يتابع موقع تلفزيون سوريا نشر الجزء الثاني والأخير من ملف "إسرائيل في سوريا"، الذي يستعرض أبرز النقاط في تعامل تل أبيب مع الحدث السوري؟
تحدث الجزء الأول عن موقف إسرائيل المتمثل في سياسة النأي بالنفس عما يحدث في سوريا، فيما عدا محاربة الوجود الإيراني، وأهم الضربات الإسرائيلية داخل الأرض السورية.
في هذا الجزء نستعرض الجوانب السياسية لتعامل إسرائيل مع الملف السوري، وما هو موقفها من الأسد، وكيف يصور الإعلام العبري الحدث السوري، وما هي الخيارات الحالية المتاحة أمام تل أبيب، وموقع إسرائيل ودورها في بلورة واقع جيوسياسي جديد في المنطقة، تعد الأرض السورية حلبة للتبارز الإقليمي والدولي.
دور إسرائيل السياسي وموقفها من الأسد
غيّر اندلاع الثورة في سوريا منذ آذار 2011، بشكل كبير وجه الدولة السورية وأصبحت مسرحاً للاشتباكات الإقليمية والدولية، يتميز بتعدد اللاعبين ذوي الأجندات والمصالح المختلفة، وبات نظام الأسد اليوم ليس كما قبلها، ضعيفاً فقد رهن البلاد بعد تدميرها لقوى إقليمية ودولية، هذا الواقع فرض تحديات جديدة على تل أبيب.
استبعدت إسرائيل خيار التدخل في الأزمة السورية، على الرغم من أنها كانت أمام فرص للمشاركة السياسية نحو التخلص من نظام تعتبره تل أبيب أحد أركان "محور الشر"، وقرار عدم التدخل كان واضحاً وصريحاً منذ البداية، ويشير بصورة ما إلى رضا تل أبيب عن الواقع السائد قبل 2011، والذي اتسم بالاستقرار وهدوء الجبهات لمدة أربعة عقود.
ويقول الباحث الإسرائيلي إيتمار رابينوفيتش، أستاذ تاريخ الشرق الأوسط بجامعة تل أبيب، كان من الممكن أن تستثمر إسرائيل الفرصة لاستبدال نظام الأسد بنظام مرتبط بالغرب والدول العربية المعتدلة، وتكون بمثابة توجيه صفعة قاسية لسياسة إيران الإقليمية، كما تساهم في تغيير الوضع في لبنان وتحسين الوضع الجيوسياسي لإسرائيل.
ويرجع رابينوفيتش، الذي شغل في السابق منصب سفير إسرائيل في الولايات المتحدة ورئيس فريق مفاوضات السلام مع سوريا ورئيس جامعة تل أبيب، أسباب تضييع تل أبيب هذه الفرصة واستبعادها خيار الوقوف ضد نظام الأسد إلى ثلاثة أسباب وهي:
-ضعف المعارضة.
-الدور المبكر الذي بدأت تلعبه الجماعات الإسلامية والجهادية في الانتفاضة الشعبية.
-الخوف الإسرائيلي من محاولة التدخل في تشكيل السياسة الداخلية للدول العربية المجاورة، فقدت استفادت العبر من تجربتها السابقة في حرب لبنان الأولى.
و"تفضل إسرائيل بقاء نظام الأسد خوفاً من سيطرة العناصر الإسلامية المتطرفة على السلطة في سوريا"، هذا ما نقلته صحيفة معاريف في 11 كانون الأول/ديسمبر 2013 عن رئيس الأركان الإسرائيلي السابق "دان حالوتس".
يعتبر تصريح "حالوتس" من الاعترافات العلنية المبكرة حول موقف إسرائيل من نظام بشار الأسد، وأوضحت الصحيفة بأن لدى إسرائيل القدرة على الإطاحة بالنظام، واصفة تصريحات رئيس الأركان بأنها "غير اعتيادية" من قبل مسؤول بارز في المؤسسة العسكرية.
كما لم تضع تل أبيب يوماً خيار مصير الأسد على الطاولة، بل على العكس قدمت مغريات بضمان بقائه شرط إخراج إيران في الصفقة التي عقدها نتنياهو مع بوتين، ورحبت رسمياً على لسان وزير دفاعها أفيغدور ليبرمان بعودة قواته إلى حدود "فض الاشتباك" في الجولان المحتل في صيف 2018.
وبالرغم من عدم مشاركة إسرائيل في المسار السياسي الدولي لحل الأزمة السورية، إلا أنها استضافت مؤتمراً وحيداً فقط لمناقشة الوضع في سوريا، "مؤتمر القدس" الذي جمع مستشاري الأمن القومي لكل من الولايات المتحدة وروسيا وإسرائيل، وخرج المؤتمر بعنوان عريض "قبول الأسد مقابل خروج إيران من سوريا".
ومن جهة أخرى هددت إسرائيل نظام بشار الأسد للشرط نفسه، وفي أيار/مايو 2018 هددته شخصياً على لسان وزير الطاقة الإسرائيلي يوفال شتاينتس "إذا سمح الأسد لإيران بالرد انطلاقاً من سوريا فستكون نهايته".
يتضح أن إسرائيل لم تناقش مصير الأسد أو تطالب برحيله كما فعل معظم حلفائها من الدول الغربية، بسبب قتله لشعبه، وعندما ناقشت مصيره وهددته كان ذلك من باب تفاوضي يصب في حربها ضد التموضع الإيراني ولمنع طهران من إنشاء "حزب الله سوري".
بالمجمل، اقتصر الدور الإسرائيلي سياسياً في تشكيل الملف السوري على منع التموضع الإيراني على حدودها الشمالية، وهذا التحرك السياسي جاء متأخراً أيضاً، فقد بدأ في 2018 بالتزامن مع الانتعاش الإيراني في سوريا بعد رجحان كفة النظام وهزيمة المعارضة في حلب بدعم من موسكو وطهران.
قادت إسرائيل في سبيل ذلك تنسيقاً عالياً وتحركات مكوكية بين واشنطن وموسكو ولعب دور محوري في تشكيل تحالف مع بعض الأطراف الخليجية؛ التي تخشى التهديد الإيراني، مستفيدة من عهد ترامب الذي شكل العصر الذهبي لإسرائيل عموماً ولليمين العنصري ونتنياهو على وجه التخصيص.
على عكس أوباما الذي خذل حلفاء واشنطن بالمنطقة على رأسها إسرائيل ودول الخليج، عندما وقع الاتفاق النووي الإيراني وأدت سياساته إلى تراجع دور الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة لصالح روسيا.
ومن أبرز "الهبات الجليلة" التي قدمها ترامب لإسرائيل، الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني، والاعتراف بسيادة تل أبيب على مرتفعات الجولان السوري المحتل في مارس 2019، والاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل، واغتيال قاسم سليماني، إضافة إلى خدمة تنسيق صفقات التطبيع الأخيرة مع عدد من الدول العربية.
مع ذلك ، تتطلع إسرائيل للحصول على موقف أميركي أقوى وأكثر نشاطاً في مواجهة المؤسسة الإيرانية في سوريا. وكانت من أبرز الداعمين لاستمرار الوجود العسكري الأميركي في سوريا.
وتشير التقديرات الإسرائيلية إلى أن التصعيد العسكري الأخير للهجمات الإسرائيلية على أهداف إيرانية، يأتي بعد خيبة أمل إسرائيل من فشل الجهود الأميركية لجعل روسيا تقنع طهران بمغادرة سوريا، وفقاً لما اتفقت عليه الأطراف الثلاثة في "مؤتمر القدس" منتصف العام الماضي.
باستثناء النشاط السياسي لإخراج إيران من سوريا، التزمت تل أبيب بسياسة عدم التدخل في الشأن السوري، ولا يبدو أنها ستخرج عن هذا النهج بسبب حالة الاستعصاء التي يمر بها الملف السوري دولياً وتشابك المصالح بين القوى الإقليمية والدولية.
وبعد مضي تسع سنوات، يقول الباحث رابينوفيتش، "لا توجد حالياً خيارات جذابة، لذا لا يبدو التدخل في الأزمة السورية واقعياً بالنسبة لإسرائيل"، مبرراً ذلك على حد قوله بعدم وجود معارضة فعلية للنظام.
ولفت رابينوفيتش إلى أن عددا من الخبراء الإسرائيليين أثاروا في الماضي إمكانية انضمام إسرائيل إلى دعم الأكراد في شمال شرقي البلاد، "لكن فعالية وفائدة مثل هذه الخطوة تبدو هزيلة".
ولكن تبقى احتمالات تدخل إسرائيل بالشأن السوري مفتوحة على مصراعيها مع استمرارية الأزمة السورية المعقدة، سواء نحو التصعيد أو الفتور، لأن الهدف الإسرائيلي لم يتحقق بعد في إزالة القدم الإيرانية ومنعها من الاقتراب إلى حدودها رغم كثافة الضربات، خاصة بعد خيبة أمل تل أبيب من موسكو في عدم المشاركة الفعالة في طرد إيران من الجنوب السوري.
العلاقة بين إسرائيل ونظام الأسد
تعتمد تقديرات الوضع ورسم السياسات وحتى التحليلات الإسرائيلية حول ما حدث بسوريا في 2011 من اندلاع انتفاضة شعبية ضد نظام بشار الأسد، على أنه تاريخ فاصل بين مرحلتين في تحديد علاقة إسرائيل مع نظام الأسد.
فقد أنهت الثورة السورية تاريخ عشرين سنة من المفاوضات السرية والعلنية بين نظام الأسد، الأب والابن وبين تل أبيب، جميعها كانت تدور حول إعادة إسرائيل لهضبة الجولان إلى سوريا، مقابل التطبيع بين البلدين.
موجز للمفاوضات الإسرائيلية السورية
بدأت أولى المفاوضات العلنية في مدريد 1991 برعاية أميركية، عرف بمؤتمر "الأرض مقابل السلام"، وفي 1996 قاد الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون محادثات سلام بين دمشق وتل أبيب في منطقة واي ريفر، والحديث عن "وديعة رابين" وقتها، المتضمنة تعهد إسرائيل الانسحاب من الجولان. وتكررت جولة أخرى في الأيام الأخيرة من عام 1999 في ولاية فرجينيا الأميركية، وبعدها بشهر واحدة جولة ثالثة علنية في كانون الثاني يناير 2000 توصلت إلى اتفاق لانسحاب إسرائيل من الجولان المحتل ولكنه تعرقل بسبب الخلاف على مئات الأمتار، وبعدها بشهرين في آذار/مارس حدث لقاء قمة بين حافظ الأسد (قبل وفاته بثلاثة أشهر) والرئيس الأميركي بيل كلينتون إلا أنها فشلت أيضاً بسبب الخلاف على ترسيم حدود بحيرة طبريا وعدم تنازل الجانب السوري عن الضفاف الشرقية للبحيرة.
ومع قدوم بشار الأسد إلى السلطة استمرت المفاوضات العلنية، والسرية أيضاً، ففي 2004 أبدى رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أرييل شارون استعداده لإجراء محادثات سلام مع الأسد شرط تخلي الأخير عن دعم المنظمات الفلسطينية وحزب الله اللبناني، وفي حزيران/يوليو 2007 أبدت إسرائيل استعدادها للتفاوض مع سوريا على مبدأ "الأرض مقابل السلام" شرط تخلي الأخيرة عن إيران وعن دعم منظمات المقاومة الفلسطينية واللبنانية، وفي 23 من نيسان/ أبريل 2008 أعلنت إسرائيل استعدادها عن الانسحاب من الجولان المحتل مقابل السلام مع سوريا.
كما أعلنت إسرائيل وسوريا رسمياً وبشكل مفاجئ يوم 21 أيار/مايو 2008 أنهما تجريان مفاوضات سلام غير مباشرة برعاية تركيا، وأعلنت أنقرة، حينئذ، أنه تم التحضير لاجتماعات ستستضيفها إسطنبول خلال عشرة أيام، لكنها لم تكتمل.
حتى عشية اندلاع الثورة السورية، أجرت تل أبيب ودمشق مفاوضات غير مباشرة عبر وسطاء أميركيين، أبرزهم فريد هوف، وخطته المعروفة باسم "خطة هوف لترسيم الحدود بين سوريا وإسرائيل".
انقطع مسار المفاوضات والمباحثات بين نظام الأسد وإسرائيل، بعد انطلاق الثورة السورية في ربيع 2011 وما تبعها من تطورات عقدّت المشهد في المنطقة وغيرت المعادلات، فقد أزالت إسرائيل خيار التسوية السياسية مع سوريا من على الطاولة.
"لأن أي تسوية مع نظام الأسد تنطوي على انسحاب لن يتم قبولها في النظام السياسي والشعبي في إسرائيل"، بحسب رابينوفيتش.
وقد قوض الاعتراف الأميركي بضم الجولان فعلياً على أي احتمال افتراضي للتسوية الإسرائيلية السورية. لذلك من المتوقع أن تركز إسرائيل جهودها في سوريا على زيادة إفشال تنامي النفوذ الإيراني في سوريا.
كيف يصور الإعلام الإسرائيلي الأزمة السورية؟
تعتمد وسائل الإعلام الإسرائيلية في تغطياتها لما يحدث في سوريا ذات التغطية التي تعتمدها معظم وسائل الإعلام الغربية تقريباً، ولا يحتل الحدث السوري أهمية في التغطيات الإخبارية اليومية لا سيما في الآونة الأخيرة كما هو الحال في الإعلام الدولي، الذي يبدو أنه أصابه حالة من التململ من الحدث السوري اليومي.
يصور الإعلام العبري ما يحدث في سوريا حالياً على أنه "حرب أهلية"، مع الإشارة إلى أنها كانت انتفاضة شعبية ضد نظام الأسد جاءت في سياق الربيع العربي، ويصف العسكريين المناهضين للأسد بـ "المتمردين" والقوات الإيرانية وتوابعها بـ"الميليشيات".
في السنوات الأولى من الثورة السورية كانت الصحف والمواقع الإسرائيلية كثيراً ما تصف أعمال القتل التي يقوم بها نظام الأسد بـ "المذبحة السورية"، و"شلالات الدم في الجارة الشمالية"، وتصف بشار الأسد بـقاتل شعبه وبالدكتاتور، إضافة إلى بعض التغطيات الإنسانية التي تتعلق بقضايا اللاجئين السوريين.
بينما يكاد يغيب الحدث السوري تماماً عن التغطية الإعلامية في إسرائيل خلال السنوات الأخيرة، فيما عدا الأخبار التي تتعلق بالتصعيد العسكري الذي تشنه تل أبيب على الوجود الإيراني في سوريا.
هذا التصعيد المشار إليه، يشغل حيزاً مهماً وتفرد له الصفحات والبرامج، المرئية والمسموعة والمكتوبة، للتغطية الإعلامية وتشبعه دراسة وتحليلاً، إضافة إلى الأخبار التي تتعلق بتنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش).
وجرت العادة لدى وسائل الإعلام العبرية بنقل أخبار الضربات الجوية التي ينفذها سلاح الجو الإسرائيلي ضد أهداف إيرانية في سوريا من الإعلام العربي، وتبدأ أخبارها وتغطياتها بالقول: "أفادت وسائل إعلام عربية أن إسرائيل نفذت هجوما..."، بسبب تكتم إسرائيل رسمياً على أعمالها العسكرية في أغلب الأحيان.
يشار إلى أن معظم وسائل الإعلام الإسرائيلية تتمتع بقوة تأثير داخل إسرائيل لما تتمتع به من استقلالية وممارسة دور حقيقي لـ "السلطة الرابعة"، إلا أن توجه معظمها لا يخرج عن المركزية الإسرائيلية في الارتباط مع التيار السائد والحاكم في إسرائيل (يمين ووسط)، المشبع بالصهيونية، فيما عدا بعض المؤسسات كصحيفة "هآرتس" التي تعتبر أكثر وسائل الإعلام ليبرالية في إسرائيل.
ما هي أبرز وسائل الإعلام الإسرائيلية؟
وفي تفصيل الخريطة الإعلامية في إسرائيل، تأتي أولا صحيفة "يديعوت أحرونوت" (ترجمة الاسم إلى العربية: آخر الأنباء)، مطبوعة يومية ولديها موقع إلكتروني باسم "واي نت Ynet"، من حيث اتساع الانتشار والأكثر تداولاً وتنتمي إلى تيار المركز (الوسط) ومعروف عنها أنها تنتقد سياسة نتنياهو بشدة، وإحدى قضايا فساد الأخير تتعلق باستمالة رئيس تحريرها.
ومن حيث الأهمية تأتي صحيفة "هآرتس" (الترجمة: الأرض) ثانياً، توجهها ليبرالي يساري، وهي أيضاً صحيفة يومية مطبوعة ولديها موقع إلكتروني، تنتقد بشدة التيار اليميني والمتدينين المتشددين (الحارديم).
ومن ثم صحيفة "معاريف" (الترجمة: المساء) وتعتبر قريبة من المؤسسة الأمنية، وصحيفة "يسرائيل هايوم" (الترجمة: إسرائيل اليوم) تصدر يومية مطبوعة ومجانية، قريبة من نتنياهو وتيار اليمين، وتعتبر من أحدث الصحف الإسرائيلية (أسست 2007).
أما وسائل الإعلام المرئية أشهرها "هيئة البث الإسرائيلية" والمعروفة اختصاراً بـ "كان"، تضم العديد من الوسائل وهي هيئة رسمية تمتع باستقلالية عن الحكومة، إضافة إلى العشرات من المواقع الإلكترونية، متعددة التوجهات، مثل موقع "واللا" وككاليست" وغيرها.
من جانب آخر هناك نشاط إعلامي إسرائيلي في الفضاء الإلكتروني موجه إلى الجمهور العربي، لتلميع صورة إسرائيل في أوساط الشباب العربي عبر استخدام منصات التواصل الاجتماعي، ويعتبر أحد أذرع ما يعرف بـ"الدبلوماسية الناعمة" وتشرف عليها الاستخبارات وشخصيات عسكرية، على سبيل المثال صفحة المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي "أفيخاي أدرعي" و"أيدي كوهين"، وهذا الأخير لا يعدو كونه سوى مروّج إشاعات وصاحب تصريحات محيرة ولا يتمتع بأي صفة رسمية ولا يحظى بشهرة داخل إسرائيل.
وتستثمر هذه المنصات لتكريس البروباغندا الإسرائيلية حالة عدم الاستقرار في المنطقة ومناظر شلالات الدم السورية للترويج لإسرائيل البيضاء في منطقة يعمها الخراب وتعوم على برك من الماء.
واقع جيوسياسي جديد.. ومحور جديد
يشهد الشرق الأوسط تغيراً ملحوظاً في خريطة التحالفات، خلال العقد الأخير، فالمنظومة القائمة منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، التي وزعت الدول العربية تحت جمهوريات عسكرية ديكتاتورية وأنظمة ملكية من دون أنياب، هذه الأنظمة طرأ عليها تغييرات وإن بدرجات متفاوتة نتيجة لارتدادات الربيع العربي، بعضها أصابه الانهيار الكامل وبعضها الآخر فضل الهروب إلى الأمام، هذا التغيير لم يكن إيجابياً بالمجمل ولا يمكن اعتباره سلبيا بالمطلق على المدى البعيد، إلا أن الثابت هو أن المنطقة بعد الربيع العربي لن تكون كما كانت قبله.
لم يطل التغيير بنى الدول العربية فحسب، وإنما خلق واقعا جديدا في المنطقة نتج عنه تغيير في موازين القوى وظهور محاور إقليمية جديدة وصعود قوى دولية استثمرت الصراع في الشرق الأوسط على حساب أخرى.
وبالنظر إلى خريطة النفوذ على الأرض السورية المقسمة إلى أربعة مناطق نفوذ بعد مضي تسع سنوات على الحرب السورية، يمكن الاستدلال على بعض ملامح المحاور الآخذة بالتشكل في المنطقة وحركتها صعوداً وهبوطاً. 60% بيد النظام الذي تقف وراءه روسيا وإيران، و25% بيد قسد في شمال شرقي سوريا بدعم مباشر من التحالف الدولي بقيادة واشنطن، و15% بيد المعارضة التي يغلب عليها الطابع الإسلامي في إدلب وأجزاء من ريفي حماة وحلب، ومناطق أخرى شمالي حلب وشريط ما بين تل أبيض ورأس العين على الحدود السورية التركية تحت سيطرة "الجيش الوطني" بدعم مباشر من أنقرة.
وبالنسبة لإسرائيل، التي بقيت بمنأى عن الاضطرابات الأمنية وحالة عدم الاستقرار التي يعيشها محيطها، لا تمتلك قوات على الأرض السورية (فيما عدا هضبة الجولان التي تحتلها منذ عام 1967)، ولم تقف إلى جانب أحد الأطراف المتنازعة على الأرض (النظام وقسد وهيئة تحرير الشام والجيش الوطني)، باستثناء المشاركة الجوية بتنفيذ غارات تستهدف الوجود الإيراني من منطلق "الحفاظ على أمنها القومي".
من الواضح أن إسرائيل من أكثر المستفيدين من الواقع الجديد، ولم تعد مضطرة للانسحاب من الجولان المحتل لإحراز "اتفاقية سلام" مع نظام الأسد، الذي قتل السوريين ودمر البلاد ورهنها للقوى والميليشيات الأجنبية.
ويصف نتنياهو هذا الواقع بأنه "عصر جديد" لإسرائيل، موضحاً بأنه "عصر السلام مقابل السلام" معلناً انتهاء مرحلة "السلام مقابل الأرض"، لا سيما بعد موجة التطبيع الحالية مع كل من الإمارات والبحرين والسودان ونية انضمام دول عربية أخرى.
وهدف تل أبيب من اتفاقيات التطبيع هو تحقيق "إنجازات تاريخية" لنيل "شرعية وجودها"، من خلال خلق شراكة مع دول عربية خليجية تخشى التهديد الإيراني، وتتشاطر مع تل أبيب الالتزام بعدم تعاظم قوة إيران وتدخلاتها في دول المنطقة.
وباتت المؤشرات واضحة على تبلور محور جديد في المنطقة تقوده إسرائيل بالتنسيق التام مع واشنطن، يسمى بالمحور "الإسرائيلي-السني" أو ما يعرف بالتحالف بين إسرائيل ودول الاعتدال العربية، لتضييق الخناق على المحور الذي تقوده إيران "محور الممانعة" الذي يضم كلا من نظام الأسد وحزب الله اللبناني، كما ويناصب العداء للدور التركي في المنطقة، عبر دعم "تيار الثورات المضادة" في مصر وليبيا ومحاولات التقرب من نظام الأسد لاستمالة روسيا الراغبة بتعويم الأسد.
.@SecPompeo: The UAE and Israel both recognize Iran as this great threat, so they have now found a way to build out a relationship which can build out a coalition to ultimately make sure that this threat never reaches American shores or harms anyone in the Middle East. pic.twitter.com/vHquOqSsqu
— Department of State (@StateDept) September 5, 2020
وتستند إسرائيل في تحركاتها ونسج تحالفاتها على دعم الولايات المتحدة الأميركية وخاصة في عهد ترامب، الصديق الحميم لنتنياهو ولليمين العنصري الإسرائيلي، وعلى التنسيق مع روسيا لضمان حياد بوتين.
وتجدر الإشارة إلى أن التنافس على الغاز الطبيعي في الشواطئ الشرقية للمتوسط، المكتشف حديثاً، يعتبر أحد أبرز الميادين التي ترسم خريطة التبدلات الجيوسياسية في المنطقة، ونجحت تل أبيب بدعم من ترامب على إرغام لبنان للموافقة على ترسيم الحدود البحرية، أي بموافقة ضمنية من حزب الله، وأنشأت تحالفاً مع اليونان وقبرص ونظام السيسي لمواجهة تركيا في الخلاف على حصص الغاز في المياه الاقتصادية للدول المتشاطئة، أما الحصة السورية يبدو أن بوتين يحاول وضع يده عليها.
إذاً، نحن أمام ثلاثة محاور إقليمية في المنطقة، منها القديم ومنها الآخذ بالتشكل، وهي "محور الممانعة" بقيادة طهران، و"المحور السني- الإسرائيلي" بقيادة تل أبيب، ومحور يضم تركيا وقطر وبعض تيارات الإسلام السياسي في العالم العربي بقيادة أنقرة.
وعلى خلاف واشنطن التي تدعم المحور الإسرائيلي دون غيره، تتفاوت درجة دعم موسكو لكل من هذه المحاور، التي تتصارع جميعها على الأرض السورية، ومصير الحرب السورية مرتبط بانتصار أحدها على الآخر.
بالمحصلة، لم تتأثر إسرائيل من الحرب السورية، التي لم تهدد أمنها القومي بالمعنى الفعلي، بل استثمرت حالة عدم الاستقرار هذه لتحقيق مكاسب حيوية وسياسية، فقد استفادت من خلق وضع إقليمي جديد يخدم موقعها الجيوسياسي في المنطقة، كما تخلصت من خوفها من الانسحاب من مرتفعات الجولان.
وإسرائيل اليوم أكثر من السابق، غير معنية بالحل النهائي للأزمة السورية، فلم تسعَ إلى تغيير مجرى الأحداث لطرف سوري دون غيره، ولا يهمها من يفوز، لأنها مستفيدة من حالة الجمود والاستعصاء، ومن مصلحتها إطالة أمد الأزمة في سوريا لحصد المكاسب الاستراتيجية.
وحصرت تركيزها على محاربة النفوذ الإيراني، وتحييد الروسي لعدم منعها من التحرك في الأجواء السورية بحرية لتقويض تمدد طهران إلى حدودها، مستفيدة من دعم مطلق من واشنطن والأجواء الإقليمية المضطربة والمناهضة للتوسع الإيراني.
وفي ظل هذه الأجواء رفعت إسرائيل مستوى محاربتها لإيران انطلاقاً من الأرض السورية من مجرد تدابير وقائية تمثلت باصطياد القوافل الإيرانية التي تحمل شحنات أسلحة لحزب الله إلى شبه شن حرب من طرفها ضد إيران من دون أي رد ملموس من قبل الأخيرة، ووصلت نيرانها وضرباتها الموجعة إلى قعر دار نظام الملالي كان آخرها عملية اغتيال العالم النووي محسن فخري زاده.
وتجدر الإشارة إلى أن إسرائيل لا تحارب إيران بسبب دعم الأخيرة للأسد، وبعبارة أخرى لا تحارب "إيران الأسدية" بل هدفها "إيران النووية"، وقد أتاحت ساحة الصراع السورية المتشابكة والمعقدة الفرصة لتل أبيب لتحقيق هذا الهدف الاستراتيجي.