والتوازنات، وهي لا تحرك ساكنًا من دون ضوء أخضر أميركي، ووعود مؤكدة بالدعم والإسناد عبر الجسور الجوية التي تحمل كل أدوات القتل المتاحة. ومن جهتها تمرَّست إيران في عدم القتال المباشر، ما دام هناك وكلاء يقومون بذلك. وقد تعلم قادتها الكبار التمدد في المنطقة، مع الحذر الدائم أنهم لن يقعوا في فخّ المواجهة مع الدول الكبرى، ما أكسبهم خبرة ممتازة في تكتيكٍ يدفع الآخرون ثمنه.

ختامًا، لن يفوتني بالتأكيد أن حكومة إسرائيل الحالية تتمنى لو تُطلق يدها لتدمّر القوة الإيرانية، بما فيها نشاطاتها النووية، فتبقى بذلك اللاعب الأهم في المنطقة. وكذا بالنسبة لإيران، فهي تتمنى الشيء ذاته لإسرائيل، ما يجعلها الرقم الأصعب في الإقليم. ولكن، لحسرة الطرفين، فإن "الدول الأسيرة"، إن استقام المصطلح، ليست مطلقة اليد لتفعل ما تتمنى. وإلى حين الحصول على اعترافٍ غربي بمكانة إيران، سينتظر الملالي وقتًا قد يطول أو يقصر، وهم مكتفون بمجرد التهديد بإيلام إسرائيل، باعتبارها خاصرة الغرب الموجعة. أما عندما يتحقق لهم حلمهم بهذا الاعتراف، فأكاد أجزم، ولا أتمنى بالطبع، أن إيران ستكون أقرب حلفاء إسرائيل، ليتوازعا معًا أدوار تسيّد المنطقة.