في موسكو الثلج يجلد الغريب أو يتساقط عليه جمراً، وتتحول الطرقات إلى غول متوحش يلتهم الغرباء الذين يخافون من ظل معاطفهم، فكيف إذا كان الغريب شاباً قرويّا مرهف الأحاسيس قدم من هامش دائرة الأرض في عرف النخبوية التي كانت تقسم الأدباء بين فلاحين وارستقراطيين؟ فلا شيوعية موسكو وشعارات الاشتراكية ومحاربة الرأس مالية استطاعت أن تحجب ظلال القيصر عن شوارع المدينة وأبهة بيوتها وطراز أهلها.
هنا سيقضي الشاعر إبراهيم الجرادي محطته، الرابعة بعد الرقة ودمشق وبيروت، مغتربا عن ضجيج الأمس وخيام الحزن التي غطت المشرق العربي بعد نكسة حزيران.
كاكديلا.. خراشوف.. هذا المعجم البدائي الذي يحمله الجرادي عن المنفى الجديد لن يكون كافياً لفهم الحياة المجتمعية، فهي مختلفة تماما عن الخيال المتصور، وكأن ثورة الكادحين التي رسم ملامحهما مكسيم غوركي في رواية الحلم، ليست إلا مشهداً تمثيلياً على خشبة المسرح، وليس للمسرح إلا حيزه الضيق في قلاع الوهم،
قرر الجرادي مواجهة الواقع والشروع في دراسة الأدب المقارن والمسرح وانكب يلتهم كل ما كتبه الأدباء الروس، فبرع في أدب القوم وكتب وترجم وقارن حتى كأنه توءمٌ لأنطون تشيخوف، لكنه لم يستطع الانفكاك من جهة الجنوب فالحنين الغاضب العاتب دائماً يسكنه وشراع العيون يشده إلى الموطن الأول، حيث يقول في قصيدته كرنفالات التثاؤب:
مَنْ أعمى خطاياي؟
يا ضفافَ الوجدِ
ياصفصافةَ الحُلُمِ الممزقْ.
لبستني لغةُ الرعدِ
ولم تدخلْ همومي الجَسَدَ "البنكي" والمصْرفْ.
فلماذا أورثوني عَفَنَ الجرُحِ
وتأريخَ الظنونِ المُسْتباحَةْ.
ما بين حنجرتي وصوتي ألفُ ميلْ
ما بين رغبتهـم وصوتـي مقبرَةْ
ما بين فاجـعتي وبينـي فاصلـَةْ
ما بين ظلي والسحابةِ مقصلَةْ
نهاية ثمانينيات القرن الماضي كانت إيذاناً بدخول حقبة الاتحاد السوفييتي إلى غرف الموت السريري قبل إعلان وفاته رسمياً في الـ26 من ديسمبر/كانون الأول عام 1991. ويبدو أن الجرادي امتلأ حتى الثمالة من روسيا بكل طقوسها وتشرّب ألوانها المجتمعية إلا أنه لم يستطع استساغتها وكذلك لن يستطيع تقيؤها مستقبلاً، كما أن التغيرات السياسية والمنعطفات العالمية، دفعته للانسحاب بهدوء من دوامة روسيا، حاملاً معه خبرة وتجارب متراكمة..
اليمن.. المسرح ما قبل الأخير
عاد إبراهيم الجرادي إلى دمشق، فلم يجد فيها ما يهدئ اضطرابه وخصوصاً على صعيد العمل وعاش غربة داخلية أشد مما مضى، إلا أن حدثاً ما غير مجرى نهره؛ إلى أين؟
إلى اليمن، جامعة صنعاء تحديداً كانت بحاجة لأساتذة للتدريس فيها، وكان للجرادي نصيب ليدرس الأدب المقارن، مع مجموعة من الأساتذة السوريين والعرب، وللمصادفة كان رئيس الجامعة حينها الأديب والأستاذ اليمني عبد العزيز المقالح،
لم يقضِ الجرادي وقتا طويلا للتأقلم في صنعاء، فالأسماء عربية والطابع البدوي المتحضر ماثل فيها، كذلك كانت نفحات الاشتراكية تعانق جبالها الخضر الشاهقة، فكانت الظروف مواتية ليزيد الجرادي من إنتاجه الأدبي ويصل بتجربته الشعرية إلى مستويات عالية بوقت قصير.
وهناك، كتب قصائد ذات نزعة تجريبية بنمط غير مألوف يخلط بين الشعر النبطي والفصيح وبين النثر والتفعيلة، ومن ناحية المضمون، يلغي الفوارق بين أشكال التعبير دون أن يغرب تغريب أدونيس أو يباشر مباشرة أبو ريشة، فيقول في قصيدته كونشرتو للتعب:
أذكرُ حينَ لبسنا قمصانَ الغربَةْ
وتسللنا..
وتسَكعنا..
وتوسدنا أرصفةَ الآهْ
كان الليلُ يدثُّ حناناً
والبردُ صديقاً كان!
وأنا أهذرُ عن أشياءٍ لا تعنيك
قلتُ:
مفضوحٌ عِرْضُ العالم
في سُرْتِهِ تنمو أفعى
يَحْبل بالتخريب العلنيِّ وبالتهديد الأسودْ
زيارات متعددة لدمشق وللرقة أقل، ففي ذكرها غصة والاقتراب منها نزيف عاطفي لم يعد يقوى عليه الجرادي لطول ما نالت منه محطات الحياة، لكنه حين يعود إلى صنعاء يجد السلام الداخلي الذي يمنحه فرصة ليرتب أفكاره ويتفنن بالكتابة في فضاء يسبح فيه شعراء معاصرون له ويتقاطعون معه في تجاربهم الشعرية، وخاصة محمود درويش الذي كانت للجرادي صلة معه لا توجد الكثير من المعلومات عن طبيعتها إلا أن بينة قصائده كانت تدل على متانتها وإن كانت بعيدة عن الأضواء، فالجرادي يخجل من الضوء والضوضاء كالوردة التي تذبل خجلاً حين تمسها الأيدي.
نزل خبر وفاة محمود درويش على الجرادي كالصاعقة، التي فجرت ينابيع رثاء غزيرة في وجدان الجرادي، فكتب ديوانه محمود درويش ينهض:
الليلُ أعمىْ والصباحُ جنازةُ
والموتُ معتدلٌ هنا كالطقس
والأرضُ تحتملُ احتلالاً ثانياً
والِشعرُ يستوفي شروطَ عدوهِ.
هم يطلبونَ الآنَ
أن يستأثرَ الشعراءُ بالأطلال
أن يشتدَّ عودُ اليأسْ؟
لا بأسْ.
ستَظَلَ في خبزِ القصيدةِ مِلحَهُ
ونظلُّ في أنشودةِ الراعي وفي أسماءِ من غابوا وما عادوا
ومن قصيدة أخرى له في رثاء درويش كان يستشعر بأن ما يفصل بين نهاية محطتيهما عقد واحد لا أكثر:
سوف آتيك مرتجلاً حكمتي
ثم أفضحُ سرَّ العويل الطويل
وأمسك بالعابرين/ الأناثي
وبالعابرات/ الأثافي
وبالوطن المستحيل
دمشق نهاية الرحلة
كانت ثورات الربيع العربي منعطفا ليس في السياسة فقط بل في الحركة المجتمعية والأدبية والثقافية، شعوب تثور بشعارات جديدة وبلاد تفجرت بأهلها وجبالها وسهولها، وكان اليمن وسوريا جزءاً من هذا المنعطف، فلم تعد صنعاء التي تهدئ روع الجرادي ولا دمشق تستقبل أهلها، فوجد المرض فسحة في جسده وعض بأنيابه على ما تبقى فيه يحجب عنه ضوء الأفق، ويترك له المجال ليكتب آخر وصاياه:
إذا هاجرتَ أو هُجِّرتَ
فلتتركْ على الشباك أغنيةً
وفي الدنِّ الذي على الباب
اتركْ حفنةً من ماء
لعلَّ العابرَ الجوّال
يشربُها ويرتحلُ
إذا هاجرتَ أو هُجِّرتَ
لا تمشِ، بحق الله، لا تمشِ، على مَهَلٍ
ولا تنظر إلى الخلف
لأن الصوتَ خلفك راجفٌ مبحوحْ
ولا تبكِ، بحق اللهِ، لا تبكِ
لأن حمامةً سقطت، هنا في البئرِ،
أو نجماً هوى في الساحِ،
أو طفلاً تعثر في جحافلهم:
دواعشةٌ،
موآبيون،
فرسٌ قائمون على بلاغتهم
صواريخ الفتى المذعور
روس فاسدون ومثلهم روس
سلاجقة
مماليكٌ
بويهيون
أكرادٌ صليفيون
أعراب، كما الأعراب، سافلة وخائنة
وملعونون
* * *
تبارك بالتراب/ الدمِ واقرأ "سورة الرحمن"
لأن الله يمتحن الخليقةَ في فواجعها
وكنْ كَلِفاً بما تبغي:
على وتر العذاب يشدُّ ضلعكَ
صوتُ من غابوا
ومن رحلوا
ومن قُصفوا
ومن جاعوا
ومن عطشوا
ومن قُتلوا
التاسع والعشرون من شهر أيلول عام 2018 نزف الجرادي قافيته الأخيرة في تراب دمشقَ مودعاً جسداً حاضراً روحاً.